الشارع السنّي الوحيد في الأشرفية...

اليسوعيون تحدّوا الإرسالية الأميركية بجامعة الناصرة

حي بيضون: حكايات الحرب والسلم

جاء الضابط الفرنسي كولومباني الذي تسلّم منصب مدير الأمن العام أو الأمن القومي... شيء من هذا القبيل. سأل عن قبضايات المنطقة كما كان يفعل كل مسؤول جديد. سمّوا له «أبو طالب النعماني»، الحاج نقولا مراد، سعد الدين باشا شاتيلا، رشاد قليلات، وغيرهم. وكان من بين الأسماء درويش بيضون. استدعاهم الواحد تلو الآخر، لكن درويش بيضون قال: أنا ما بروح، هو بدو يجي لعندي. قالوا له: ما بيصير يا قبضاي، لازم تروح، فقرر أن يكون آخر الذاهبين. كان القبضايات رفاقه قد أخبروه عن زياراتهم. منهم من تلقى صفعة، ومنهم من سمع كلاماً... ثم حان دور درويش بيضون. دخل مكتب كولومباني مثل عنتر، وقبل أن يرد التحية، اندفع صوب الطاولة وركلها ركلة طيّرت الأوراق في وجه الضابط المذهول. محادثة قصيرة، ويترجم المترجم: قل له لأني دخلت ولم يقف لي. فقال كولومباني: كيف تفعل ذلك؟ نحن حكّام البلد! رد بيضون: أنتم تحكمون بلادكم، هناك، في فرنسا، نحن هنا أسياد البلد. فما كان من الرجل إلا أن أن صافحه احتراماً. هكذا يكون القبضايات. ووعده بأن يستصدر له جواز سفر دبلوماسياً.

الباسبور ما زال موجوداً ويحمل توقيع كولومباني. ثم اقترح على القبضاي أن يعمل معه. عمّر درويش قصراً زهري اللون في الناعمة، وصار يستقبل مراكب البضائع الآتية من مصر وتركيا.. ..

يقصّ المختار أحمد سعيد بيضون «تركتَه» من الذكريات التي حفظها، كما نُقلت إليه، وإن لم يكن قد وُلد عندما كانت تعج بالحياة وبشخصيات صارت اليوم تاريخاً شفهياً على ذمة الرواة.

هنا حي بيضون في الأشرفية. اسمه الرسمي، في دفاتر الدولة، «شارع الأشرفية» (الرقم 61). لكنه حي بيضون لناسه وزواره. تمشي في الشارع الصغير الذي يحدد مدخله، للآتي من «سنتر سوديكو»، مفرق يتفرع على شكل الرقم «7»، واحد يذهب بك إلى مستشفى رزق، والآخر إلى الحي المنشود. منه يتفرع «شارع شبارو». وإذا أكملت شارع بيضون، سائراً في خط مستقيم، تصل إلى ساحة ساسين.

تقرر أن تلغي عيناً تنحو إلى الإكزوتيكية. حسناً، شارع سنّي في الأشرفية، وإذاً؟ الحي السنّي الوحيد في الأشرفية، وفيه جامع وكنيستان («سيدة العطايا» للموارنة و«القديس باسيليوس» للروم الكاثوليك)، ولا تبعد دار عبادة عن الأخرى سوى أمتار، وقد تساكن الجميع بسلام نسبي خلال الحرب الأهلية... وبعد؟ لا «اكتشاف» جديداً. تردّك الجولة إلى التفكير في درجة استقرار الفرز الطائفي في نفوس ما بعد الحرب، خصوصاً في بيروت. لكن، أليس مشهد الجامع والكنيسة هو «البطاقة البريدية» اللبنانية بامتياز؟ تفكّر بلبنان الرحابنة. بوقع فولكلوري أعيد إحياؤه، على نظافة، لا سيما في الوسط التجاري قي التسعينيات. يتصل صديق من الزلقا: «أين أنتِ؟».. «في الأشرفية، حي بيضون»... صمت. يفترض أنه يعرف المنطقة جيداً، إنما: «بيضون؟ في الأشرفية؟ هم من الأشرفية يعني؟ عن جد؟!».

◄شيخ التلّة

آل بيضون من هنا، من منطقة الناصرة ـ شارع الأشرفية. كان شاكر بيضون مختاراً قديماً، أيام العثمانيين. لقّبه الفرنسيون بـLe Cheikh de la Colline، أي «شيخ التلّة». الأشرفية كلها تلّة، ويقال إنها اكتسبت اسمها لأنها مشرفة على بيروت، وهي «المصيف». بيروت التي كانت محصورة داخل سورها القديم، تحضن البحر، أو هو يحضنها، لا تكليف بينهما. ويقال أيضاً إن الأشرفية تدين باسمها للسلطان المملوكي، خليل الأشرف، الذي التجأ إليها يوماً، وناصره الثوار الأشراف.

يحكي المختار بيضون أن جدّه، شاكر، نُفي لأربع سنوات لأنه كان ضد العثمانيين، فلما جاء المنتدبون الفرنسيون قالوا له: «شاكر أفندي أنت تعذبت كثيراً، ونحن نريد مكافأتك على التصدي للعثمانيين، وسنرسل أولادك لتلقي العلم في السوربون وسنعطيك المال، فرفض أبيّاً، فرفعوا القبعات وقالوا Vive Chaker! (يحيا شاكر).

يُرفع أذان المغرب من جامع بيضون. بعض من زينة شهر رمضان ما زال معلّقاً بين سطحي بنايتين تجاورانه. العَمار هنا مختلط بين قديم وجديد. يُعدّ بيت من طبقات قليلة لهدم قريب. قيل لصاحبه مؤخراً: كيف تفعل ذلك؟ هذا بيت أثري! فنهره همساً: «دخيلك ما تقول هيك، ما بيعودوا يخلونا نهدّه ونبني محلّه، بدنا نعيش». للمسجد الصغير أيضاً اسم رسمي : مسجد علم الشرق (بني صغيراً في العام 1879)، كما تفيد اللافتة الرخامية. لكنه، أسوة بالحي، تكنى باسم العائلة الأشهر في المنطقة. الأبنية أيضاً ترث. درويش بيضون (أبو علي) ورث «قبضنة» الحي. كان أخوه مستشاراً لرياض بك الصلح، وكان الأخير يأتي ليصلّي الجمعة هنا، محبّة بصديقه. وقبل مقتل الصلح بعام واحد، كان البك قد بدأ بترميم المسجد، ومن بعده تكفّل درويش بيضون «مع أهل الخير» بإتمام المهمة التي أسبغ عليها النقّاش المصري، المليجي، أعمال إزميله. وفي يوم «الافتتاح» صدح صوت المقرئ عبد الباسط عبد الصمد الذي جيء به خصيصاً لإحياء المناسبة. كان ذلك في أوائل الخمسينيات. في ذلك اليوم تقاطرت الشخصيات: الشيخ بيار الجميل والحاج نقولا مراد و«عمي أبو علي»، كما يخبر المختار أحمد سعيد بيضون نفسه: «دخل الشيخ بيار بصباطو، فصاح به عمّي أن وين رايح يا شيخ بيار؟ بدّك تشلح من إجرك!». مشهد حي.

الشيخ بيار يتراجع إلى ما بعد العتبة التي كان قد خطا لتوه من فوقها بحذاء لمّاع: «ما تواخذني، ما تواخذني...»، وانتظم الحذاء ـ أبو شريط ـ بين سائر نعال المسلمين.

تمر بضع سنوات. ذات يوم من العام 1958 بعدما بدأت الحرب بين حزب الكتائب من جهة وحركة المعارضة ضد الرئيس كميل شمعون من جهة أخرى، تشكّل وفد، ضمّ، إلى المختار الحالي بيضون (مختار منذ العام 1969)، كلا من المختار (آنذاك) محمود شاكر بيضون، وإمام المسجد الشيخ محمد العثماني، ومحمد موسى حموية (أبو فاضل) ومحمد سليم بدر. قصدوا قيادة الكتائب. وكانت معاهدة خطية وقّعها عن الأخيرين، وليام أمين حاوي، الذي كان مقيماً في الحي، بل في ملك محمد سليم بدر. نصّت المعاهدة على التعايش السلمي. وبحسب بيضون، ما هي إلا أسابيع قليلة حتى هجم أنفار كتائبيون غير منضبطين على الحي وألقوا قنبلة صوتية قرب الجامع، فتناثر زجاج البيوت. اتصل محمود شاكر بيضون بالشيخ بيار: ألا تفون بوعودكم يا شيخ بيار؟ قال: يا صديقي، نحن أوفياء، لكنّ لدينا أشخاصاً غير منضبطين وسنعاقبهم.

في العام 1958 أيضاً، وفقاً للكاهن في رعية «سيدة العطايا» المارونية، المونسينيور لويس حلو، تهجّر مسيحيو الخندق الغميق، وكانوا من رعية «كنيسة مار جريس». انتعشت حركة البناء، من الناصرة إلى الأشرفية إلى الصيفي الفوقا. بناء «سيدة العطايا» يعود إلى العام 1932 وكانت رعيتها آخذة في التوسع، إذ حملت بضع عائلات مارونية إضافية أمتعتها إلى المنطقة في العام 1973.

هدوء نسبي لبضعة أعوام، ثم حرب .1975 يختلط الحابل بالنابل. مرابطون، صاعقة، جيش اليرموك... ورعية «سيدة العطايا» تكبر بفعل نزوح ماروني من بيروت الغربية. نشاط العمران مستمر. وهذا ما يفسّر كثرة البنايات «الجديدة» في حي بيضون والمنطقة المحيطة به. ينسحب سيناريو شبيه على الطوائف المسيحية الأخرى في الأشرفية ذات الغالبية من طائفة الروم الأرثوذكس. في رأي المونسينيور حلو، لم تقع إشكالات كبيرة هنا «لأن كل مجموعة آتية من مكان، والمسلمون قلّة في الأشرفية ككل، لذلك لا تكتلات سياسية صافية». أما المختار بيضون فيتذكر أن عام الحرب الأهلية شهد «معاهدة أخرى مع إخواننا. كان بشير الجميل وكنت أنا. قلنا له إن مسلمي الأشرفية سيكونون الدرع الواقية من السوديكو وبالجايي، ولن يدخل أي تنظيم سوى على جثثنا، وكان هناك ساتران ترابيان، واحد رفعه المحاربون منعاً للاحتكاك بين الشرقية والغربية، وواحد بنيناه نحن كممر، أو كخط عسكري إذا أردت، لعبور الشارع، احتماء من القنص. نجحنا. نعتونا آنذاك بالخونة. لكن الكل عرف في ما بعد أن الحق كان معنا. عشنا بأخلاقياتنا، ولو؟ من سيحارب من؟ كلنا لبنانيون! ».

◄مفاتيح البيوت في سلّة؟

واجتاح الإسرائيليون بيروت في العام .1982 وعادت المضايقات. يُحكى مثلاً أن السيدة الدرزية المسنّة، سلوى الأعور، التي كانت تعيش بمفردها، تلقت «زيارات ثقيلة» من «القوات اللبنانية». أرادوا احتلال بيتها، فاحتمت العجوز عند الجيران. اجتمع أعيان حي بيضون وقصدوا مسؤولاً في «القوات» سمع يومها كلاماً مقلقاً: «نعطيك فوراً مفاتيح المنازل، نجمع مئة مفتاح في سلّة ونقدم لكم بيوتنا بلا مقاومة، لكن إذا هجم خمسة آلاف آخرين عبر المعبر (من الغربية) فعليك أن تتدبر أمرهم بنفسك». صفن الرجل، شكر زواره، وحرص على تزويد رئيس الوفد برقمه الخاص، راجياً إياه أن يراجعه ـ هو شخصياً ـ في حال حصلت أي مضايقات بعد ذلك. هكذا دام «السلام» في حي بيضون، منذ العام 1982 وحتى 1990 عندما أعلن انتهاء الحرب وجاء الياس الهراوي رئيساً للجمهورية، و رفيق الحريري رئيساً للحكومة للمرة الأولى.

قلّما تقع اليوم على صورة للرئيس الحريري في شارع بيضون. لكن الولاء مستتب. «كأن الشمس غابت»، هكذا يصف أحدهم استشهاده. «الرئيس الحريري كان عنده نظرة لكل المناطق... علاقتنا بالقصر اليوم جيدة، لكن خلفاءه ملهيّون عنا بمشاكل السياسة، كان الله في عونهم... لا ننسى دور الخبرة، ستعود لفتة بيت الحريري إلينا رويداً رويداً... أحببنا السنيورة من بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة، استوعب الموقف وقدم المساعدات لأهل الجنوب والضاحية وأعلن لبنان بلداً منكوباً...». هي مقتطفات من كلام الناس في حي بات اليوم، في السياسة، منسجماً حكماً مع محيطه. لا داعي لمعاهدات جديدة. ترفع صورة عملاقة للنائب ميشال فرعون الذي «لا يرد طلباً لأهل المنطقة ومكتبه دائماً مفتوح لهم».

سوق العقارات أيضاً مفتوح في بيضون ـ الناصرة. يتهامس الناس حول مستثمر خليجي يسعى إلى تملّك عقارات كبيرة، إعداداً لمشروع مهم في المنطقة. حركة بيع متزايدة. لكن رحيل أبناء الشارع عنه بدأ منذ زمن، بحسب الحاج سهيل حرب، وهو أحد المعنيين بإعادة إحياء «جمعية التعاون الخيري ـ محلّة الأشرفية» (التي تأسست في العام 1961).

يقول حرب إنه لم يبق، ممن نفوسهم الأصلية في حي بيضون، سوى المئات. في حين أن عدد «الناخبين المحمّديين» (سنّة بالدرجة الأولى، وقلّة قليلة من الشيعة والدروز) هو حوالى سبعة آلاف ناخب (أي ما يشكل حوالى 21 ألف نسمة). يعزو حرب الأمر إلى انعدام إمكانية التحديث السكاني في المنطقة، «فلا رؤية عند الدولة ولا عند المجتمع المدني... يكبر الأولاد ويتزوجون ويقطنون في الطريق الجديدة أو المزرعة، أو في عرمون وبشامون. البعض ترك الحي خلال الحرب، ليس لأن أحداً تعرّض لهم، لكن في ناس بتخاف. وبما أنهم قرروا الخروج من الحي، فقد بات محيطهم حيث اختاروا العيش. كنا نعمّر لأولادنا طوابق فوق البيوت، اليوم تغيّرت الحال، والحي الذي كان قائماً على طبقة وسطى، أصبح الآن ما دون الوسط، بسبب الأحداث والإهمال، لذلك هم يوالون من يقدم لهم ما يطلبون، وهذا طبيعي.. تماماً كما كان طبيعياً تحول المقهى، الذي كان الناس يرتادونه للعب الورق، وكان أشبه بمقهى الزجاج في الجميزة قديماً، إلى مطعم «زعتر وزيت».

◄بناية بركات: ذاكرة الحرب

تعبر من أمام «زعتر وزيت» خروجاً. تنحرف يساراً، سيراً على الأقدام. خلفك الآن مبنى، خردقه التراشق بالرصاص والدم عندما كان هذا التصميم اللبناني التحفة معلماً من معالم «خط التماس». هي «بناية بركات المشهورة التي استملكتها مؤخراً بلدية بيروت بهدف إقامة متحف ثقافي وأثري لحفظ ذاكرة المدينة بالتعاون مع رئيس بلدية باريس برتران دولانويه»، كما يشرح نائب رئيس مجلس بلدية بيروت، توفيق كفوري. وقد أنقذها تصنيفها أثرية من الهدم، وها هي البلدية تستعد لإيداعها بعضاً مما عثر عليه في حفريات الوسط التجاري، ومنها ما عمره ثلاثة آلاف عام. عمر بناية بركات حوالى مئة عام. وقد عاش فيها، في عشرينيات القرن الماضي، الأمير شكيب أرسلان، وكان مديراً للأمن العام. يعد كفوري بأن المتحف الموعود سيشهد نشاطات عدة، كالمعارض وعروض الأفلام الوثائقية، بالإضافة إلى تسهيل تبادل المعلومات عن مدن أجرت عمليات «توأمة» مع بيروت، ومكتبة عامة. جمال الأعمدة الصفراء المنقوشة، المشوّهة بذاكرة حرب تكاد تطغى على ذاكرة العمارة، يستدعيك إلى التفاتة واثنتين، وربما لا يشبع النظر.

◄هنا يرتاح سماحة

تستدير أخيراً وتتابع المشي نزولاً باتجاه «الطبية». دقائق وترصد، على الرصيف الأيمن، محلات بيع الأزهار. رشّ الربيع عليها ألوانه. لها هنا استراتيجية الموقع، إذ تقابل سلسلة متراصة من «بيوت النوم الطويل»، حيث الراقدون بانتظار زيارات محمّلة بالورد والحنين الهادئ: مدافن طائفة السريان الكاثوليك (1850)، مدافن الكنيسة الإنجيلية الوطنية في بيروت.

هنا «منطقة الناصرة ـ شارع 17»، يخبرك «بلاك» على حائط. مدافن الكنيسة الإنجيلية الفرنسية في بيروت، ويافطة المدخل تقول أن «هنا يرقد 17 جندياً ألمانياً سقطوا خلال الحرب العالمية الأولى». مدخل المدافن اليهودية. تدلّك الكتابة العبرية ونجمة داوود. لا أحد يأتي إليها، هي دائماً مقفلة، بشهادة أصحاب المحلات المواجهة. فجوة في الحائط تشبه «فوهات» مياه الشرب، التي تتصل عادة بينابيع المياه الحلوة في ساحات القرى الجبلية. لكن الكوّة، «المطربشة» بقنطرة حجرية صغيرة، جافة، تعلوها كتابة حفرت بالعربية: «قد تبرعت في عمار هذا الأثر الخيري من مالها الخاص الست سارة عن روح المرحوم زوجها ابراهيم ـ 30 آذار 1921». للحب شاهد. وللعين مفارقة: ملصق إعلاني كبير، على مدخل موقف سيارات «سنتر سوديكو» القريب، يروّج لشركة متخصصة في الستائر الزجاجية للشرفات، واسم الشركة «دياسبورا ليميتد» (أي «شركة الشتات المحدودة»!). بوابة المدافن الإنجيلية هي الوحيدة المفتوحة في هذا اليوم، فلكل مقبرة مواعيد زيارات خاصة بها. السكينة في رحابها تتحدى ضجة الأوتوستراد في الخارج. وحدها شواهد القبور تخاطبك: «ألتقيكم في الصباح عند أبواب الخلود». ضمّة أزهار طازجة، والحارس يقترب. اسمه الياس عطا الله. بيت لحم ـ فلسطين مسقط رأسه. ولد في البداوي، خارج المخيم.

عائلته في الناعمة، يزورها كل أسبوع. يقطن في غرفة صغيرة في زاوية المكان. يطلب، بعد الدردشة، أن نحفظ اسمه في حال كنا معنيين بتوزيع مساعدات من أي نوع. فعائلة جنوبية مهجّرة كانت تعيش، قبل سنوات، في غرفة في مدفن مجاور، وقد وجدت من يساعدها ويستأجر لها بيتاً في الجوار. ينام بين القبور ولا يحلم سوى بيد تمتد إليه لتنتشله: «يعني ما إلك علاقة بالمساعدات؟». يقتنع الياس أخيراً بإجابة نافية مصحوبة بابتسامة اعتذارية لا يملك المرء إزاءه سواها. مفرق صغير يفضي بك إلى زاروب فيه تواجد كثيف لعناصر الجيش. مقر الأمن العام في آخر الشارع، وله دوائر ومكاتب موزعة. خطوات وتصل إلى «مدافن طائفة الروم الكاثوليك».

هنا، «كل شوق يسكن باللقاء لا يعوّل عليه». عبارة ابن عربي توقّع استلقاء الجميل جوزف نصري سماحة (1949ـ2007). وقفة، تُعوّل عليها، أمام الشاهد الرخامي المزدان بوردة بيضاء باقية منذ جنّازه قبل أسابيع قليلة. يومها، مشت خلف نعشه، من مطرانية الروم الكاثوليك، تظاهرة مريديه، من صحافيين ومثقفين وحزبيين وأحباء بكوه كمن يُتّموا لتوهم. مثواه من القلّة التي لا تحمل صليباً. «أحبك كثيرا» تقال له همساً. ماذا تقرأ هذه الأيام؟ كنت تأخذ إجازة من الجريدة لتحبس نفسك، وكتبك الجديدة، في المنزل. عندك الآن الوقت كله. المدينة من غيرك ليست المدينة. عينك علينا أبو الزوز، حيثما أنت...

◄من «تاريخ بيروت»

إلى الأمام قدماً في الشارع الرئيسي. تتوالى مباني جامعة القديس يوسف. حرم كلية العلوم الطبية، العلوم الإنسانية، محترف فنون الطبخ التابع لقسم إدارة الفنادق...

يقول الأكاديمي والصحافي الشهيد سمير قصير، في كتابه «تاريخ بيروت»، إن العام 1870 كان عام «انعطافة حاسمة في المغامرة التي خاضها اليسوعيون في المشرق»، خصوصاً في 30 تموز، مع إعلان الأب أمبواز مونو، وهو رئيس الإرسالية، عن شراء قطعة أرض كبيرة من شأنها احتواء مدرسة اليسوعيين بعد انتقالها من غزير. لم يكن قد مضى سوى أربعة أشهر على شراء الأميركيين قطعة أرض في رأس بيروت لتأسيس «الكلية السورية الإنجيلية» (الجامعة الأميركية في بيروت)، والتي كانت قد بدأت أعمالها قبل أربعة أعوام. وهكذا أنشئت الجامعة الثانية في ,1875 بعدما وصل مونو، في حملته لجمع التبرعات، إلى الولايات المتحدة.

و«أنشئت الجامعة الفرنسية، التي ستصير لاحقاً لبنانية فرنكوفونية، بفضل هبات أميركية وإن كان المتبرعون كاثوليكيين». ويتوقف قصير عند هذا «الدليل الواضح على منطق المنافسة» الذي تميزت به الإرساليتان. يستشهد بقول منسوب إلى أول رؤساء الجامعة الأميركية، دانيال بلس، الذي أعرب عن قناعته بأنه مهّد لنشوء جامعتين، «لأن اليسوعيين لن يلبثوا، بحسب رأيه، أن يردوا على التحدي». وفيما أنت تتجاوز الحرم الطبي، لا يسعك سوى استذكار ما أورده قصير عن اليسوعيين بأنهم «كانوا يصورون العلوم الطبية كأنها الوسيلة الأشنع التي اقترحها الشيطان لأتباعه بهدف تشويه الإيمان لدى عدد لا يستهان به من الشبان، فيزرعون بدورهم الكفر والفتور الديني في أوساط شعوبنا الطيبة».

ها هو بعض شعبنا الطيب يصطف أمام السفارة الفرنسية، المجاورة للمركز الثقافي الفرنسي في الشارع نفسه. ملالة للجيش متوقفة على الزاوية وحولها سياج حديدي، ومن «قبّتها» ينفذ جندي «دوماً مستعد». ليست الآلية العسكرية الوحيدة في المساحة المنظورة. ثمة الكثير ما يستوجب الحماية في هذا الشارع، في هذه الأيام، في هذا البلد. ألم يكن «معبر الحرب» في مكان قريب من هنا؟ أمام السفارة رجل وامرأة في العقد الخامس من العمر. هو يقول إنه كان يعمل مستشاراً عقارياً في إحدى الشركات. وهي لا تريده أن يتحدث إلى الصحافة. هو يخبر أنه تقدم بطلب تأشيرة للذهاب في زيارة إلى فرنسا، حيث سيمكث عند أقارب وسيحاول تأمين سبل الإقامة «لأن هذا البلد ما عاد صالحاً للعيش». وهي تناديه. يختم الرجل بأنه باع بيته في برمانا، وبيتاً آخر في الأشرفية ورثه، ويهمّ بالابتعاد. وزوجته كانت قد سبقته بخطوات.

ما زلنا في الناصرة... يكتب قصير أن الأسلوب العمراني للصروح الدينية، وكذلك جميع المباني التابعة للطوائف الدينية المشيدة في «الأحياء الجديدة»، اتبع المعايير العامة للهندسة العثمانية المعاصرة آنذاك. فتخلت عن القبب لصالح السقوف المسطحة المكللة بالقرميد الأحمر... «لكن معظمها كان مزوداً، بالإضافة إلى مجموع ما يسقف به البيت، بالواجهات المزدانة بالأقواس المثلثة في وسط البناء، كمعهد الحكمة ومدارس زهرة الإحسان... وقد امتازت عن هذه الأبنية بعض المؤسسات الكبيرة، كجامعة القديس يوسف ومعهد سيدة الناصرة. وبالإمكان رؤية الصرح الذي بنته راهبات الناصرة للبنات، على تلة الأشرفية، من عدة أماكن بانورامية في شرق بيروت عند مطلع القرن. كان يبدو، بشرفاته العالية، كأنه نقل مباشرة من أوروبا ليستقر في بيروت».

ويضيف أنه بالإضافة إلى حي اليسوعية، الناشئ حول جامعة القديس يوسف، نما حي الناصرة على المنحدر الجنوبي الغربي لتلة الأشرفية في محيط المدرسة التي أنشأتها الراهبات. ونجد ذلك أيضاً في حي «الطبية» المحيط بالمباني التي شغلها معهد الطب الفرنسي للآباء اليسوعيين على طريق الشام، العام 1913 وزهرة الإحسان، مدرسة الفتيات الأرثوذوكسية التي تأسست سنة 1880 في الأشرفية. يكتب قصير: إن التسمية الرسمية لتلك الأحياء تتطابق مع التداول الشعبي لها. وتلك ليست قاعدة دائمة في بيروت، لكنها لا تحمل فقط علامة امتنان معنوي، بل تؤكد ما ظهر في الصور الفوتوغرافية في نهاية القرن التاسع عشر، إذ تمثل المؤسسات التربوية مع أماكن العبادة، وقبل المستشفيات، أهم معالم المدينة: أي أن نمو بيروت الذي أطلقه الاقتصاد وكرّسته السياسة، تحقق أيضاً على إيقاع هذه الثورة الثقافية التي عرفت بالنهضة.

وفي الإطار نفسه، يورد «تاريخ بيروت» أنه «كان لا بد من انتظار انطلاقة بيروت الجبارة في المجال الاقتصادي، بدءاً من العام 1860 لنشهد ظهور مؤسسات أكثر تكاملاً توفر للطلاب التعليم التكميلي والثانوي. ومع أن أولى تلك المنشآت هي مدرسة البستاني الوطنية المستقلة عن منطق الجماعات، فالبقية كلها كانت تابعة للمؤسسات الدينية». ومن هذه المدارس «مدرسة الثلاثة أقمار» و«معهد زهرة الإحسان للبنات» (عام 1880) وكلاهما أرثوذكسيان في الأشرفية ذات الغالبية من طائفة الروم الأرثوذكس. «تلك المدارس كلها أعدّت في الأساس لأولاد الطوائف التي تشرف عليها. وكان استقبالها تلاميذ من طوائف أخرى يعكس تماماً التجدد الحاصل في كنائس الشرق، والملموس على مستوى السلطنة عامة، وضمن الظاهرة المعروفة بنظام الملل، نتيجة للتوسع الأوروبي وعمل البعثات».

DIBBAYDOUN

ديب عبد الحميد بيضون