يقع حرش القتيل في المنطقة الواقعة خلف مبنى شركة التأمين الأميركية على طريق المطار حالياً، وسمي بهذا الإسم لأن جثة المرحوم خضر القهوجي الذي قُتل في العشرينات، ألقيت بين أشجار ذلك الحرج ، فسُميّ بعدها بحرش القتيل.

حرش القتيل: هروب مؤقت من الاجتياحات يتحول الى سكن دائم

قاربت الساعة الثانية عشرة ظهرا ، ولا تزال الفرش ممدودة في أرض الغرفة. لم تجد صاحبة المنزل وهي من بعلبك نفسها مضطرة للالتزام بمواعيد ترتيب المنزل، لأن الناس يتشابهون حيث تقطن، في سلوكهم، في مصادر أرزاقهم، في تقاليد عيشهم اليومي.

لم تعد جارتها وهي في العشرينيات من العمر وهي من الجنوب تجد نفسها مضطرة للالتزام بواجبات منزلها الزوجي، لأنه لم يعد موجودا، عادت الى منزل أهلها بانتظار إجراءات الطلاق، كانت تساعد أمها في تنظيف المنزل، كأنها لم تغادر، تريد الطلاق من زوجها كما همست عن قرب بعدما اكتشفت أنه يعمل في شبكة دعارة، كانت طفلتها وهي تقوم بأعمال المنزل تنام على طراحة بالكاد تتسع لجسدها الصغير، وضعت على أرض المطبخ البالي، في موجة صقيع آذار. اعتبرت أمها الأمر عاديا، لأن المنامة أصلا كلها على فرش الاسفنج.

لم يبال الطفل إبن الأعوام الخمسة، وهو من عيتا الشعب، أنه يركض في الشارع محتذيا مشاية من دون جوارب في يوم بارد، وقد أجاب عندما سؤل عن جواربه إنه لا يريد ارتداءها لأنه ليس بردانا.

لا يوجد فارق في حرج بئر حسن بين منزل وبين آخر، بين ساكن وبين آخر، جميعهم عمال واصحاب حرف بسيطة وبائعون في محلات صغيرة.

يبدأ الحرج الذي لم يعد حرجا عند الزاروب المقابل لقصر رياض الصلح، تغيب المباني، وتحل محلها منازل أشبه بسكن المخيمات. لم يعد من القصور والفلل التي كانت محيطة بالحرج سوى قصر رياض الصلح عند ثكنة المضاد، هدم قصر الحاج حسين العويني لجهة طريق المطار، وبقيت أطلال قصور كانت لأثرياء لبنانيين وأمراء كويتيين.

تتدرج المنازل، أو تتعرج، تلتصق ببعضها أو فوق بعضها، تصلها أدراج ضيقة، تفصل بينها ممرات نادرا ما تكون خالية من المياه، لأن النساء لا يجدن مكانا لرمي مياه تنظيف الغرف، سوى الطرقات.

لكل عائلة منزل من غرفتين أو ثلاث بالحد الأقصى وأحيانا كثيرة غرفة واحدة. تستخدم تلك الغرف نهارا للجلوس وتناول الطعام، وتصبح ليلا للمنامة، تمد فيها الفرش لأفراد العائلة ومعظمها من الاسفنج، فوقها أغطية ملونة من الأقمشة الرخيصة الثمن، ذات الألوان الريفية القديمة.
تعطي ألوان المقاعد والشراشف للغرف أشكالها الخاصة، وتعطي الجدران الخارجية التي نادرا ما تعرف الطلاء، للحي طابعه المختلف، حتى عن الضاحية المجاورة.

يفصل بينه وبين الضاحية أتوستراد طريق المطار، وبينه وبين الأحياء الفخمة في بئر حسن، الطريق العام المؤدي الى السفارة الكويتية.

كان النزوح الأول إلى الضاحية في الستينيات، الى حرج بئر حسن في الثمانينيات، الى المناطق الفخمة جرى الانتقال الثالث نحو رفاهية العيش.

لا تزال في أطراف الحرج بقايا شجرات صنوبر، تختفي تدريجيا مع الدخول الى قلبه. تعيش فيه عائلات من عيتا الشعب ورامية وبيت ليف وصديقين ومجدل زون ويارين ومروحين وشبعا وجبال البطم، هي قرى حدودية نزحت عائلاتها بسبب الاجتياحات الاسرائيلية، نزح بعضها من النبعة والكرنتينا خلال الحرب الأهلية، اعتقدت أن سكنها مؤقت، لكنه أصبح دائما.

لاتزال تتجمع في زواريب خاصة بها تمتد من مدرسة المهدي حتى محطة الرحاب، وتتعرج صعودا حتى قصر رياض الصلح.

إلى جوارها يعيش خليط من النازحين من بلدان أخرى جاؤوا للعمل في بيروت، من سوريا والهند وسيرلانكا واثيوبيا، وقلة من الفلسطينيين. يقطن المهاجرون في غرف استأجروها من السكان، وقد اصبحت لهم محلاتهم يبيعون فيها المواد الغذائية والملابس، مثل ما هو الحال لدى سائر المهاجرين.

لايزال يوجد في الحرج حي يسمى حي صلحة على إسم إحدى القرى السبع، مع العلم أن غالبية سكانه من الجنوب.

كان موسى خيامي (سبعة وستون عاما) من جبال البطم وهو صاحب محل سمانة صغير من أوائل النازحين الى الحرج في العام 1978 يقول: «بنى الناس المنازل في البداية بحماية منظمة الصاعقة، كانوا جميعهم لبنانيين أما الآن فقد أصبحوا شي سوري شي سيرلانكي شي شركسي شي ما بعرف شو مذهبوا»، يضيف أن لديه تسعة رجال أبناء يشاركون في حماية الحي من أي مشاكل قد تحصل فيه، لكنهم لا ينتمون إلى حزب الله ولا إلى حركة أمل.

تسعة رجال لم يعرفوا المدرسة إلا لسنوات قليلة، يجيب خيامي لدى سؤاله عما إذا كان قد علمهم أي أدخلهم المدارس قائلا: «نعم علمتهم واحد ميكانيكي وواحد فران وواحد حلاق، فيما دخل أحدهم الى سلك قوى الأمن الداخلي وثلاثة مهاجرون».

يفضل خيامي السكن في منزله الصغير في الحي على السكن في شقة جديدة في الضاحية:

«هنا أجلس أمام الدكان أتسلى مع الجيران، أما في الشقة فأشعر أني في علبة كبريت».

بدوره يحافظ حسن أحمد العيسى (خمسة وخمسون عاما) من يارين وهو مؤيد لتيار المستقبل على علاقات ودية بجيرانه، يجمعه بهم الانتماء الى الجنوب وإلى الحي، يقول إن شابين من يارين «أكلوا قتلة» بعد أحداث الجامعة العربية: «قاموا بحركات وأخذوا يرفعون صور الحريري ويكزدروا في الحي» ثم يضيف ضاحكا: «نحن مع المقاومة ضد اسرائيل، لكننا ضد المقاومة في الداخل»، يشكل الحزب بالنسبة له جزءا من حياة يعيشها في الضاحية وفي الجنوب. ينتقد من يقفون تحت عباءة الحزب ثم يمارسون زعرناتهم.

 يشير عيسى الى صورة الرئيس رفيق الحريري التي يعلقها في منزله قائلا إنه علق الصورة لأن الحريري مات مقتولا، عندما اختطف السيد موسى الصدر زعل عليه مثل الحريري وأكثر.

لا يزال لديه ما يقارب الثمانية عشر مليون ليرة في ذمة مجلس الجنوب، بدل تعويض عن منزله الذي دمر خلال اجتياح العام 1982.

يعيش حاليا عاطلا عن العمل بعد أن كان عاملا في معمل للصناعات الخفيفة في الشويفات، ثم سائق سيارة أجرة يقدم له اولاده مساعدة مالية بسيطة، لم يحصل على مكاسب من أحد لأنه ليس لديه وساطات، كما يقول، حتى المساعدات الغذائية التي تأتي الى يارين لم يحصل منها سوى على ثلاث حصص مع العلم أنها وصلت إلى أكثر من عشر حصص، لم يحصل أيضا لا على حرامات ولا على مازوت للتدفئة.

في الحرج حي خاص بأهالي عيتا الشعب، بينهم مستأجرون جدد من الذين دمرت منازلهم في حرب تموز. يدفع حسن مصطفى باجوق (خمسة وثمانون عاما) مئتي دولار شهريا بدل إيجار غرفتين، ينتظر مع زوجته إعادة بناء منزلهما في عيتا ولا يطيق السكن في بيروت، عندما يذهب إلى البلدة ينام في غرفة قدمها له أحد أبنائه. يقسم أنه لم يحصل على سجادات وحرامات من تلك التي وزعت في البلدة، لأنه لم يكن هناك، ولم تحسب البلدية حسابه. جلبت زوجته كيسا يحتوي على مواد غذائية حمص وعدس وأرز وقالت إنها اشترتها من التعاونية.

يعتاد السكان على حياتهم في الحرج، يقول أحمد وهو شاب من بعلبك (ثمانية عشر عاما)، إن أهله يعيشون في الحي منذ عشرين عاما، ولد وتربى فيه، يفضل البقاء هنا، لأنه يعرف أبناء الحي، بينما ستكون الشقة الجديدة غريبة عليه هي والجيرة.

ينظف السكان الطرقات الداخلية بأنفسهم كما يقولون، ينقلون النفايات الى مكبات تقع على أطراف الحرج، لدى بعضهم عدادات كهربائية، لكن الأشرطة الممتدة بين الأحياء أكثر عددا، عندما تنقطع الكهرباء عن أحد الخطوط يعلق أهل الحي على الخط الآخر. يقول أحمد إن العداد المركزي لا يحتمل ضغط الطاقة المطلوبة منه، فينقطع بدوره، لكن يوجد دائما من يتبرع بإعادة التيار الكهربائي، حتى لو استدعى ذلك رفع العداد مرات عدة في الليلة الواحدة.

يبدأ رئيس بلدية الغبيري أبو سعيد الخنسا الحديث عن الحرج بالقول: إن العدالة غير موجودة، لكنه فعل لهم المستطاع، يفلش البوم صور لمجاري الصرف الصحي التي كانت تطوف على المنازل، يوضح أنه تعرف إلى الحياة في الحي خلال جولات ليلية كان يقوم بها من دون أن يعرفه السكان، رأى فرش الاسفنج منشورة على حبال الغسيل وهي تعصر مياه وسخة في موسم الشتاء، بعد غرقها بالمجاري.

قدم مشروعا الى الحكومة في العام 1998 لتأهيل مجاري الصرف الصحي في الحي، ونفذه بمساعدة الرئيس الراحل رفيق الحريري الذي أعطى موافقته على المشروع، لم تعد المجاري تطوف، كما عبدت البلدية الطرقات ووضعت حاويات للنفايات.

يعتبر الخنسا أن مشروع التأهيل كان خطوة شديدة الجرأة في حينها، المنطقة تابعة لمشروع اليسار، وقد خضعت بناء للمزاج السياسي لعمليات ضم وفرز مرتين، في المرة الأولى قام القاضي فيليب خيرالله بفرزها الى عقارات صغيرة مساحة كل منها ما يقارب الألف متر مربع، ثم أعيدت أرضا مشاعا، لكي لا يحصل فيها بيع وشراء بانتظار تنفيذ مشروع اليسار!. ينتظر المشروع الانفراج السياسي، كما يقول الخنسا: «مع بدء إعمار المناطق التي هدمتها حرب تموز في الضاحية لابد من تسوية أوضاع المناطق التي تتبع لأليسار.

أعلى الصفحة