توزيع السكان والكثافة السكانيّة في بيروت

الفصل الثاني

استطاع الجيش اللبناني في المرحلة الأولى، من الإنتشار في بيروت وضواحيها بعد أن إنسحبت القوات اللبنانيّة من مناطق نفوذها في 3 كانون الأول 1990م، وبذلك سيطر الجيش في المرحلة الأولى على 450 كيلومتراً مربعاً من بيروت الكبرى.

وبنتيجة البحث يمكن إستنتاج الأمور التالية :

1.   كانت بيروت العُثمانيّة حتى عام 1774م تتكون من ستة آلاف نسمة يتمركزون داخل السور في حوالي ميل مربع يقومون بمختلف أنواع النشاطات الإقتصاديّة. بينما نرى أن الحال تبدل فيما بعد فقد توسعت بيروت وباتت بيروت الكبرى، في حين إقتصر النشاط في بيروت البلد ، المُركّز حتى عام 1975م على مختلف النشاطات الإقتصاديّة والمصرفيّة والتجاريّة والنشاطات المرتبطة بمرفأ بيروت والمؤسسات والشركات التجاريّة، مع وجود بعض الفنادق المتواضعة لذوي الطبقات الدنيا والعمال الغرباء في البلد.

2.   لقد كان توسع بيروت ونموها إنما مرتبط أساساً بعوامل محليّة وخارجيّة إقليميّة ودوليّة وهذه العوامل ارتبطت بعوامل إقتصاديّة وديموغرافيّة وإقتصاديّة وثقافيّة وإجتماعيّة وسياسيّة وعسكريّة. ولقد تبين أن أكثر من نصف المؤسسات الصناعيّة اللبنانيّة تتمركز في منطقة بيروت الكبرى، وفي الضواحي التي استأثرت بالمصانع وبالزيادة السكانيّة على السواء. كما تمركز في بيروت بالإضافة إلى المؤسسات الحكوميّة والرسميّة، ما يقارب 80 سفارة وقنصليّة وأكثر من 90% من المصارف والمحامين و82% من المهندسين و75% من الأطباء والممرضين و80% من الشركات التجاريّة بالإضافة إلى وكالات الأنباء الأجنبيّة وحوالي 96 صحيفة ومجلة وهو عدد ضخم لمجتمع لا يزيد سكانه على ثلاثة ملايين نسمة، وتتمركز في بيروت 90% من دور النشر حيث تغرق السوق اللبناني والعربي بأهم المصنفات العمليّة. بالإضافة إلى وجود عدد من الجامعات والكليات والمعاهد اللبنانيّة والأجنبيّة. كما أن بيروت هي المقر الرئيسي للأحزاب اللبنانيّة والحركات السياسيّة والأندية الثقافيّة.

3.   ساهمت سهولة المواصلات من ترامواي ثم أوتوبيس وسيارات خاصة ونقل عام في تكبير وتوسيع بيروت وضواحيها. كما ساهم مطار بئر حسن ثم مطار بيروت الدولي في تنمية حركة التوسع العُمراني والإقتصادي في بيروت.

4.   إن المتتبع لتاريخ بيروت الصغرى والكبرى يدرك التطور السكاني والجغرافي والعوامل المؤثرة في ذلك. التي سبق أن أشرنا إليه، فقد كان عدد سكان بيروت عام 1860م حوالي 46,000 نسمة وكانت مساحة بيروت 134 هكتاراً. ففي خلال مائة عام تقريباً أي في عام 1965م أصبح عدد سكان بيروت 450,000 نسمة، وزادت مساحة بيروت من 134 هكتاراً إلى 1770 هكتاراً . ويدرك الدارس لتاريخ نمو بيروت أن النمو السكاني ارتبط مباشرة بضرورة حتميّة لهذا النمو، وهو زيادة المؤسسات والخدمات العامة والخاصة، بما فيها تزايد الجبّانات والمدافن لمختلف الطوائف.

5.   منذ أوائل الستينات وأوائل السبعينات كانت الدوائر الرسميّة تدرس وتسعى لتنفيذ خطة لبيروت أكبر من الكبرى، أي أكبر من بيروت وضواحيها القريبة والملتصقة بها لتحقيق توازن بين بيروت وظهيرها، حتى أن البعض طرح في الستينات إقتراحاً يقضي بنقل مطار بيروت إلى وسط البقاع غير أن هذا الإقتراح ليس عمليّاً، وما هو عملي الإهتمام بمطار رياق ليصبح مطاراً مدنيّاً وتجاريّاً، أو على الأقل تحسين النقل بواسطة السكك الحديديّة من مرفأ بيروت إلى البقاع وجعل المنطقة منطقة تجمع لحركة تجارة الترانزيت بدلاً من بيروت. ويستند أصحاب هذا الرأي إلى مبرر الأقتصادي وسكاني وهو تخفيف أعباء بيروت التجاريّة وأعباء مرور الشاحنات، وإنشاء منطقة جذب سكاني وإقتصادي من سهل البقاع الرحيب بالقياس إلى سهل بيروت المحدود. ورأى البعض أن تخفيف الضغط السكاني من بيروت إنما يتمّ بواسطة الإهتمام بمرافئ طرابلس وجونيه وسلعاتا والجيّة وصيدا وصور، والإهتمام بتقديم مختلف الخدمات العامة والخاصة للمواطنين.

 

ولكن ما هي الأسباب الكامنة وراء مشروع بيروت الكبرى في الستينيات ؟

في الواقع، فإن الأسباب في الستينات هي غيرها في التسعينيات ولنبدأ دراسة بعض الجوانب في هذا الموضوع :

1.   بدأ الرئيس كميل شمعون 1952-1958م بوضع اللبنة الأولى في مشروع بيروت الكبرى، وذلك للقضاء على خصومه السياسيين وإذابتهم في مناطق غريبة عنهم وعن نفوذهم السياسي. وبدأ الخطوة الأولى بجعل الدوائر الإنتخابيّة في بيروت دائرة إنتخابيّة واحدة عام 1957م. وقد استطاع بالفعل نتيجة للواقع الديموغرافي والطائفي اسقاط المعارضة في الإنتخابات النيابيّة.

2.   في عام 1959م طالب كمال جنبلاط بإصلاحات عديدة في الدولة اللبنانيّة، وقد تحقق الكثير منها في حينه، ورأى أنه لا بد من تطبيق اللامركزيّة الإنمائيّة لإنماء المناطق اللبنانيّة، لأن بيروت كانت لا تزال تستأثر بمختلف الإهتمامات. ووضع اللوم على كميل شمعون لأنه أنفق إثني عشر مليون ليرة لبنانيّة لبناء المدينة الرياضيّة في العاصمة، بينما معظم اللبنانيين لا يتمكنون من تأمين مياه للشرب، كما أن معظم المناطق االلبنانيّة تئن من وطأة التخلّف والجهل. لذلك طالب بتوسيع بيروت الإداريّة حتى تستفيد الضواحي والمناطق المحيطة بالعاصمة من مختلف الخدمات وميزانية الدولة بشكل عادل.

3.   في عام 1961م أعد كمال جنبلاط حين كان وزيراً للتصميم العام، أعد مرسوماً يتضمن توسيع بيروت وجعلها بيروت الكبرى. ووقّع على المرسوم وقتذاك رئيس الوزراء صائب سلام ووزير الداخليّة عبد الله المشنوق ووزير التصميم العام كمال جنبلاط. ثم صدر موقّعاً من رئيس الجمهوريّة فؤاد شهاب في 14 تموز عام 1961م تحت عنوان بيروت الكبرى، وقد ضمت وقتذاك 75 بلدة وقرية. وحمل المرسوم الرقم 7110 تحت عنوان (إحداث وحدة جغرافيّة من مدينة بيروت وضواحيها تدعى بيروت الكبرى) والأمر الملاحظ أن بعض القوى السياسيّة في بيروت الوطنيّة بقيادة المناضل رشيد شهاب الدين قائد ثورة 1958م، رفض وقتذاك بيروت الكبرى، ووزعت منشورات معادية للحكومة في شوارع العاصمة. ثم قابل وفد من هذه القوى الرئيس صائب سلام والوزيرين جنبلاط والمشنوق، وأبدى الوفد وجهة نظره السياسيّة في هذا الموضوع. ثم قابل الوفد رئيس الجمهوريّة فؤاد شهاب (1958-1964م) وأوضحوا له معارضتهم لتنفيذ مرسوم بيروت الكبرى وقالوا له : (هذه خطة سياسيّة تهدف إلى تغيير طابع بيروت التاريخي والسياسي والديموغرافي بأساليب طائفيّة، وذلك بإدخال بلدات وقرى عديدة بعيدة عن العاصمة، ويمكن لهذا الأمر أن يخل بالتوازن السياسي وبالتركيبة الديموغرافيّة للسكان) وأضاف الوفد : (أن أهل بيروت مع الأهداف السياسية لتنمية المناطق اللبنانيّة الأخرى، ولكن تنمية المناطق يمكن أن يتم بواسطة أساليب أخرى عديدة، وأن هناك تخوفاً سياسيّاً من توسيع بيروت). وقد تجاوب الحكم وقتذاك مع هذه الأفكار وذلك بعد مضي حوالى خمسة شهور، وعُدّل المرسوم في عهد حكومة الرئيس رشيد كرامي، وصدر مرسوم جديد بتاريخ 5 كانون الأول عام 1961م يحمل الرقم 8159 موقّعاً من رئيس الجمهوريّة فؤاد شهاب ورئيس الوزراء الجديد رشيد كرامي ووزير الداخليّة كمال جنبلاط ووزير التصميم العام عثمان الدنا. وتضمن المرسوم الجديد استبدال لفظ (بيروت الكبرى) بلفظ (بيروت وضواحيها). ووضع الحكم وقتذاك مشروعات عديدة لتنمية المناطق المحيطة ببيروت والمناطق اللبنانيّة الأخرى.

4.   بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، وبعد تجدد الصراع بين الرئيس كميل شمعون والمعارضة بسبب سياسته المعادية للعرب اتخذ شمعون قراراً بنقل مقر الرئاسة الأولى إلى بعبدا، والبدء ببناء قصر فيها.  وبعد قيام ثورة عام 1958م ضد الرئيس كميل شمعون، تبيّن بأن الأخطار كانت محدقة برئيس الجمهوريّة وبأعضاء الحكومة الموالين له، وذلك لوجود القصر الجمهوري في منطقة القنطاري ببيروت الغربيّة. وقد اتخذ قراراً منذ عام 1956م ببناء قصر جمهوري في بعبدا، فتكرس هذا القرار عام 1958م.