توزيع السكان والكثافة السكانيّة في بيروت    

الفصل الثالث والأخير

بعد إنتهاء ثورة عام 1958م، شعر الحكم بضرورة نقل مقر الرئاسة الأولى من بيروت الوطنيّة. فأقام الرئيس فؤاد شهاب شتاءً في الذوق وصيفاً في عجلتون، واستكملت في عهده المشروعات لبناء قصر جمهوري في بعبدا. وبالرغم من أن الرئيس شارل حلو (1964-1970م) إنتقل من قصر سن الفيل إلى قصر بعبدا بعد أن أنجز بناؤه. ولما كان الدستور اللبناني ينص صراحة على أن بيروت العاصمة هي المقر الرئيسي لرئيس الجمهوريّة وللحكم. ولما كانت بعبدا خارج نطاق بيروت. وهي تتبع جبل لبنان وهي عاصمته التاريخيّة، كان لا بد للحكم من أن يعمل بشكل أو بآخر على تكريس نقل الرئاسة من بيروت التاريخيّة إلى بعبدا، وذلك بإصدار المراسيم الهادفة إلى تكبير بيروت وضمّ بعبدا والضواحي إليها، وذلك بهدف حماية الرئاسة الأولى من الضغوط الوطنيّة، والعمل على إقامتها في بيئتها السياسيّة. وقد تبين صحة وجهة نظر الحكم لا سيما في فترة الأحداث اللبنانيّة حيت توالى الإقامة في بعبدا بعد الرئيس شارل حلو كل من الرؤساء:

· سليمان فرنجيّة (1970-1976)

· إلياس سركيس (1976-1982)

· أمين الجميّل (1982-1988)

أما الرئيس إلياس الهرواي فإنه لم يتمكن في سنواته الأولى من الإقامة في قصر بعبدا بسبب سيطرة ميشال عون عليه في الفترة (1988-1990) ، وبعد أن أزيح في 13 تشرين الأول 1990م من القصر بعمليّة عسكرية واسعة النطاق حيث تهدم معظم أجنحة القصر، والتجاء عون إلى السفارة الفرنسيّة ومن ثم اللجوء السياسي في فرنسا، فقد تقرر ترميمه وتجديده ليتسنى لرئيس الجمهوريّة السكن فيه، وقد إنتقل فيما بعد عام 1992م من محلة الرملة البيضاء إلى بعبدا وحتى عام 1998م. ولكن ما ينبغي الإشارة إليه أنه نظراً لأهمية موقع القصر الرئاسي، فقد سبق مجلس الوزراء أن إتخذ قراراً في تشرين الأول 1990م بإنشاء قصر الرئاسة وقصر رئاسة الوزراء في منطقة حرج بيروت وتحديداً مكان ميدان سباق الخيل، غير أن استقرار الأوضاع السياسيّة والأمنيّة جعل الدولة تعيد النظر في قرارتها السابقة.

1.  أعلنت بيروت الكبرى في عهد الحكومة الثانية للرئيس شفيق الوزان(-84/82-م). وقد كان لهذا الإعلان في حينه إيجابيات سياسيّة وأمنيّة. فقد حاول الجيش الإسرائيلي الدخول إلى سن الفيل في شباط 1983م، وكانت سن الفيل في نطاق بيروت الكبرى، وكان الإتفاق مع الإسرائيليين بالإنسحاب من بيروت الكبرى وبالتالي منع دخولهم إليها وإلى ضواحيها. فما كان من أحد الضباط اللبنانيين المولجين بمسؤولية أمن سن الفيل إلا أن منع تقدم الجيش الإسرائيلي. وبدأت المفاوضات بين الحكومة وبين الموفد الأميركي فيليب حبيب، الأمر الذي أدى أخيراً إلى إنسحاب الإسرائيليين تبعاً لجغرافية بيروت الكبرى المتفق عليها.

 

وبعد ما هي الأسباب والأهداف وراء بيروت الكبرى في التسعينيات ؟

سبق أن اشرنا إلى أن الظروف التي أحاطت بمشروعات بيروت الكبرى في الستينيات والسبعينيات هي غير ظروف التسعينات. ولا شك بأن الأحداث اللبنانيّة 1975-1990م، وما أفرزته من إنهيار لبنان على مختلف الصعد السياسيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة والثقافيّة والعسكريّة، هي الأسباب المباشرة لوضع مشروعات إعادة بناء الدولة بأساليب عديدة منها مشروع بيروت الكبرى. فلا يعقل والدولة ما تزال خارجة من حرب مدمرة أن تتولى مباشرة كل مسؤولية أمن الأراضي اللبنانيّة، وذلك نتيجة لتفكك عوامل قوتها خلال خمسة عشر عاماً. لذا كان لا بد من تنفيذ بنود إتفاق الطائف خطوة خطوة على مسيرة الدولة القويّة والعادلة.

 

وكان لا بد أيضاً من فرض سلطة الدولة اللبنانيّة على بيروت الكبرى كنموذج أساسي وهام كتجربة على قدرتها للإضطلاع بمسؤولياتها الأمنيّة والسياسيّة في المستقبل في لبنان الكبير.

 

وكان لا بد من توحيد العاصمة والضواحي بعد أن قسمت شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، وتولت الميليشيات السيطرة على أجزائها وأقسامها ومقدراتها. ثم أن نجاح خطة توحيد بيروت تؤكد على فشل مشروعات تقسيم بيروت بل وتقسيم لبنان. وأهمية هذا التوحيد هو أنه مقدمة لتوحيد لبنان.

 

ولا بد من الإشارة إلى أن القضاء على التمرد في 13 تشرين الأول عام 1990م، وتنفيذ بيروت الكبرى، أدى إلى توحيد الجيش في عاصمة موحدة، بعد أن كان الجيش طوائف وأحزاب. ثم أن نجاح الجيش في بيروت الكبرى، سيؤهله وسيمنحه الثقة لتولي أمن مناطق أخرى خارج العاصمة.

 

ومن الأهميّة بمكان القول، أنه لا يمكن توحيد لبنان قبل توحيد العاصمة، وقبل إعادة العاصمة إلى الدولة. فاللبناني يحتاج إلى عاصمة، والعاصمة تحتاج إلى من ينتمي إليها. فيبروت هي قاعدة الإنتماء الوطني، وقاعدة العيش المشترك.

 

لقد بدأت المؤامرة على لبنان بالقضاء على عاصمته، فبدأ التدمير والتقسيم في باطن بيروت حيث التلاقي والعيش المشترك ومركز الإقتصاد الوطني.

 

والحقيقة فإن بيروت العاصمة لم تتحول إلى عواصم للميليشيات، والجامعة اللبنانيّة لم تتحول إلى إدارات، ولم يتحول السوق اللبناني إلى أسواق، إلا بعد أن مُزقت العاصمة وقُسمت، وتحولت إلى مناطق وأزقة وشوارع داخليّة، فالعاصمة بما تعني من معان سياسيّة ووطنيّة ضرورة حتميّة لإعادة توحيد لبنان. ومنذ دخول فرنسا إلى لبنان عام 1918م وعت السلطات الفرنسيّة أهمية بيروت. ومما جاء في أحد التقارير الدبلوماسيّة الفرنسيّة في عام 1920م: (إن فصل بيروت عن لبنان التي هي عاصمته يعني الحكم على هذا البلد بموت محتوم).

 

ومهما يكن من أمر فإن بيروت العُثمانيّة بدأت تكبر وتكبر منذ أكثر من مائة عام. ومشروع بيروت الكبرى الممتد من نهر الدامور حتى نهر الكلب وشرقاً عاليه ومناطق الجبل فالمصنع الذي وضع لينفّذ في تشرين الثاني عام 1990م، وهو أوسع وأكثر شموليّة من مشروع بيروت الكبرى الذي طرح في أواخر السبعينات.

 

والحقيقة فقد ثبت نجاح هذا المشروع وثبتت خطواته، مما أدى إلى إخلال بالتوازنات السكانيّة التقليديّة، وتغيرات في البنية السياسيّة والإنتخابيّة، وتبدل في التحالفات السياسيّة التقليديّة، غير أنه لم يكن مقدمة عمليّة لذوبان بيروت التاريخيّة في بيروت الكبرى، بيروت العاملة لصهر جميع اللبنانيين في بوتقة وطنيّة واحدة. ولا بد من الإشارة إلى أن مشروع بيروت الكبرى عام 1990م لم يكن في حقيقته سوى مشروع أمني مؤقت لمرحلة سياسيّة، تعد فيه الدولة قدراتها العسكريّة والسياسيّة والأمنيّة، لتوطيد سلطتها على الأراضي اللبنانيّة كافة.

 

أما فيما يختص بالإنتخابات النيابيّة التي جرت في بيروت عامي 1992و1996وعام2000م فقد جرت على أساس بيروت التاريخيّة محافظة واحدة، وليس لها علاقة ببيروت الكبرى باستثناء بعض ضواحي بيروت الجنوبيّة. وقد أدت هذه الإنتخابات إلى تغيرات أساسيّة في التحالفات السياسيّة والطائفيّة، كما أن عامل نقل قيود هويات الآلاف ممن هم ليسوا من بيروت إلى محافظة بيروت قد بدأت تؤثر في الواقع السياسي والديموغرافي، مما يعكس أوضاعاً جديدة تؤثر في هوية بيروت وقرارها السياسي. أما إنتخابات عام 2000م فقد جرت على أساس بيروت ثلاث دوائر إنتخابيّة، كما كانت عليه من قبل ، رغم إرادة البيارتة.