هنا ما زال الشارع هو مكان التلاقي، والاختلاف مطلوب والخلاف ممنوع
كرم الزيتون التي لا تشبه سواها: بيوت صغيرة وقلوب كبيرة

في ذاك الجزء من منطقة الأشرفية، يتغيّر الصوت وتتبدل الصورة، عما يمكن أن يسمعه او يشاهده أي مار بساحة ساسين أو بجوار حديقة السيوفي أو حتى في الجميزة وحيّ السراسقة. فكرم الزيتون منطقة لا تشبه إلا نفسها.

لعلها قرية في قلب مدينة أو كانتون لمجموعات من كل حدب وصوب تتعايش مع وضع اقتصادي صعب يضع غالبية سكانها في خانة الفقراء وما دون. هنا لا أبراج شاهقة ولا متاجر فخمة ولا عمال أجانب يقومون، عند ساعة محددة كل يوم، بنزهة لكلب «المدام». هنا أزقة ومتاجر للاحتياجات اليومية البسيطة. وأحياء ما زالت تمتلئ بـ«صباح الخير» و«ميّل يا أبو الياس» و«أهلا علّوش»... بينما تزدهر طاولات الزهر والحلقات النسائية أمام مداخل المنازل، وتنتشر المؤسسات الاجتماعية التي يكاد لا يخلو منها أي حيّ أو شارع في المنطقة.

في «الكرم»، كما يختصر التسمية أبناؤه، يجلس المختار ـ الشاب رافي ماركاريان في مكتبه الصغير، رافعاً يده لتحية أبناء المنطقة المارين من أمامه. يحيي كلاً منهم باسمه. لا يعرف المختار الجديد عن «الكرم» إلا أنها منطقة شعبية ولكن «تملأها الإلفة والمحبة» على الرغم من تنوّع الطوائف والتوجهات السياسية فيها. «فيها قباضايات»، يؤكد أحد زواره. والمختار يقاطعه «لا غير صحيح، فيها آوادم وناس يحبّون بعضهم».

يأتي تأكيد ماركاريان على خلفية تحقيق صحافي استاء منه أهل «الكرم» بعدما صوّرهم بؤراً تتعاطى المخدرات والدعارة... بؤراً متناحرة في أفضل الأحوال.

بين الصورة الإعلامية وصورة الواقع، يحكي «الكرم» قصته بنفسه، ويروي حكاياته عبر الأزقة والمنازل ووجوه الأبناء الذين يرفضون تركه.

قُطع الزيتون والكرم بقي على حاله

طوني، طوني... ، ينادي ضيف المختار. يغيب لدقائق قليلة، ثم يأتي مصطحبا شابا أسمر بشوشاً، لكنه يبدو «موهولاً». فطوني مختار بالفطرة، وأي طارئ ينادى لأجله قد يعني بالنسبة له مشكلة تتطلب الحلّ. لكنه يضحك ما إن يعرف ان المطلوب هو وصف كرم الزيتون جملة وتفصيلاً.

يصرّ على جولة بين الأزقة والشوارع حيث تختبئ حقيقة الكرم وحقيقة أبنائه.

تبدأ الرحلة مع طوني زيادة من دكان وليد بيطار الموظف المتقاعد. في المكان الخالي إلا من مكتب وطاولة للبيليارد وبرّاد للعصير والمشروبات الغازية، يتجمهر عدد من الرجال والشبان، للاستماع الى كلام بيطار، وبالتالي المصادقة عليه. كانت منطقة خالية من السكان، تملأها بساتين الزيتون العائدة في معظمها الى آل الأبيض، ومن هنا تسميتها بكرم الزيتون. وقد نشأت مع مجيء الأرمن الى المنطقة، وكانوا هم أول من سكنها وأقاموا فيها، فبنوا كنيسة ومدرسة، وكان ذلك عام 1920.

بعدها بسنوات، ومع ازدهار حركة النزوح تحوّل الكرم الى منطقة مختلطة بامتياز، لم يكن ليلجأ اليها أبناء الأرمن أو موارنة كسروان أو الجبل فحسب، بل كانت ملجأ أخيراً لأبناء الجنوب والشمال وسوريا وإنطاكية... the same like America، أميركا مصغرة، يعلّق طوني ضاحكاً : لا سكّان أصليين لها، بل مجموعة نازحين حملوا عاداتهم وتقاليدهم من قراهم أو بلادهم ونسجوها في الكرم.

عن تلك العادات والتقاليد، يتسابق المتجمهرون في المتجر للتحدث: «هنا لا ميت يوضع في سيارة، بل يرفع على الأكف حتى الكنيسة». «لم تشهد المنطقة تهجيراً حتى خلال الحرب، فالكل يتشبث بسكانها المسلمين كي لا يرحلوا عنها ولو كانوا أقلية». «هنا مناصرون لكل الأحزاب ولا أحد يتطاول على الآخر». «هنا رجال تهابهم كل الأشرفية...» و«هنا فقراء لا يمدون يدهم بل يساعدون بعضهم في أصعب الظروف»...

بيوت صغيرة ومؤسسات كثيرة

ما يقوله هؤلاء الأبناء، تفضحه صورة الشوارع والأزقة. ولعلّ المؤسسات الاجتماعية، التي لا يخلو منها حيّ او شارع، تروي معاناة صحية واجتماعية تتعايش معها تلك المنطقة الشعبية. معاناة يحاول سكانها عدم فضحها بابتسامة، لكنها تستتر في العيون. ولو أن المعلم وليد ينفيها جملة وتفصيلاً معتبراً أن المؤسسات الاجتماعية موجودة لكنها لا تعمل «لأن إبن الكرم يدفع أجرة طبيب ومستشفى ولا يمدّ يده لمؤسسة اجتماعية».

إلا أن إحدى المرشدات العاملات في المجالين الصحي والاجتماعي تعتبر أن «هناك حاجة ملحة للمساعدة في الكرم. أمراض سكان المنطقة غالباً ما تولد من حالات اجتماعية خاصة. ولولا الحاجة لما وجدت كل تلك المؤسسات والمستوصفات التي تقام على بعد امتار قليلة من بعضها البعض».

فعلا، هناك ما يشبه التجمع للمؤسسات الاجتماعية والصحية، تبدأ من «الرحمة»و«المحبة»... وتنتهي بمستوصف لمؤسسة الحريري. في ذلك المستوصف يجلس ثلاثة مرضى بانتظار معاينة الطبيب. هم جزء من حوالى 12800 مريض لجأ الى المستوصف او ما زال يلجأ اليه، من بينهم ثمانية آلاف مريض من الكرم ومحيطه، حسبما تروي كريستين حدّاد مسؤولة الاستقبال فيه. مقابل رمز مادي صغير لا يتعدى خمسة آلاف ليرة لبنانية، تتم معالجة المرضى ضمن اختصاصات محددة تبدأ بطب العائلة وتنتهي عند طبّ القلب والشرايين. «لدينا مرضى لبنانيون وأجانب ولكن معظمهم من سكان كرم الزيتون».

مقابل المستوصف شارع منحدر طويل يقوم بموازاة شارعين آخرين أكثر إنحداراً منه. في الثلاثة تقوم أبنية متشابهة تعود الى الستينات. بنيت متراصفة وكأنها مبنى واحد طويل وعريض، لولا تميز نوافذها ومداخلها عن بعضها. تتألف معظمها من شقق صغيرة لا تتعدى مساحة كل منها ثمانين مترا مربعا، يسكن فيها أهل الكرم، وهم في غالبيتهم من الموظفين وعمال البناء او عسكريين وأصحاب مصالح خاصة...

في الطابق الأرضي من كل مبنى تقوم المتاجر والمحال، تباع فيها سلع متشابهة هي من الاحتياجات اليومية البسيطة، مثل دكاكين السمانة ومتاجر الثياب... بعضها مقفل وبعضها الآخر يقف أصحابها خارجا يحيون المارة أو يتشاركون الحديث أو يلعبون الطاولة...

هنا، الشارع هو المنزل يقول طوني وهو يحيي كل مار به بالإسم. هنا حالة مدينية خاصة لا بل «أشرفية» أخرى. «إقترب، إقترب..»، ينادي رجلا خمسينيا، «أخبرنا ماذا تعرف عن كرم الزيتون؟»، ويبدأ الرجل بالحديث عن الإلفة والمحبة، قبل ان يستدرك ويسأل «هل المطلوب الحديث في السياسة؟ ما يكونوا من جماعتك يا طوني؟ ».

في الكرم نوعان بارزان من الناس: فنانون ـ عازفون و«قبضايات». فالفنانون هم من يفتخر بهم أهل المنطقة، ويضيفون إليهم أسماء ضباط في الجيش وجيل جديد من المتخرجين المتفوقين في بلاد الاغتراب. اما «القبضايات» فلهم فلسفتهم الخاصة، يحاولون عبرها نفي صورة «الأزعر» ووضعها في خانة المدافع عن النفس وعن الكرامة التي لا يمكن ان تنتظر، لتسترد، تدخل مصلح في الحالات الخفيفة أو قوى الامن عند وقوع الخلافات المستعصية.
الى يمين احد الشوارع المنحدرة، وبعد الولوج في أزقة صغيرة متعرّجة، يطرق طوني باب منزل يختفي خلف درج المبنى. «صباح الخير أخي جان. نجري تحقيقاً عن كرم الزيتون، ولاكتمال الصورة قررت أن آتي اليك كونك ممن يسمونهم «المشكلجية». إذ تحدثت انا عن الكرم كوني المصلح هنا».

طوني هو فعلاً المصلح، حسبما أشار أكثر من شخص في الكرم. لكن هل جان هو «المشكلجي»؟ وإن كان كذلك هل يتقبّل خطاب طوني التمهيدي لبضعة أسئلة؟ أم تراه سيرفع سكينه أو يشهر سلاحه كما يفعل عادة قباضايات «الكرم» حين يغضبون؟

يضحك جان. يؤشر بالجلوس بعد الترحيب. ويصمت بانتظار الأسئلة. هل كنت في السجن؟ نعم كنت مسجونا. ما الجرم؟ ضربت ميشال (..) بالسكين. لماذا؟ كان سكرانا، طرق الباب ليطلب الثلج فأعطيته. ثم عاد وطلب الثلج من جديد... كرر فعلته مراراً حتى طلبت منه أن لا يطرق بابي من جديد. فغضب وعاد وطلب الثلج بطريقة الفرض، فطعنته بالسكين بعض طعنات...
هكذا ببساطة يروي جان قصته التي أدخلته السجن... ليس للمرة الأولى. «أنا لا يمكن ان أتعدى على احد ولكن لا أسمح بأن يتطاول علي شخص ما، خصوصاً «الزعران». آخذ ثاري بيدي.
بالنسبة لجان، وهو رجل نحيف، هناك «زعران» وهناك «قبضايات». والفرق بينهما واحد، الأول هو دائماً معتد أما الثاني فهو دائماً المدافع عن نفسه. «وميشال (..) هو «أزعر» لأنه كان يفرض الخوات على أصحاب الدكاكين والمتاجر، الذين كانوا يلبون طلباته خوفا منه»، كما يقول أحد ضيوف جان.

يستدرك الحاضرون في البيت ان لكرم الزيتون صورة جميلة، لا دخل لها بالخناجر والأسلحة والسكاكين، بل بالاوتار والعزف والموسيقى. «نادوا جوزف».

دقائق ويدخل العازف جوزف خوري منزل الجار القبضاي جان.

صاحب الوجه المعروف الذي يعزف في فرق كبار الفنانين، يعتبر كرم الزيتون أفضل المناطق اللبنانية. «لا يمكن ان نشعر بالأمان في منطقة اكثر من هنا. أترك سيارتي مفتوحة الزجاج وأنا واثق من أن لا احد يمكن أن يدخلها او يعبث بها. إن صورة الحي الخارجية غير منصفة ولا تشبه صور شوارع أخرى من العاصمة، الا أن العيش هنا آمن والحياة جميلة. هنا أفضل الأماكن، على الأقل هناك دائما من يصبّح ويمسي ومن يركض مساعدا عند طلب النجدة. في هذا البلد يستقوون على الضعيف. إن سرق جهاز راديو، يصورونه على التلفزيون ويشهرون به والسياسيون يسرقون بلداً بكامله وما مَن يحاسب. قد نعيش في منطقة فقيرة لكننا متفوّقون وما زلنا متشبثين بروح الأخوّة»...

عبر نافذة المنزل يمرّ جار ويحيي الحاضرين «أهلا علّوش» يردّ جان. إنه علي عطوي من الجنوب، الذي يسكن الكرم منذ زمن طويل. يدخل علي ويؤكد على روح الأخوة في المنطقة ثم يتوجه الى جان «سأعود وأزورك بعد قليل».

في الكرم تبقى النوافذ والأبواب مفتوحة، والأهل ينظرون صوب الشارع أو يلتقون في أزقته الأضيق من أن تدخلها السيارات. هنا جمهرة نسوة يتسامرن أمام أحد المنازل. في الكرم يبدو الشارع سيّد الموقف وما المنازل إلا غرف نوم وطعام.

يبدو تامر شقر متلهياً عن العالم الخارجي وما فيه. «مرحبا أبو الياس»، يقول له طوني.

بالكاد يرفع عينيه عن خشبة يحملها بين يديه ويحفرها بإزميل صغير. يقلب صورة طاولة أمامه، يدقق في نقشها وهو يجسده بيديه على الخشبة. أبو الياس الحفار يعمل في نقش الخشب منذ عام 1962 «لدي زبائني، وثمن كل قطعة ثروة، لأن الحفر اليدوي أغلى من حفر الآلات». يتباهي أبو الياس بـ«عدّته» الفرنسية والألمانية الصنع، ويجول بيده على القليل من الأعمال التي يحتفظ بها، ومن بينها تمثال خشبي لسيدة أبى إلا أن يجسده كاملا.

تلك هي كرم الزيتون، قبضايات وفنانون، بيوت صغيرة ومؤسسات اجتماعية كثيرة وشارع يعيش له إيقاع يومي لا يشبه سواه. أما بؤر المخدرات والدعارة فهي «شائعة تلوث الكرم»، حسب طوني، قد تختبئ هنا بين الأزقة تماما كما تختبئ في علب الليل التي تملأ شارع عبد الوهاب الإنكليزي.

أعلى الصفحة