الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأَوزاعي

الفصل الأول 

 

يلاحظ أن الإمام الأَوزاعي تفوق علميّاً وفقهيّاً وجرأة على كثير من علماء عصره، وقد أفتى وهو في الثالثة عشرة من عمره في مسائل فقهيّة، بينما أَفتى وهو في السابعة عشرة من عمره في مسائل عقديّة. واستطاع في حضرة الخليفة هشام بن عبد الملك مناظرة (القدري) والتفوق عليه، بل أَفتى بقطع رقبة فقطعها الخليفة فوراً، في حين لم يستطع حسان بن عطيّة شيخ الإمام الأَوزاعي من مواجهة (القدري) أو إصدار فتوى بقطع رأسه. بالإضافة إلى ذلك فقد كان الإمام الأَوزاعي محدثاً وحافظاً للأحاديث النبويّة الشريفة بشكل مميز.

 

وكان الإمام الأَوزاعي مؤمناً أشد الإيمان بالقاعدة الإسلاميّة (الرحلة في طلب العلم)، لذا تنقل في مدن الشام وفي اليمامة والبصرة والمدينة المنورة وبيت المقدس، وحج أكثر من مرة، لذلك فقد تعمق الإمام في العلوم الدينيّة والشرعيّة بشكل لافت للنظر، وبات مفتيّاً من أهم مفتي الإسلام. وقد روى الرازي بسنده عن إبن المديني قال : (نظرت فإذا الإسناد يدور على ستة :

1.   الزهري

2.   عمرو بن دينار

3.   قتادة

4.   يحيى بن أبي كثير

5.  أبو أسحق الهمداني

6.   الأعمش

ثم صار علم هؤلاء الستة من أهل الشام إلى عبد الرحمن عمرو الأَوزاعي).

وقال الإمام الشافعي : (ما رأيت رجلاً أشبهُ فقهاً بحديثه من الأَوزاعي). وأشار إبن عساكر في تاريخه : (أول ما سئل الأَوزاعي عن الفقه سنة ثلاث عشرة ومائة، وهو يومئذ إبن خمس وعشرين سنة، ثم لم يزل يفتي بعد ذلك بقية عمره إلى أن توفي رحمه الله). وقال الإمام النووي إن الشيرازي ذكر في (طبقات الفقهاء) أن الأَوزاعي سئل عن الفقه ـ يعني إستفتى ـ وله ثلاث عشرة سنة. والفتاوى التي أصدرها كانت بدافع ديني متطوعاً في خدمة الإسلام والمسلمين إلى أن تولى الإفتاء في دمشق بعد عام 136هـ ، سرعان ما ترك هذا المنصب وعاد إلى بيروت مرابطاً مجاهداً . وبالرغم من أن الإمام الأَوزاعي كان حريصاً على دراسة الفتاوى دراسة معمقة غير أنه أفتى في حياته ما يقارب سبعين ألف مسألة في شتى مجالات وأنواع الفُتيا. وقد أشار عمرو بن أبي سلمة أنه قال للإمام الأَوزاعي : (يا أبا عمرو أنا ألزمك منذ أربعة أيام ولم أسمع منك إلا ثلاثين حديثاً. قال : وتستقل ثلاثين حديثاً في أربعة أيام! لقد سار جابر بن عبد الله إلى مصر واشترى راحلة فركبها حتى سأل عقبة بن عامر عن حديث واحد وإنصرف إلى المدينة، وأنت تستقل ثلاثين حديثاً في أربعة أيام).

أما فيما يختص بالقضاء فقد رفض الإمام الأَوزاعي منصب القضاء في العهدين الأموي والعباسي. فلما ولي زمن يزيد بن الوليد جلس مجلساً واحداً ثم إستعفى. وفي العهد العباسي حاول عبد الله بن علي توليته القضاء فاعتذر الأَوزاعي. وفي رواية للذهبي في (سير أعلام النبلاء) قال : قال عقبة بن علقمة البيروتي : أرادوا الأَوزاعي على القضاء فامتنع وأبى فتركوه) .

وكان يرى الإمام الأَوزاعي أن القضاء مسؤولية إسلاميّة ضخمة لا يمكن لأي إنسان أن يتحمل وزر مسؤوليتها. وقد روى إبن عساكر عن عقبة بن علقمة البيروتي قال : (أرادوا الأَوزاعي على القضاء فامتنع وأبى فتركوه. فقلت لعقبة : هم كانوا يكرهون الناس على ما يريدون فكيف لم يكرهوا الأَوزاعي ؟ فقال : هيهات أنه كان في أنفسهم أعظم قدراً من ذلك).

هذا وقد أجمع العلماء على علم الإمام الأَوزاعي وسعة مداركه وفقهه، وقد روى أبو محمد الرازي عن الإمام أحمد بن حنبل (رضي الله عنه) قال : (دخل سفيان الثوري والأَوزاعي على مالك فلما خرجا قال مالك : أحدهما أكثر علماً من صاحبه ولا يصلح للإمامة والآخر يصلح للإمامة. قال أبو محمد : يعني الأَوزاعي).

وروى إبن عساكر في (تاريخ دمشق) عن يحيى بن سعيد القطان عن مالك بن أنس قال : (إجتمع عندي الأَوزاعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة. فقلت : فأيهم وجدته أكثر علماً ؟ قال : أرجحهم الأَوزاعي).

 

وروى أبو محمد الرازي بسنده عن عون بن حكيم قال : (خرجت مع الأَوزاعي حاجاً فلما أتينا المدينة أتى الأَوزاعي المسجد، وبلغ مالكاً مَقدمهُ، فأتاه فسلّم عليه فجلسا من بعد صلاة الظهر يتذكران العلم فلم يذكر باباً من أبوابه إلا غلب الأَوزاعي عليه فيه. ثم حضرت صلاة العصر فصليا ثم جلسا وعاودا المذاكرة كل ذلك يغلب عليه الأَوزاعي فيما يتذاكران...).

 

والحقيقة فأن العلماء حرصوا على تقدير الإمام الأَوزاعي، والاعتراف بعلمه وفضله واحترامه. ولم يرَ سفيان الثوري غضاضة من أن يمسك في مكة المكرمة بزمام ناقة الأَوزاعي ويعبر بها بين الناس، ويقودها الأَوزاعي عليها بين الصفا والمروة. كما حرص الإمام مالك على تكريم الإمام الأَوزاعي عندما اجتمعا في موسم الحج. وقد روى إبن كثير في (البداية والنهاية) عن سفيان بن عيينة قال : (كان الأَوزاعي إمام أهل زمانه، وقد حجّ مرة فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله ومالك بن أنس يسوق به والثوري يقول : (أَفسِحوا للشيخ، حتى أجلساه عند الكعبة وجلسا بين يديه يأخذان عنه). وروى إبن عساكر بسنده عن إسحق الغزاري قال : (لو كان الأَوزاعي في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم لكان فيهم وسط. قال المرجي : فأخبرني أَبي فقال : بل هو عندي كان يكون من أكبرهم).

 

هذا وقد عظَّمه الكثير من العلماء امتدحوه مدحاً يؤكد على تبوأه المرتبة الأولى بين علماء عصره ومن بعد عصره. ومن هؤلاء الإمام الشافعي وأبي زرعة الدمشقي وإبن عيينة وأبي أسحق الغزاوي وإبن مهدي وإسماعيل بن عيّاش وسعيد بن بشير ومحمد بن سعد وأبي نعيم الأصفهاني وغيرهم كثير.

 

ومما قاله الذهبي في (تذكرة الحفاظ) قال : (قال الحاكم : الأَوزاعي إمام عصره عموماً وإمام أهل الشام خصوصاً). وروى أبو زرعة الدمشقي عن محمد بن حِميرَ قال : (سمعت أبا أسحق الغزاوي يقول :(لو قيل لي: إختر للأمة لاخترت الأَوزاعي). وروى إبن عساكر عن علي بن بكّار مثل هذا القول. وقال الرازي بسنده عن عبيد الله بن سعيد قال : سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : كان الأَوزاعي إماماً في السُّنة). وروى القاسم بن سلام قال : (أخبرني عبد الرحمن بن مهدي قال : ما كان بالشام أحدٌ أعلم بالسُّنة من الأَوزاعي).