الأب ريكاردونا 

 

في حدود بداية العقد الرابع من القرن العشرين، وبالتحديد سنة 1831م حضرت إلى بيروت بعثة يسوعيّة في مهمة دينيّة، كان من بين أعضائها الأب ريكارونا الذي انتهز فرصة وجوده في هذه المدينة فبعث إلى رؤسائه الروحيين في أوروبا برسالة يشرح لهم فيها تفاصيل إقامته لأول مرة في ربوع الشرق، خاصاً مدينة بيروت بالذات بصورة قلميّة من عمرانها وسكانها. ونحن ننقل هذه الصورة لما فيها من طرافة تدينها من حكايات الأساطير القديمة.

 

قال ريكاردونا : ... إنه يطول الشرح إذا أردتُ أن أُخبركم بكل ما لفت نظرنا من الغرائب عند وصولنا إلى هذا العالم الجديد : طبيعة شائقة وسماء متلألئة وهواء نقي، ومناخ لطيف وأراض بور تغطيها الرمال، وبيوت صغيرة تكاد لا ترتفع عن سطح البحر لا شوارع بل أزقة تكاد لا تصح إلا لمرور الجمال .... هذه هي بيروت، أما السكان، فيظهرون بالأردية الواسعة الغامقة الألوان، وبالعمائم الفخمة والزنانير العريضة، والغلايين المتدلية حتى الأرض وبالكثير من الشرائب والشرائط والأقراط المتعلقة بالآذان(؟) والأنوف والشعر، ثم بالخناجر والغدّارات (المسدسات) وهم يحلقون شعور رؤوسهم إلا خصلة من الشعر في قمة الرأس يتركونها تطول جداً وكذلك يطلقون لحاهم وشواربهم التي تلفت الأنظار. وهم أبداً عارو السيقان والأقدام حتى الأغنياء منهم.

 

وفي البلاد كثير من الخيل والجمال ولكنا لم نصادف مركبة واحدة ولا عجلة حتى ولا دولاباً ! ...

ومن عادات أهل بيروت الإجتماعيّة كتب ريكاردونا واصفاً تصرفات عائلة نصر الله التي استضافته وزملاءه بدارها التي كانت قائمة خلف كنيسة مار جرجس للموارنة فيما يحاذي سوق أبو النصر، ويتحدث عن زواره في تلك المناسبة فيقول: (... وأذاع صاحب الدار، هذا السيد الفاضل على جيرانه ومعارفه أن اليسوعيين عادوا إلى الشرق، ودعا إلى منزله عدداً من الكاثوليك، ومن مختلف الطوائف، أما نحن فكنا طبقاً لما أُلقي علينا من التعليمات، ننتبه كل الإنتباه لما يقوم به هؤلاء الزائرون من واجبات كي نقلدهم بدورنا على أحسن ما يمكننا، فكانوا جميعاً دون أن يضعوا عمائمهم، يجعلون يدهم اليمنى على ركبتهم، فعلى صدورهم، فعلى فمهم، فعلى جبينهم، وينحنون حتى الأرض تقريباً. وهذه هي طريقة التحية عندهم، ثم كانوا يجلسون القرفصاء مشبكين سيقانهم على السجاد الدمشقي المفروشة به الردهة).