عائلات بيروت وعاداتها وتقاليدها من خلال الرحالة المصري  

 

الشيخ محمد عبد الجواد القاياتي

أصبحت بيروت منذ قرون عديدة موئلاً للمظلومين والمضطهدين، ومتنفساً وملاذاً للعديد من أبناء الشام ومصر والمغرب ومناطق عديدة داخل الدولة العُثمانيّة وخارجها، فبعد ثورة أحمد عرابي في مصر عام 1882م وسيطرة الإنجليز على مصر، هاجر الكثير من المصريين إلى بيروت وبلاد الشام هرباً من ظلم وتعسف الإنجليز وتخوفاً من حكمهم على البلاد والعباد. وممن وصل إلى بيروت منفيّاً في تلك الأثناء الشيخ محمد عبد الجواد القاياتي أحد علماء مصر البارزين في تلك الفترة الذي كتب مذكراته خلال إقامته في بيروت وبلاد الشام، وقد صدرت المذكرات بعد ذلك في كتاب (نفحة البشام في رحلة الشام) حيث ضمنّه الكثير من المعلومات الاجتماعيّة والإقتصاديّة والثقافيّة عن بيروت بعد إقامته فيها وفي الشام استمرت ثلاث سنوات ونصف السنة .

منظر عام لبيروت القديمة

عند وصول الباخرة إلى بيروت قادمة من بور سعيد فيافا ثم حيفا، نزل الشيخ القاياتي في مرفأ بيروت فأقام فترة قليلة في خان السيّد، ثم إنتقل إلى منزل لآل القبّاني في زقاق البلاط بالقرب من منزل عبد الفتاح أغا حمادة. وقد إجتمع في الأيام الأولى بالشيخ أحمد أفندي القبّاني وبالحاج سعد أفندي حمادة وأخيه رئيس بلدية بيروت محيي الدين حمادة ولدا المرحوم عبد الفتاح آغا. وإجتمع أيضاً بالحاج عبد الله بيهم وكان عمره يزيد عن الثمانين وبحفيده عزتلو حسن أفندي بيهم، ومنهم الحاج محيي الدين أفندي بيهم رئيس بلدية بيروت السابق، ثم أقام فيما بعد في حارة الشيخ صالح طبارة، ثم إنتقل إلى دار العرقجي في زقاق البلاط.

ويقول الشيخ القاياتي : (... وممن إجتمعنا به في تلك المدينة من أكابر العلماء وأفاضل الأدباء حضرة الأستاذ الكبير ...الشيخ يُوسُف أفندي الأسير، أصله من مدينة صيدا، توجه إلى مصر لكلب العلم في الأزهر، ومنهم العالم الفاضل الشيخ إبراهيم أفندي الأحدب الذي إذا نظم الشعر أغرب وإذا نثر الكلام أعجب ... ومنهم السيد الهمام والشهم المقدام ... الأستاذ الشيخ عبد الرحمن أفندي النحاس بيروتي الأصل والفرع والإقامة، تولى بجامعها الكبير وظيفتي الخطابة والإمامة... وهو أيضاً نقيب السادة الأشراف من سلالة آل عبد مناف ... ومنهم صديقنا الشيخ عبد الله أفندي البنداق، وهو من الجزائر أسكندري ، بيروتي المولد... ومنهم مفتي هذه المدينة، ومالك زمام الفتوى بها حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الباسط أفندي الفاخوري، الطرابلسي الأصل صاحب العلم والفضل، تلميذ الشيخ محمد الحوت البيروتي والشيخ عبد الله خالد ... ) .

وحول إنطباعاته عن أهل بيروت وعاداتهم وأوصافهم قال الشيخ القاياتي : (أعلم أن هذه المدينة المتيننة من أعظم المدن الشاميّة والمراسي الساحليّة، عالية المباني كاملة المعاني، عمارتها من داخل السور غالبها من قديم الدهور، وأما البناء الجديد في خارجه فهو على طراز جديدة وإتقان وتشييد موضوع على أعلاه القرميد وفي أطوافه الشبابيك من الحديد.... ومن جملة اعتنائهم بالمباني الرفيعة والمنازل البديعة، أنهم يحضرونه لها الأعمدة والبلاط من الرخام ويضعونه في أرضها وحيطانها بغاية الأحكام...) .

ثم مدح الشيخ القاياتي أهل بيروت عندما وصف جدّهم ونشاطهم من أجل تأمين معاشهم وحياتهم (والله لأشكر صنيع أهل ههذه البلاد في السهر على إتخاذ الوسائل للمعيشة والإستعداد لا يترك صغيرهم ولا كبيرهم النبش في الأرض ... فربما لا يحتاج غالب سكانها إلى كثير من الخضرة النازلة إلى الأسواق من ضواحي المدينة أو من جبل لبنان ... ولاإشتغال أهل هذه المدينة بأشغالهم التجاريّة من الصباح إلى المساء ما بين كونه في دكان أو حاصل يبيع ويشتري، أو في المينا يستخرج بضاعته المجلوبة إليه من أوروبا أو بلاد أخرى ... فليس لهم وقت فراغ فلا تراهم يكثرون من السهرات الليليّة في الحظوظ والشهوات النفسيّة ... وبالجملة فبيروت مدينة إسلاميّة ديناً وغيرة وحميّة، أوروباوية نظاماً وبناء وحربيّة، فانهم مع كثرة مخالطتهم لغير أهل دينهم من وطنيين وأجانب في غاية الصلابة والتحفظ على شعائر الدين. ولم يقلدوهم في طول مدة العشرة إلا في مراعاة القوانين والنظام في المرافعات والمدافعات والمباني المشيّدة البهجة، والطرقات والأسواق المنفرجة، وفيها غاية السهولة في تناول البضاعات التجاريّة والتحارير والرسائل بواسطة البوستات والوابورات الأجنبيّة، فالسفارة فيها والأخبار يوميّة لا كغيرها من البلاد السوريّة، فهذه مزية لها وأي مزيّة).

ساحة عصّور

وأشار الشيخ محمد عبد الجواد القاياتي إلى ملبس أهل بيروت في أواخر القرن التاسع عشر، فأشار إلى أن الرجل يلبس الطربوش الإفرنجي والسترة والبنطلون ويحلق لحيته ويبقي شعر رأسه، وقسم آخر يلبس الخنباز وفوقه المضربيّة أو السترة الطويلة المضّربة بالصوف أو القطن. ويلبس الرجل اللاستيك الجزمة. وأما الصرمة فقليل من يلبسها من الناس إلا الفقراء جداً. وقسم يلبس البدلة العُثمانيّة القديمة وهي : الدمير والشروال الواسع الكبير، وعلى رأسه الطربوش الإسكندراني بالزر الكبير.

أما النساء، فقسم يلبسن الإزار الـبيض الناصع أو الملاءة الحرير الحمراء أو الخضراء أو الصفراء أو الزرقاء، وعلى وجوههن المناديل الرقيقة الاسلامبولي، وفي أرجلهن اللاستيكات الجزم الإفرنجي، ولا يظهرن من أبدانهن شيئاً وهن نساء المسلمين خاصة.

ويرى القاياتي أن من الخصال الحميدة في أهل بيروت أنه لا يوجد فيها تجاهر بالمعاصي أصلاً كشرب الخمر وزنى، كما أن مقاهي بيروت ومقاهي الشام عامة لا توجد فيها مسكرات أو مخدرات فذلك مما تغبط عليها أهل بلاد الشام (صانها الله مما يشينها وجميع بلاد الإسلام بجاه النبي عليه الصلاة والسلام).