شارع «مار الياس» ينأى عن أجواء الانقسام

يكثر المتحدثون والقصة واحدة. قصة شارع مار الياس الذي يشتهر كإحدى اهم الاسواق التجارية في لبنان. الكل يلتقون حول تاريخه ومراحل تطوره العمراني والاقتصادي. يتفقون حول طبيعة سكانه وتصنيفهم الطبقي والسياسي. يسترجعون المراحل التي دفع ثمنها الشارع خلال اكثر من حرب او معركة شهدتها بيروت. لا تضارب في الروايات والمواقف هنا.. الكل يتحدث باللغة ذاتها: تجاراً، سكاناً ومخاتير.

تغيب اللافتات والاعلام الحزبية على امتداد معظم الشارع، باستثناء امتار قليلة موازية لحي اللجا، حيث الحضور الحزبي الطاغي لحركة امل وحزب الله.

في هذه الامتار فقط من الشارع تُرفع صورتان، الاولى للسيد حسن نصر الله تحت شعار «سيد النصر الالهي»، والثانية تجمعه برئيس مجلس النواب نبيه بري.

يتبع شارع «مار الياس» عقارياً لمنطقة المصيطبة. ويمتد بدءاً من مفرق كركول الدروز لغاية ثكنة الحلو. يُجمع على ذلك رئيس جمعية تجار المنطقة عدنان فاكهاني والمؤرخ الدكتور حسان حلاق. غير ان مختار المصيطبة شوقي مسلماني يشير الى ان حدوده تبدأ من مفرق «الظريف»، تقاطع «محطة ايوب».

يحدّ الشارع حي اللجا ـ المصيطبة شرقاً، تلة الخياط غرباً، المزرعة جنوباً، والبطركية ـ زقاق البلاط شمالاً. وهو يعتبر جغرافياً واقتصادياً من الشوارع الهامة، كونه يشكل ممراً بين منطقتي المزرعة والبربير المؤديتين الى الضاحية الجنوبية، وبين منطقتي الحمراء والبسطة المفضيتين الى وسط بيروت.

بالكاد تلمح محلاً واحداً لبيع الخضار في الشارع، الذي تطغى عليه محلات بيع الالبسة والاحذية والذهب. الا انه يفتقد وجود المطاعم والمقاهي التي يمكن ان يستريح فيها قاصدو السوق، ولا سيما السياح منهم او المغتربون.

يشكو عدد من التجار من ذلك، ويعتبر فاكهاني أن غياب المقاهي هو نقطة ضعف في السوق. ويتحدث عن محاولات عدة تمت لافتتاح مقاه، الا ان اصحاب المشاريع كانوا يطلبون مواقع معينة ومساحات كبيرة، كان يتعذر تأمينها لهم.

في بداية السبعينيات كان الشارع سكنياً بالدرجة الاولى. وكان عدد المؤسسات التجارية فيه لا يتجاوز العشرين مؤسسة. مع بدء الحرب الاهلية تحول الى سوق تجارية. انتقلت آنذاك مجموعة من التجار من وسط بيروت الى «مار الياس» لافتتاح محال موقتة. الا انه بسبب امتداد سنوات الحرب تحول الموقت الى دائم.

يصل عدد المؤسسات التجارية في الشارع اليوم الى 370 مؤسسة، وفيه 550 مكتباً للمهن الحرة وشركات السياحة والتأمين، بالاضافة الى 15 فرعاً مصرفياً، ومكتب لشركة طيران الشرق الأوسط وآخر لبلدية بيروت.

ويقول الدكتور حسان حلاق «ان هذه السوق هي من الاسواق الحديثة، لأن اسواق بيروت كانت على مر التاريخ في وسط البلد. وقد قامت مع اندلاع الحرب، شأنها شأن اسواق اخرى، مثل: «سوق بدارو»، «سوق فرن الشباك»، «سوق بربور»، و«سوق عفيف الطيبي»...

ومنذ العهد العثماني حتى اليوم، يضيف، تملّك عقارات السوق عائلات مسلمة ومسيحية على السواء. واطلق عليه اسم «مار الياس» تكريماً لشفيع طائفة الروم الارثوذكس مار الياس او القديس الياس، وهي كانت الطائفة الاكثر حضوراً بين سكان الشارع.

وكمعظم المناطق البيروتية، اشتهر «مار الياس» بالتلال الرملية والصخرية، والبيوت القرميدية والبساتين الشاسعة قبل ان تبدأ النهضة العمرانية في منتصف السبعينيات.

اما الشخصيات العامة التي سكنت «مار الياس» ومتفرعاته، فهي الجنرال شارل ديغول في شارع الشوف، الزعيم الراحل كمال جنبلاط في شارع الضناوي، وقد سكن منزله بعد رحيله ابنه الوزير وليد جنبلاط لسنوات عدة، كان مكتبه خلالها في السوق الرئيسية. وعلى بعد امتار كان يقطن النائب بشارة مرهج. وفي مار الياس عاشت زاهية سلمان. اما الوزير بهيج طبارة فلم يغادر «مار الياس» حتى اليوم.

لمختار المصيطبة ابراهيم عيتاني ذاكرة هامة. يرسم بدقة صورة الشارع القديمة: «هنا كانت محطة «عجوز» على فم مفرق «جنبلاط»، وفي المقابل كان خياط «ليلو» السرياني، وهنالك كان المختار «جنحو»... يتحدث بشيء من الحنين عن البيوت القديمة التي لم يبق منها الا القليل. منها قصر آل القصير عند مفرق «حي اللجا» ومنازل معدودة لجهة شارع «الماما» المفضي الى تلة الخياط.

من جهته، يشير الدكتور حسان حلاق الى «طلعة شحادة» احد متفرعات الشارع. فيها فيلا قديمة لآل شحادة، وخلفها دارة اثرية لآل نصولي، وبرجان قديمان تقابلهما «فيلا القاضي».

في الماضي، كانت كفة الطائفتين الروم الارثوذكس والسريانية هي الكفة المرجحة عددياً بين سكان الشارع. من هنا اشتهر الشارع الموازي لمنزل جنبلاط «بحي السريان». اما اليوم فتضاءلت كثيراً نسبة العائلات المسيحية والسريانية فيه، ليطغى حضور المسلمين ومن ثم الدروز على السكان.

غير انه لا يوجد من أبناء الشارع من يدخل في لغة الاقلية والاكثرية. يجمعون على التنوع الطائفي من منطلق التسمية التي اُطلقت على السوق: «شارع الوحدة الوطنية».

يشير المواطن عاصم نحاس الى انه من بين سكان الشارع «حزبيون ينتمون الى «امل» و«التقدمي» و«الشيوعي»، الا انه يؤكد كلنا يد وحدة»، ويعتبر الاشكالات التي تقع يتسبب بها دائما «الاغراب».

يقول فاكهاني: «اتفقنا مع الاحزاب على ان الشارع «تجاري»، وعلى ضرورة المحافظة على سمة الاختلاط فيه.. فكل مبنى يضم سكانا من جميع الطوائف».

أما المختار مسلماني فيؤكد انه «لا لون سياسيا للشارع التجاري. سكانه من الطبقة غير الشعبية الذين لا يجهرون بولاءاتهم. اما المناطق المحيطة به التي يسكن بعضها الطبقة الشعبية فيسهل تحديد لونها السياسي، علماً بأن تجار وسكان الشارع لا يتأثرون بالاجواء الحزبية المحيطة».

ويعتبر المختار عيتاني ان الحفاظ على التداخل الطائفي والمذهبي ساهم بعدم حدوث «ضربة كف» بين الاهالي. ويلتقي مع نحاس لجهة رد افتعال اشكالات سابقة شهدها الشارع الى عناصر من خارجه. ويشير الى ان عدم اجهار الولاء السياسي سمة جماعية لدى السكان، باستثناء مناسبات معينة، «كيوم القدس» وعاشوراء، حيث ترفع الاعلام السوداء. فيما يرفع مؤيدو «تيار المستقبل» الاعلام اللبنانية في مناسبات اخرى محدودة.

◄ذاكرة الشارع مع الحروب

كما غيرها من المناطق، لم تسلم السوق التجارية من الحروب التي شهدها لبنان. بل دفعت ثمناً كبيراً في هذا المجال.

يعتبر كل من مسلماني وعيتاني ان حرب «العلمين» التي وقعت في العام 1986 بين امل و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، هي من اكثر المعارك التي أضرت بالسوق وبعض محاله التجارية. اذ تحول الى «خط تماس» بين مناطق المتنازعين، حي اللجا ووطى المصيطبة من جهة، وتلة الخياط وعائشة بكار من جهة اخرى.

ويستعيد مسلماني «انتفاضة الاحزاب» في العام1984 الذي استعاد الجيش اثرها سيطرته على المناطق، معتمدا «مار الياس» معبراً اساسياً لآلياته كونه شارعاً عريضاً.

وحرب الميليشيات او «حرب الشوارع» كما يسميها بعض سكان الشارع، كبدت السوق اضراراً كبيرة. فتحولت بعض واجهات المحال الى متاريس مبنية من الحجارة، يحتمي اصحابها خلفها، فيما غصت بعض الملاجئ بالسكان.

اما خلال حرب «التحرير» فتعرضت بعض الابنية في السوق لقصف مباشر، نتج عنه عدد من الاصابات، ما تسبب بنزوح عدد كبير من سكانه.

ويبقى الاجتياح الاسرائيلي العلامة الفارقة في حياة شارع «مار الياس». يقول فاكهاني ان الدبابات الاسرائيلية كانت تربض في المزرعة وتقصف الشارع مباشرة.

ويستحضر وليد (تاجر يسكن في الشارع) اليوم الذي وقفت فيه الدبابة الاسرائيلية امام مقهى «الجندول» المقابل لثكنة الحلو، وصوّبت المدفعية باتجاه الشارع. وقد ارسل الضابط الاسرائيلي رسالة شفهية عبر ناطور احدى الابنية الى الثكنة تتضمن نية اقتحامها. فانبرى عميد سابق في الجيش يقول لهم: لن تدخلوها ولو على جثتي. فردوا عليه بأنهم سيقصفونها فور رؤية مدنيين داخلها. فأمر العميد عناصره بارتداء الملابس العسكرية، ووقفوا على باب الثكنة، ما دفع الاسرائيليين الى التراجع.

ويستعيد وليد اجواء الخوف الذي اصابه اثناء تلك الحادثة، في الوقت ذاته الذي كانت تندلع فيه النيران من احدى الشقق السكنية في الشارع.

وفي 16 ايلول العام 1982 اجتمع الأمين العام للحزب الشيوعي آنذاك الراحل جورج حاوي والأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي محسن ابراهيم في منزل كمال جنبلاط المتفرع من مار الياس، واصدرا بيان انطلاقة «جبهة المقاومة الوطنية». ومنه كان انطلاق مقاومة الاحتلال.

◄لكنه ينهض في كل مرة

لكن، في كل مرة كان يتعرض فيها الشارع للحرائق والقصف، كان ينهض مجددا بفعل تضافر جهود مجموعة من التجار. الصيغة التي تجمع هؤلاء هي «جمعية تجار شارع مار الياس» التي تشكلت في نيسان العام .1977 «اتفقنا على ان تضم الطوائف كافة، وان تكون زينة الاعياد موحدة وبلا شعارات دينية»، يقول فاكهاني، و«تولينا تأهيل الشارع وتجميله، في وقت كانت مؤسسات الدولة غائبة».

ويشدد على اهمية دور الجمعية واعتمادها الزينة تقليداً اساسياً، كونها تعبيرا عن الصمود والرغبة في الحياة. يقول: «لم نتأخر عن زينة الشارع خلال الحرب الاهلية برغم الذبح والقتل على الهوية، وبعد اسابيع من خروج اسرائيل من لبنان في فترة الاجتياح، وبعيد حرب تموز الاخيرة».

في العام 1997 عرف الشارع مرحلة نهضوية جديدة، قضت على كل ما تبقى من آثار الحروب. مع انتهاء الورشة التأهيلية، التي تكفل بها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والتي استمرت عامين، بموازاة تأهيله لاسواق اخرى في الاشرفية.

وفيما كان يفترض ان تكون تلك الفترة مرحلة مفصلية لتنشيط السوق، بدأت مذ ذاك تتراجع الحركة التجارية، بحسب عدد من التجار، وذلك مع بدء تراجع الحركة الاقتصادية في البلد في العام 1996.

يقول التاجر احمد عيسى «ان كل يوم يمر علينا منذ ذلك التاريخ، نترحم على الذي قبله».

وعيسى الذي بدأ عمله في السوق عبر بسطة لبيع مجوهرات مقلدة، شهد ايام عزّ لا تنسى خلال سنوات عدة، مكنته من افتتاح محل لبيع الالبسة والفولارات. ويؤكد انه حتى خلال الحروب المتتالية التي شهدها لبنان استمرت الحركة التجارية في السوق. ويشير الى انه كان يجني اواخر الثمانينيات حوالى 600 دولار يومياً، وانه تمكن من تحصيل 60 الف دولار خلال «حرب عون» وحدها، ما ساعده على بناء منزله الصيفي في قريته آنذاك.

اما اليوم، والى جانب تراجع القدرة الشرائية، دخل «على الخط» عنصر آخر اكثر ايلاماً: فيما يحاول معظم تجار وسكان السوق النأي بأنفسهم عن أجواء الانقسام، فإن ذلك لا ينطبق بالطبع على الزبائن.

يروي التاجر سعيد ان امرأة قصدته مؤخراً تخبره كيف انها امتنعت عن الشراء من المحل المجاور له، لمجرد انها رأت لديه صورة زعيم سياسي معين، وقالت له: «افضّل الشراء من ابن جماعتنا». ويعلق: «انها الطائفية، وهي اخطر بكثير من الحروب الحزبية».