الجمَيزة، هذه الكلمة حين يقولها إبن بيروت فإنه لا يعني بها تلك الشجرة الضخمة التي تعطي ذلك الثمر الدقيق الذي لا يكاد حجمه يقارب حبة البندق أو شيئاً من هذا الحجم ، إذ أن الباعة يرددون عبارة ( تمّر الجمَّيز تمّر)، ولكنه يعني أحد أحياء بيروت الذي يشغل منطقة كبيرة تقع في الطريق الذاهبة إلى مدينة طرابلس شرقي البلد.

هذه المحلة كان في مكانها أرض خالية من البنيان والسكان قبل أن يصل إليها الإنسان والعمران منذ حوالي القرن من الزمان.

فبيروت التي اتصلت حدودها من الجهات الأربع بما حولها من القرى في أيام أجدادنا قابعة داخل سورها تحميها أبوابها السبعة التي كانت تُفتح مع شروق الشمس، وتُغلق مع غروبها وتُحفظ مفاتيحها مع حرّاس أبوابها الأشداء الذين لم يكونوا يخرجون هذه المفاتيح من أكياسها في غير هذين الميقاتين إلا بأمر الوالي نائب السلطان في هذه المدينة.

وكانت الأراضي المحيطة ببيروت القديمة تزدان بعدد كبير من شجر الجمّيز ولا سيما بمحاذاة سورها.

◄الجميزة أول ضاحية لبيروت تصخب شباباً.. والصيفي تحيا شخصيتين

بين قرار التنظيم المدني الذي سمح ببناء عشرة أبنية جديدة في منطقة الجميزة، من بينها ثمانية أبراج تعلو فوق الخمسين متراً، وقراره الثاني الموصي بضرورة الحفاظ على الطابع التراثي في المنطقة، تعيش الجميزة حالة انتظار وترقب.

تلك الحالة ابتكرها وزير الثقافة السابق ميشال إده، وحافظ عليها وزيرا الثقافة التاليان غسان سلامة وطارق متري، بعدما تبيّن أنها افضل الحلول في وجه بعض الحيتان المستثمرة الطامحة الى ابتلاع التراث المعماري القديم وتحويله الى طوابق عالية من إسمنت وزجاج.

غير ان المنطقة «المنتظرة» في النهار، تعيش صخب الليل بكل ما للكلمة من معنى، بعد «حماسة» استثمارية حوّلت دكاكين أيام زمان الخالية الى سبعة وخمسين مطعماً ومقهى من كل الألوان والأشكال، آخرها مطعم لغير المدخنين.

هكذا تغفو الجميزة على صخب شبابي لتصحو على هدوء هرم تعززه منازلها الملوّنة، التي، وعلى إهمالها، تبدو أجمل من كل ما يحيط بها من أبنية مستحدثة وأبراج عالية. وهي «تضحك» لأنها غافلت الزمن وانتهزت الحرب فبقيت متماسكة وعصية عن التشويه، قسراً و طوعاً.

◄الشجرة

لتسمية المنطقة بـ«الجميزة» روايتان: الاولى بطلها أحد الحكام الذي قرر قطع شجرة جميز كبيرة كان يتفيأ تحتها سكان المنطقة لحاجته الى خشبها. والثانية تتحدث عن شجرة كبيرة كان يلتقي تحتها رجال المنطقة للعب الورق والطاولة، وتمّ قطعها لإنشاء مقهى عرف بعدها بـ«قهوة الجميزة» حسب ما يروي مختار المنطقة يوسف عطاالله، لكنها قبل ذلك، عرفت بمنطقة «البيارة» (وهي عامية كلمة آبار) نظرا لكثرة عيون الماء فيها. وتكوّنت الجميزة، وهي الحي المرتبط بالصيفي والرميل والمدور، بفعل توسع أهل بيروت لا سيّما ما كان يعرف بالبرجوازية المسيحية.

وقد شكلت هذه الأحياء تاريخياً اول ضاحية لبيروت التي كانت مسيّجة بسور، وكان لها ثلاثة طرق واحد يؤدي الى طرابلس والثاني الى صيدا والثالث الى الشام، فتمّ بناء أول المنازل على الطريق الذي يربط بيروت بالشمال كتمددّ مسيحي لأهل بيروت.

بينما كانت البسطة اول ضاحية تقع على الطريق المؤدي الى صيدا حيث توسع أهل رأس بيروت السنة، إذ كان اهل العاصمة في معظمهم من السنة والأرثوذكس مع أقلية كاثوليكية ويهود...»

كان السكن ما يزال داخل السور البيروتي حتى سنة 1848 وقد ساهم افتتاح خط بيروت ـ الشام سنة 1845 بازدهار مرفأ بيروت، ما ولّد حركة اقتصادية جذبت أهل الجبل لا سيما الموارنة. (كان عدد اهل بيروت يزداد في ذاك الوقت، حتى أنه بين عامي 1860 و1914 تضاعف بنسبة عشر مرات، وفي تلك الفترة بدأت حالة العمران في الجميزة: أبنية من أربعة طوابق كحدّ أقصى تعلو فوق دكاكين ومتاجر صغيرة معدة لأصحاب الاعمال والتجّار).

حملت حالة الهيجان الاقتصادي أهل بيروت الأرثوذكس الى التوسع صوب الأشرفية، التي كانت تلة تشرف على البحر، فأجّروا بيوتهم في الجميزة الى النازحين من أهل الجبل، وولد حيّ سرسق حيث ما زالت قصوره شاهدة على تلك الحقبة التاريخية.

غير ان انتقال البرجوازية المسيحية من الجميزة لم يحولها الى منطقة يسكنها الفقراء، بل تداخلت مستويات سكانها المعيشية، فأضحت منطقة الطبقة الوسطى بامتياز. عزز ذلك إنشاء مدارس للإرساليات الاجنبية أيام الانتداب الفرنسي فكانت مدرسة الإخوة المريميين ومدرسة العائلة المقدسة وغيرها من المدارس الخاصة التي جعلتها منطقة مفضلة للعائلات العاملة التي تطلب العلم لأولادها.

◄بيوت خلف حدائق

قد يكون شارع الجميزة الأقدم والأطول بين الشوارع اللبنانية القديمة (كما أظهرت دراسة لطلاب معهد الألبا عام 1983)، إلا أنه يكتسب أهميته من سحر تاريخي ما زالت البيوت تحافظ عليه. فهنا نوافذ عالية وباحات فسيحة تتقدم باب البيت الرئيسي، وألوان «تضحك» تحت شمس الصيف و«تعاند» غيوم الشتاء. وهنا أزقة من شجر الليمون ونباتات الدور وأحواض الزهور التي تتدلى من النوافذ والشرفات. والمار من منطقة التباريس حيث تعلو الأبراج على جانبي الأوتوستراد الجديد الى الجميزة، لا بدّ وأن يشعر أنه يعبر من حداثة مفرطة تمثل الحاضر للبعض والمستقبل للبعض الآخر، الى تاريخ لم يعد موجوداً إلا في الكتب والصور.

ولعلّ التناقض ينسحب حتى على الناس الذين يقطنون الشارعين: في التباريس رجال ونساء أنيقون يخرجون من سيارات فخمة الى متاجر أفخم ويعودون اليها بعد ان يفتح لهم سائقهم الباب. في الجميزة تختلف المشاهد والصور، فالمتاجر بعضها مقفل وبعضها الآخر يشغله رجل هرم يعمل في الحلاقة او بيع الثياب او الخضار، حيث تدخل النسوة بـ«ثياب البيت» او يقصدها رجال في الخمسينيات او الستينيات من العمر للتسامر والتحادث. تماما كما الحال عند اسعد الحلاق الذي يجلس بعض الاوقات منتظراً الأصدقاء ـ الزبائن بينما كرسيا الحلاقة اللتان تعودان الى زمن تأسيس المحل شاغرتان.

خلف ذاك الصالون ما زال يعمل نجار في منشرته، وهي نادرة بين متاجر عديدة شكلت في الماضي ما كان يعرف بسوق النجارين، بعضها مقفل بانتظار استثمار يعيد بين جدرانها الحياة والضجيج.

في المقابل ينتصب درج المنطقة الشهير الذي تحول الى درج الفن منذ فترة، لاستقبال الفنانين التشكيليين على أنواعهم.

◄ليل الجميزة

هدوء صباح الجميزة الهرم يقابله ليل صاخب بكل ما للكلمة من معنى. المرور صعب على طرقاتها، ازدحام شديد تزيده شدة حركة العاملين في المطاعم الذين يركنون سيارات الزبائن.

سبعة وخمسون مطعماً ومقهى تنتشر على جانبي الشارع الرئيسي لتفيض بين أزقته. وقد استفاد أصحابها من حركة بيع أو إيجار أغرت مالكيها، فكان ان نبتت كالفطر في غضون سنوات قليلة لتقلق ليل الأهالي، مرة عبر ازدحام الشارع وعدم السماح لهم بركن سياراتهم حتى امام منازلهم، ومرة أخرى عبر مكبرات الصوت التي يتمايل على اغانيها الشباب الساهرون.

هكذا، في الليل، يغلق أسعد الحلاق الذي يغفو ويستقيظ على كرسي صالونه ويأتي الى الشارع شاب مع حلق في أذنه يجلس، والكأس بيده، على كرسي عال أمام بار المطعم، كما يأتي رجل انيق يملأ الشارع برائحته وهو يدخل مطعما يقدم الأطباق الأجنبية، فيطلب اسما «طويل عريض» لطبق كبير يتوسطه خس كثير وقطعة لحم صغيرة.

عامل الاستثمار هذا وكثرة المطاعم والمقاهي في الجميزة، يعتبره أحدهم سلاحا ذا حدّين، على أساس ان «الإيجابية الوحيدة تكمن في شهرة الحي وتردد اسمه في لبنان كما في الخارج. غير أن حالة تحوّله الى مكان للسهر، أفرغ أهله منه، فتضاءلت المتاجر التي كان يعتاش او يشتري منها السكان لتحل مكانها مطاعم لا يقصدونها لأنها تحت منازلهم. كما أن الترخيص لسبعة وخمسين مطعما كان يستلزم دراسة اعمق من قبل بلدية بيروت على أساس ان الشارع لا يمكن ان يستوعب كل السيارات القادمة اليه في فترة زمنية واحدة. ويضاف الى كل ذلك ان سحر الجميزة يكمن في هدوئها وأهلها وطريقة الحياة التي تمت المحافظة عليها الى خمس سنوات خلت، أي فترة طفرة المطاعم والمقاهي. إذ كان الأهل يسكنون البيت ويستثمرون المتجر أسفله، وكأنهم يعيشون داخل قرية».

◄انتظارات

هذه الطفرة السياحية حمست المستثمرين والسماسرة على الاستثمار في تلك البقعة اللبنانية الصغيرة، فتمّ التخطيط لإنشاء أبنية عالية وأبراج شاهقة بين المنازل القديمة او على أرضها بعد هدمها. ولعلّ وجود بعض الوزراء أو المدراء العامين على رأس بعض الوزارات عزز الحلم الذي كاد ان يصبح حقيقة لولا وزراء آخرين ومؤسسات تراثية وعريضة وقعها حوالى ثلاثة آلاف من سكان الجميزة. والحصيلة كانت تجميد عدد من المباني كحلّ سريع وأجدى في وجه هجوم الاستثمار.

بدأ الجمود يصيب الجميزة منذ عهد الاستقلال، «حينها كان قانون الإيجار أقوى من المالك، فبقي المستأجرون، ثم أتت الحرب، وكانت الجميزة خط تماس، فزاد الوضع جموداً»، يقول داغر. بعد تلك الفترة، كان أصحاب المنازل الأساسيون قد ماتوا فبات صعباً على الورثة ترميمها وإعادة تأهيلها وكان التفكير بالبيع أسهل طريق لحلّ مسألتها لا سيما اليوم مع كل الإغراءات المادية التي يقدمها المستثمرون.

منذ فترة طلب بعض أصحاب هذه المنازل الإفراج عنها كي يتم بيعها على أساس حماسة المستثمرين لبناء أبنية عالية، «حاول مدير التنظيم المدني برج هاتجيان الإفراج عنها، لكننا فضحنا العملية على أساس أنه ليس من العدالة الاجتماعية الإفراج عن بعض المنازل لتبقى أخرى مجمدة، كما انه إجحاف بحق الإرث الثقافي الذي نحاول المحافظة عليه»، يضيف.

◄في الصيفي

تعتبر الجميزة جزءا مما يعرف بمنطقة الصيفي، الذي قسمها الى جزءين الأوتوستراد الممتد من جسر فؤاد شهاب بعد إنشائه، والذي ضمّ نصفها الى منطقة «سوليدير» ففصمت شخصيتها.

في الجزء الثاني، خارج سوليدير، تشبه بيوت الصيفي بيوت الجميزة. وقد تشكلت بفعل أربعة عوامل أولها حين نقلت السلطنة العثمانية مركز الحكومة الى بيروت، فأتى العاصمة السفراء والقناصل وازدهرت التجارة، وثانيها توسع مرفأ بيروت وطلب أهالي العاصمة مصيفاً خارجها. أما ثالثها فكان إنشاء المدارس الخاصة بالإرساليات الأجنبية أيام الانتداب الفرنسي ورابعها، حرب الجبل التي ساهمت بنزوح الموارنة الى المنطقة.

ولعلّ المنطقة سميت بالصيفي، لأنها كانت تشكل مصيف أثرياء بيروت، حيث بنوا بيوتاً مزخرفة وفسيحة، تتقدمها الساحات المزروعة. خلفها كان يتمّ بناء مساكن ضيقة للعمال.

في الصيفي ما زال ينتصب «بيت الكتائب» و«بيت الكتلة الوطنية»، ويروي أهلها أن الكتائب كانوا أسياد الشارع في مواجهة «نجادة البسطا» لعدنان الحكيم ذو التوجه الناصري. وكان الحزب يقيم سنوياً خلال الحرب عرضاً عسكرياً يبدأ عند ساحة البرج وينتهي في مركز الحزب المطلّ على مرفأ بيروت.

أما «بيت الكتلة الوطنية» فكان ملتقى رجال السياسة، وكان معداً للاجتماعات والمشاورات السياسة.

◄واحد فول واحد ملوخية

بعد سنوات قليلة تحتفل قهوة الزجاج او قهوة الجميزة بعامها المئة، وهي إن طالها القليل من الحداثة، ما زالت تحافظ على جو اللقاءات القديمة فيها.

ففي أحد جوانبها يلتقي كبار السن، يرتشفون القهوة أو يتشاركون الطعام بعد «دق» طاولة، اللعبة الأشهر في ذاك الوقت.

كانت قهوة الجميزة ملتقى «قباضايات» الجميزة، وهي الموازية لمقاهي البسطا حيث كان يلتقي أيضاً قبضاياتها. وقد كانت في الأساس جميزة كبيرة يتفيأ تحتها أهل المنطقة ويلعبون الطاولة وورق الشدّة ويتسامرون.

في الجهة المقابلة يقوم مطعم «لو شيف» الشهير. «شيف، شيف..» تنادي عاملة الصندوق في المطعم، فيطل فرنسوا باسيل بمئزرته شاقاً طريقه بين الطاولات والكراسي التي تشكل ديكور المكان منذ تأسيس المطعم في الأول من آيار عام .1967 حينها كان يعمل «الشيف» فرنسوا في أحد الفنادق بعد تنقله بين مطاعم وفنادق مختلفة في لبنان والخارج. «كان أخواي يمتهنان المهنة نفسها وكنت قد جمعت مالاً وفيراً. على أثر النكسة سنة 1967 وفرض منع التجول، قررنا افتتاح هذا المطعم، ويومها كلفنا افتتاحه 33 ألف ليرة. كان الجيران يستغربون خطوتنا ويعتبرون أن المطعم سيقفل في العاجل. كنت وشقيقاي أنطوان وبطرس نعدّ الأطباق العربية والأجنبية، وكان لدينا عمال يوصلون الأطباق الى البيوت المجاورة «على الصينية». صحيح ان الحركة كانت خفيفة أيامها لكن نسوة الحي كن يعتمدن علينا في بعض الأيام لا سيما في المناسبات.

مطعم «لو شيف» لم يتبدل في الشكل منذ ذاك الوقت. أقل من عشر طاولات ما زالت تنتصب مكانها، بينها يتجوّل شربل إبن فرنسوا، يرحب بالزبائن «يأخذ الطلبية» من دون ورقة أو قلم كما أيام زمان، ويصرخ «واحد مغربية، تنين كوسى بلبن...»، ثم يلتفت الى الباب للترحيب بوفد أجنبي. وشربل يتقن اللغات الثلاث، إذ تعلّم الفرنسية في المدرسة والإنكليزية في «جامعته الخاصة».

غالبا ما يفاجئ الأب والإبن مقال كتب هنا أو هناك في صحف أجنبية عن مطعمهما، «هناك كتب وصحف ومجلات كتبت عنا»، منها ما يعلقه شربل على جدران المطعم، ومنها ما يحتفظ به في درج خاص ليأتي به الى كل سائل.

عند «لو شيف» ما من تفرقة بين فقير أو غني عامل أو سياسي، «هنا الكل واحد» يقول فرنسوا، «يأتينا وزراء ونواب، كما يأتينا أجانب كما العمال...»، ويروي شربل أنه في إحدى المرات دخل «زبون دائم للمطعم من بابه، فرأى ان الوزير غسان سلامة جالس برفقة سيّدتين وسامي أمين الجميل على طاولة خلفه ينتظر طعامه، فصرخ قائلا :إذا الدولة كلها هون وين بياكل الشعب؟ ».

قد يسهل على شربل التعرّف على سياسيي لبنان والوطن العربي، الا أنه غالباً ما يقع في مصيدة رجال السياسة الأجانب. «يخبرني زبون آخر عن ضيف أجنبي أو اتعرف اليه من خلال من يستضيفه. هم يقصدوننا بفعل التقارير التي تبثها محطات أجنبية عنا، آخرها كانت الـ TV5 والسي.إن.إن... ».

منذ أربعين سنة و«لو شيف» ما زال محافظاً على شكله الخارجي وسير الأمور فيه كأول مطعم في الجميزة، لعلّ التجديد الوحيد الذي يطاله بين فترة وأخرى، هي تلك الإعلانات الثقافية والعلمية التي يلصقها شربل على الزجاج المطل على الشارع «تلك خدمة مجانية نقدمها لزبائننا، والأجانب يأتون الى هنا ويقدمون لنا ملصقات عن مسرحيات أو دورات تدريب».

◄قبضاي الجميزة والميت الحي

كان هناك «قبضايات» في الجميزة. و«قبضاي» ذاك الزمان كان «مصلحاً وليس «أزعر» الشارع»، كما يقول المختار يوسف عطا الله. «كان الأسطى باز يجلس الى الطاولة تحت الجميزة الكبيرة ويلتقي أهل الشارع. وقد أتى رجل من آل الصمدي قاصداً إنشاء مقهى مكان الجميزة، فوافق باز لأن «الحكي حكي رجال»، وكان أن أنشئ مقهى الجميزة حسب المختار.

وكان هناك «قبضاي» آخر، يضيف، «كان يلفي عند آل سرسق اسمه الياس الحلبي، وقد فرغ مقهى «كوكب الشرق» في البرج عندما علم رواده بوفاة الحلبي وتدافعوا مسرعين للمشاركة بمأتمه».

ويروي خبير المحاسبة سليم حدّاد أن أحد أعمامه كان من «قبضايات» الجميزة وكان يسكن منطقة الصيفي على البحر قبل أن يتم إنشاء الأوتوستراد الرئيسي. «كان عمّي يساعد طلاب الطب في الجامعة الأميركية في بيروت، فكان يأتي اليهم بكل جثة مات صاحبها حديثاً، على أن يعيدها الى مدفنها بعد تشريحها. في أحد الأيام كان ينقل جثة في الصباح بواسطة عربة الطمبر، وقد وضع لها سيجارة في الفم ليبث فيها بعض الحياة المزيفة. مرّ بسكان الحي فألقى السلام عليهم، لكن الجثة لم تلقِ التحية. في اليوم التالي سأل الأهل عن الراكب الى جانبه وقد شُتم لأنه «ما بيصبح».

استمر «القبضاي» في عمله وقد أعلم طلاب الجامعة بنقله جثة جديدة دفنت في اليوم نفسه، «نقل عمي جثة الرجل ليلاً، وكان ينتظر على باب الجامعة انتهاء التشريح، كما العادة لإعادتها. في بيت الفقيد كان النحيب ما زال قائماً. لكن أحد الطلاب خرج الى العمّ وقال له :«هل يعقل أن تأتي لنا برجل حيّ، الرجل «مفحم» فقط». عاد القبضاي أدراجه الى بيت الفقيد وسألهم «شو بتعطوني اذا أعدت لكم فقيدكم؟ لم يصدقوا بداية لكن ما أن أعاد اليهم الرجل، حتى كافأوه بخمس ليرات عثملي... ».

◄منطقة الجميزة في بيروت تشهد صراعا بين الحداثة والتراث

منطقة الجميزة، الواقعة الى الناحية الشرقية من وسط بيروت التجاري (منطقة سوليدير)، والتي تتميز بطابعها التراثي الذي يعود الى مطلع القرن العشرين، سيّلت في الآونة الاخيرة الكثير من الحبر، واستصدرت الكثير من العرائض والنداءات والكتب من الاهالي والجمعيات الاهلية الى المسؤولين محذرة من تشويه هذه المنطقة وزحف الابراج اليها. والقصة بدأت مع اصدار المجلس الاعلى للتنظيم المدني قراراً يضع شروطاً ومعايير محددة للبناء للمحافظة على الطابع التراثي للمنطقة، إلا ان هذا القرار اصبح غير ذي قيمة، على حد اقتناع اهالي المنطقة واصحاب المؤسسات السياحية والتجارية والجمعيات التراثية، لكونه استثنى عشرة ابراج من هذا القرار يفترض ان تنتشر في مختلف انحاء المنطقة بعلو يتراوح بين 20 و25 طبقة، وبما يجعل المشهد على تناقض وتعارض شديدين.

ومع سلوك رخص بناء الابراج القنوات الرسمية تداعى نحو 2400 شخص من اصحاب العقارات في المنطقة، واصحاب المطاعم، والمهندسين، والمثقفين وناشطي البيئة والجمعيات التراثية ورفعوا عريضة الى رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة ووزير الاشغال العامة والنقل محمد الصفدي، اعتبروا فيها ان تشييد الابراج سيشوه طابع المنطقة، فضلاً عن الحاقه الظلم بأصحاب العقارات ذات الطابع التاريخي، الذين حرموا منذ عشر سنوات من حق تطوير عقاراتهم بحجة المحافظة على الطابع التراثي للمنطقة.

ويطالب موقعو العريضة المسؤولين بالتطبيق المتساوي والعاجل للقانون بعيداً عن الضغوط والشفاعات، وقبل وصول طلبات الترخيص الى المجلس البلدي لمدينة بيروت. ومن ابرز الذين وقعوا العريضة «المؤسسة الوطنية للتراث»، جمعيتا «ابساد» و«عمران»، تجمع اهالي الجميزة، النائب غسان مخيبر، ممثل لبنان للتراث في اليونسكو جاد ثابت، المدير العام السابق للتنظيم المدني محمد فواز، نقيبا المهندسين السابقان عاصم سلام وامين البزري، اساتذة الفن المعماري في جامعة بيروت الاميركية وجامعة «البا»، والجامعة اللبنانية، اصحاب المؤسسات السياحية والاندية الليلية وسواهم. ومما يدعو الى الاستغراب، كما يقول رئيس تجمع الاهالي جوزف رعيدي لـ «الشرق الاوسط»، ان المستثمرين العقاريين الجدد يوردون في نشرات الترويج لمشاريعهم ان هذه الاخيرة تقع في شارع رائع الجمال بحدائقه، ومنازله التراثية، ومبانيه العائدة الى مطلع القرن العشرين.

ويقول خبير عقاري: ان المنطقة هي ضحية نجاحها بما تقدمه من ميزات قلما توافرت في منطقة اخرى من بيروت كقربها من منطقة سوليدير، وجمال مبانيها التراثية واطلالتها على البحر، ما جعلها مقصداً للبنانيين والمغتربين بصورة خاصة، حيث تباع الشقة الواحدة في الطبقة الاولى بما بين 1800 و2000 دولار للمتر المربع الواحد.

وليس البناء الحديث هو ما يهدد منطقة الجميزة، بل ثمة خطر آخر يهددها، يتمثل في الانتشار العشوائي للمطاعم والاندية الليلية. فهناك اكثر من 40 مؤسسة افتتحت حديثاً يقع 70% منها في بقعة صغيرة، وهي تتراوح بين المطاعم اللبنانية والفرنسية والايطالية وغيرها، ولم تؤثر مرحلة ما بعد الحرب على هذه الطفرة، بحيث تحولت الجميزة الى مرتع مميز للحياة الليلية في بيروت، غير ان هذا التحول طرح عدة مشكلات ابرزها:

تعرض الاهالي لصخب الحياة الليلية.

استئجار المحال التجارية شهد توسعاً كبيراً، بحيث زاد خلال اربع سنوات 250%، ورفع سعر المتر المربع الواحد في المساحات المتوسطة الى 500 دولار.

قبل خمس سنوات كان شارع غورو في المنطقة مثالا للهدوء بمحلات البقالة الصغيرة، والحرفيين والحوانيت الصغيرة، اما اليوم فقد تبددت هذه الصورة لتحل محلها صورة المطاعم والاندية الليلية المنتشرة كالفطر، والتي تكاد تملأ هذا الشارع.

من المشكلات التي تعاني منها الجميزة زحمة السير الخانقة ليلاً ونهاراً، والنقص الكبير في مواقف السيارات.

JIMZ

درج الفنون في الجميزة