بدارو حي شاخ قبل أوانه

 وفرن الشباك تترحم على أيام المتاريس


لا لافتات تأييد للزعماء في بدارو ولا زحمة سير خانقة، لكن كل الأماكن لها رائحة ذكريات حي عاش ماضياً نابضاً، بعدما كان مقصداً لبورجوازيي لبنان وحلب، ثم تحول اليوم إلى مركز استقطاب لشركات ومؤسسات تجارية ومالية.

هات إيدك والحقني على بدارو.. والجملة ليست لمختار في الحي يريد التعريف بمنطقته، لأنه وبكل بساطة، لا يوجد مختار في المحلة هنا، ولم يسُجّل قيد نفوس أي من قاطني الحي في بدارو. تصبح الوجهة شبه محسومة عند الحاجة إلى معاملة إدارية ما: إما التوجه إلى مختار المزرعة، وإما مختار بيضون.

هات إيدك والحقني على بدارو يقولها جورج ابراهيم صاحب توريست تاكسي في بدارو منذ أربعين عاماً: هنا المتحف، ثم المديرية العامة للأمن العام، هنا واجهات استثمرتها شركات سيارات، وهنا مجموعات مصارف ولافتات كثيرة عن اطباء ومهندسين.

يطبع شارع بدارو الرئيسي إحساس بعز قديم، بقي منه بعض الأثر مع بنايات يوحدها لون أصفر معتّق وشرفات دائرية واسعة تزنّر غرفاً ذات سقف عال، وبين البنايات مجال لبعض شجيرات خضراء.

يضفي المشهد بعضا من الغموض على بدارو. يكاد يعصو الشارع على التصنيف، لا هو شارع خامل ولا هو شارع مكتظ ومتسارع النبض، فيه نمط حياة «رسمية» يحدده إيقاع عمل الشركات المتواجدة في المنطقة.

يعلّق ابراهيم بحسرة: باتت المنطقة مركز تجمّع اقتصادي وطبي، لم تعد مرآة أهلها الذين هاجروا بمعظمهم أيام الحرب. يتابع: رزق الله على بدارو في أول السبعينيات، كان الشغل متل زخ المطر، قبرنا الفقر قبل الحرب.

عشاق بدارو.. غصة الحرب

تلمع عينا ابراهيم عند الحديث عن مجد المنطقة الغابر، لا تُجهد ذاكرته أبداً كي يعود إلى زمن ما زال يحن إليه: استقطبت بدارو أغنياء من سوريا (حلب تحديداً) أيام الوحدة مع مصر بعد اختيارهم الهرب خوفاً من التأميم. هكذا عاشت المنطقة فترة انتعاش كبيرة، مطاعم ومبان واسواق بالجملة وحركة لم تتوقف ليلا نهارا.

يدّعم تاريخ المنطقة ما يقال في مكتب تأجير السيارات الصغير. عاش الحي عصراً ذهبياً في أوائل السبعينيات، مباشرة قبل الحرب الأهلية اللبنانية، أي بعد القفزة النوعية التي حققها في أواخر الستينيات، فانقلبت منطقة البساتين الشاسعة التي تضم عددا محدودا من المباني إلى اخرى تعج بالناس والمطاعم والحياة السريعة.

تتسارع الروايات في مكتب ابراهيم ويتسابق الحاضرون في تعداد اسماء تختزن ذكريات فرح نغصته الحرب: كانت مطاعم أورينتال ونوبار وألفونسو ملتقى لرواد من كل بيروت وخارجها، أما أطيب حلو فهو أكيد من حلويات لابارات.. لا تدع ليلى الحديث يكمل إلى آخره. تسحب الحاضرين ببسمة إلى ارض الواقع:«صار اللي بدو يذوق قطعة كنافة بيركض عالطيونة(!)، لم يعد هناك مجال لمحلات من هذا النوع في بدارو.

 تنكأ الجملة جرحاً تخفيه صورة بدارو التي حاولت استجماع نفسها بعد حرب الإلغاء. تهطل الشكاوى مرة واحدة على لسان رئيف البستاني الذي عدل عن افتتاح سوبر ماركت صغير في بدراو: أكلت المؤسسات الضخمة المحلات الصغيرة، لقد أصبحت المؤسسات المتواضعة تعد على أصابع اليد الواحدة الآن في الحي.

كان لموقع بدارو الدور الأبرز في نموها السريع، لكن الموقع المزدهر أيام السلم تلقى الضربة الأقسى خلال الحرب. وبدارو من الأحياء التي عاشت حربين حقيقيتين عوض الواحدة. امتدت الحرب الأهلية على مدى سنوات وأتت حرب الإلغاء لتوجه ضربة قاصمة لما تبقى من الحي المزدهر. هكذا، هرب «عشاق بدراو» من المنطقة على عجالة. يؤكد ابراهيم فداحة ما حدث ما شي هلكنا قد حرب الالغاء، كانت الحياة هنا جحيما لا يطاق وكل من كان قادرا مادياً قرر الرحيل.
تحس ببدارو تطالب بانتقامها من الحروب المتتالية في أكثر من مكان. يتأمل لويس الهاشم الشارع الأساسي متسلحاً بمعطف ثقيل وبيريه صوفية، يتحدث بغصة عن حرب سلبت الوطن الكثير لكنها سرقت من بدارو أغلى ما تملك، شبابها: تلات أرباع سكان بدارو صاروا كبار كتير بالعمر، فلّوا الشباب أيام الحرب وما عاد رجع حدا. تتكرر الشكوى على أكثر من لسان:

لم يعد شبان بدارو منذ الحرب، فضّل معظمهم البقاء في بلاد الاغتراب، لذلك نحس دائماً ان الحي شاخ قبل أوانه.

تحضر الفكرة نفسها على لسان سامية، وهي من المستأجرين القدامى في المنطقة، ترفض أن تعيد الفضل في النهضة التي عرفتها بدارو أواخر التسعينيات إلى تمركُز العديد من الوزارات والمؤسسات الرسمية (وزارة الاتصالات، المؤسسة العامة للإسكان، الضمان الاجتماعي، وزارة الاتصالات ومصلحة مياه بيروت) فيها: لا يستطيع أحد ان يعوض على المنطقة فقدانها لسكانها الأوائل، قام الكل بتأجير الشقق السكنية لشركات كبيرة، ولولا المدارس لكانت بدارو في حال يرثى لها، يكفي ان شباب بدارو غادروها ولم يعودوا.

يقود التجول في الشارع الرئيس الذي شق في الخمسينيات إلى شوارع متفرعة أخرى كطالب حبيش، بنوا بركات.. وصولاً إلى الطريق المؤدية إلى المستشفى العسكري. أمام المستشفى تذكّر فاطمة الخليل بحكاية شارع كان صلة الوصل مع بيروت الغربية، بعدما اشتهر خلال الخمسينيات بمعمله المنتج للألبسة القطنية. تملك الخليل وجهة نظر أخرى عن حيّ زارته وهي صغيرة ولم تغادره إلا بعدما قرر أولادها الهجرة: «بدارو تبقى بدارو، وبرغم كل ما يقال للحي رونق لا يزول.

أسواق فرن الشباك تصارع الأزمات

تفصل جادة سامي الصلح بين «حيين» مختلفين إلى حد الانفصام. تفرّق عشرات الأمتار بدارو عن فرن الشباك، لكنها أمتار كفيلة بقلب المشهد رأساً على عقب. يبث طريق الشام نبضاً لا يتوقف في شارع يعج بواجهات محلات ألبسة وأحذية وهواتف نقالة. يؤكد ابن المحلة جوزف خاطر: لولا طريق الشام لما كان هناك فرن الشباك.

يوافق حنا يعقوب على هذه المقولة، يتكئ ابن الخامسة والثمانين عاماً قليلاً كي يرتاح بعد ان عبر لتوّه الشارع المزدحم. يرصد يعقوب بدقة التغييرات التي طالت كل شارع وزقاق في المنطقة. هو يعرف فرن الشباك شبرا شبراً، بعد ان عمل كساع للبريد منذ العام 1951 لغاية العام 1987

لا يتحدث يعقوب عن فرن الشباك إلا بشهقة مسحوبة من أعماق القلب: «كانت فرن الشباك مشهورة ببساتين العنبر ومعمل الريحة (العطر). لم يعد هناك مجال لبساتين عطر أو ليمون».

تغيرت خارطة فرن الشباك جذرياً، فبعد ان بدأ يعقوب بالعمل متسلحاً بشنطة جلدية تمنع المطر عن رسائل توصل إلى كل بيت من بيوت فرن الشباك، كبرت الأحياء واتسعت: كانت فرن الشباك صغيرة جدا، كنت أوصل البريد مشياً على الأقدام وصولا إلى بيوت في الشياح، عين الرمانة والتحويطة، لم تكن البيوت عبارة عن بنايات عالية كما اليوم وكانت روح القرية والإلفة لا تزال سائدة.

كبرت فرن الشباك ولم يعد يعقوب يستطيع ان يوصل الرسائل مشياً، أتت الدراجة الهوائية لتحل المشكلة: رقّونا وعطونا بيسكلات (دراجة)، علت البنايات المؤلفة من خمسة وستة طوابق بسرعة قياسية، وترافق ازدهار فرن الشباك مع ازدهار عين الرمانة خصوصاً بعد النزوح إليها أيام الحرب.

 لا يمكن الحديث مع يعقوب أو غيره من سكان المحلة عن أبرز المحطات في تاريخ فرن الشباك من دون ذكر السلطان سليم الخوري شقيق رئيس الجمهورية السابق بشارة الخوري، يؤكد يعقوب: ما حدا كان يمرق إلا ويسأل خاطره، وحول بالتالي فرن الشباك إلى محطة اساسية للسياسيين وللراغبين في البحث عن حماية، فوضع فرن الشباك على الخارطة بقوة بعد ان أصبح مرجعا-.

يبلغ اليوم عدد قاطني فرن الشباك خمسين ألفاً وعدد أهاليها 11 الفاً بحسب أرقام البلدية، هذه الأرقام الكبيرة كانت نتيجة تراكم نزوح بدأ مع أحداث العام .1860 حوّلت موجات النزوح المتتالية خصوصاً خلال حرب الجبل، ما كان يعرف بضيعة تحويطة النهر إلى حي تتلاصق فيه الأبنية المتراصة والمحال التجارية.

تشكل فرن الشباك، إحدى بوابات بيروت الرئيسية، من هنا كانت التجارة خياراً بديهياً تحولت إلى مصدر رزق أساسي للقاطنين في المحلة. لكن الخيار الذي كان سبب «النعمة» في فرن الشباك بات اليوم مؤشراً حقيقياً لحساسية الوضع في البلد.

يجلس عبدو بدرا وهو صاحب محل زهور أمام بوابة محله، يناقش وجيرانه ما آلت إليه الأحوال: تدهورت أحوال السوق كثيراَ في السنتين الأخيرتين، عم نفتح كل النهار كرمال نسترزق، لقد تأثرت السوق أكثر مما يمكن للمرء ان يتخيله وطالعة الصرخة.

بدوره يتذكر جوزف خاطر كيف تدفع فرن الشباك هذا الأيام ثمناً غالياَ للتوترات السياسية مع ان السوق هنا نشأت وازدهرت قبل غيرها.

يؤكد بدرا ان الوضع أخذ بالتدهور منذ جريمة اغتيال الرئيس الحريري. لا يتردد بدرا في إجراء المقارنة المحرّمة: كانت فرن الشباك، حتى أيام خطوط التماس، تفتح كل ابوابها وكانت حركة الناس لا تتوقف ليلاً نهاراً. يبدأ القصف، تحتمي الناس في أماكن آمنة ثم سرعان ما تعود إلى السوق.
لا يحن بدرا ولا جيرانه طبعاً إلى أيام الحرب، لكن المقارنة نفسها تطفو إلى السطح أثناء حديث طوني، صاحب محل بيع ثياب جاهزة. يحيي ركود أيام التوجس ذكريات ازدهار أيام الحرب: كانت محلات فرن الشباك تحمي نفسها بأكياس رمل مكدسة أمام المحلات، لكننا كنا نعمل بشكل عادي.

أكثر من ذلك، شهدت المنطقة ازدهاراً وقتها.

يجمع الكل هنا انه بعد اتفاق الطائف، تغيرت المسلمات بعدما انفتحت المنطقة أكثر على الضاحية ما دفع بعدد من تجارها إلى المجيء إلى فرن الشباك. لكن التغيير الطفيف الذي حدث على هذا الصعيد لم يغير في خارطة الأحزاب كثيراً: لطالما كانت الأحزاب اليسارية نادرة في فرن الشباك، والمنطقة الآن تحوي تنوعاً بين المنتمين إلى التيار الوطني الحر، الكتائب، أحرار، القوات، أما القوميون فقد قل عددهم كثيراً عن السابق، يؤكد خاطر.

لا يهتم سليم ناصر كثيراً للأحزاب المسيطرة في فرن الشباك. يعمل الرجل في أقدم محطة محروقات في المنطقة تأسست في الأربعينيات. يستعيد خبريات وقصصاً فرضها موقع فرن الشباك كبوابة لبيروت وآخر محطة لسكك الحديد: كانت تجبى هنا خوّة الوافدين إلى بيروت لذلك كنا نعرف الشاردة والواردة في فرن الشباك، كل البضائع كانت تمر من هنا من البطيخ إلى الفحم.. الذي أكل منه الفأر مرة كيسين كاملين على ذمة جاري!.

اختفت سكة الحديد اليوم من فرن الشباك، وذهب معها ملعب كرة القدم والسينما القديمة لتحل البنايات العالية مكان المعالم تلك، لكن أهالي فرن الشباك يؤكدون على بقاء أمر أكيد ما زالت الناس تتشــارك في أفراحها وأتراحها يؤكد بدرا: نرقص فرحـاً في الأعراس سوياً، وما زلنا حتى اللحظة نشارك جميعاً في حمل نعش يمر إلى الكنيسـة، ومــن يرد ان يرى أبهى الأعياد فليقصد فرن الشباك يوم عيد البربارة.

أعلى الصفحة