استسلمت بساتين ليمونها لزحف الباطون

وتحولت إلى صورة مصغرة للنسيج اللبناني
الجْديْدة: عاصمة قضاء المتن عمّرت بيروت من صخورها

 تفلفش جديدة المتن اوراق دفاترها القديمة. تقلب فيها صفحات تعود لنحو مائتي عام، تاريخ المحطة الاولى لبلدة تنازلت عن بساتين ليمونها واخفت وجه بحرها وراء الباطون. من يومها بدأت تتغيّر ملامحها فصارت تشبه مدن الضواحي الكثيرة.

يعرف اهلها ان التغيير من طبائع المدن كما الناس، لكن كثيرين منهم كانوا يطمحون ان تزدهر بلدتهم بطريقة مختلفة.

نعمان زيدان، الشيخ الذي قارب الثمانين، يعبّر عن ذلك ويقول بحسرة ممزوجة بالسخرية ان بلدته كبرت مثلي على غفلة من الزمن، وحين انتبهنا لم يعد بالامكان غير ما كان

هل حقا تكبر الضواحي على غفلة من الزمن والعمر والاحلام؟ ام تراها تكبر على انقاض كل هؤلاء؟
في قصة الجديدة، عاصمة قضاء المتن، بعض من روايات الضواحي التي لا تنسى ابدا ان تذكّر بفضلها على العاصمة القريبة ـ البعيدة.  ويروي اكثر من شخص وبينهم رئيس البلدية انطوان جبارة كيف ان بيروت بنيت من صخور الجديدة. ففي الاربعينات اقيمت سكة حديد بين الجديدة وبيروت وتم نقل الصخور من كسارات منطقتنا ليتم اعمار العاصمة.

لكن قبل هذا وذاك، ومنذ اكثر من مائتي عام لم يكن احد يسكن ساحل المتن. كان ممرا للجيوش والعساكر. وفي فترة لاحقة راحت بعض العائلات تنزح من القرى المجاورة لتستقر ساحلا.
يطيب لرئيس البلدية جبارة ان يعدد «اتى آل يزبك من بكفيا، آل باخوس من بعقريف، آل كنعان من بحنس، آل جبارة من قرنة شهوان، آل نصور من كفرذبيان، آل زيدان من القصيبة، آل قزي من الجية...» وتطول لائحة العائلات التي راحت تزداد عاما بعد آخر.

وعلى امتداد سنوات طويلة حافظت الجديدة على طابعها «الجبلي» ونموها البطيء.

نمو تعكسه الارقام بوضوح. ففي العام 1952 تأسست اول بلدية في المنطقة. يومها بلغ عدد الناخبين 124 شخصا فقط. اما اليوم فعلى امتداد 4.60 كلم مربع، هي مساحة الجديدة، السد والبوشرية، يعيش اكثر من 150 الف مواطن، عشرون في المئة منهم فقط من ابناء البلدة اي نحو 25 الفا .

واذا كانت الدوائر الرسمية التي تعج بها الجديدة تتعامل بالارقام فان الناس يفضلون لغة اخرى في حديثهم عن بلدتهم. يتذكر جبارة حين كان يركض «بين بساتين الليمون ونذهب لاصطياد العصافير في الرويسات ـ الجديدة. يومها لم يكن عدد المنازل يتجاوز الثلاثين بيتا وكانت كل الشوارع والبساتين ملعبا لنا». يضيف «اذكر الجديدة حين طرقاتها ضيقة وحفافيها قديمة واراضيها زراعية لم تعرف الزفت بعد».

وبالحنين نفسه تتكلم جورجيت الحويك عن «موسم قطاف الزعتر في الرويسات والتلاقي في الكنائس القديمة، تتحسر لانه تم تجديد كل الكنائس: مار انطونيوس ومار سركيس ومار تقلا. اصبحت اوسع واكثر ترتيبا لكنها ، بالنسبة اليّ ليست اجمل مما كانت. خسرت شيئا ما، لا اعرف ان احدده بدقة، لكنه شيء جميل.

ليست الكنائس وحدها من خسر «الشيء الجميل» في الجديدة. فالمنطقة كانت على موعد آخر مع فورة بدأت اوائل الستينات واستمرت حتى العام .1975 بعد ذلك التاريخ ستتحمل الجديدة كما مثيلاتها من ضواحي بيروت وزرا يفوق طاقتها.

في العام 1955 اختار جبرايل صوايا، احد الذين اسسوا لاحقا منطقة الرابية الفخمة، ان يقوم بمشروع اعماري ضخم في منطقة الرويسات. كانت رؤيته ما طبقه في ما بعد في الرابية.

اختار 14 شريكا ليبدأوا ببناء القصور والشقق الفخمة مستفيدين من موقع منطقة الرويسات المميز. اختلف الشركاء فتفرقوا. ومن احلام مشاريع ضخمة بدأ يتسلل الى الرويسات ابناء المناطق النائية الذين تبعوا احلامهم وجاؤوا بحثا عن فرص حياة افضل.

وفي العام 1960 نشأت اول مدينة صناعية في الجديدة. افتتحت مصانع اعتبرت معالم في مجالها. والى تلك المصانع وغيرها في الجوار القريب، اتى شبان كثيرون من بعلبك، بشكل خاص، ومن بعض قرى الجنوب. صارت اسماء معامل العسيلي ومخباط وقرطاس ومعمل البيرة ومعمل الورق ومعمل النسيج معالم مشهورة في ايامها. عمل فيها ابناء الارياف كما عملوا في بلدية بيروت وبلدية برج حمود.

وعوضا عن ان تتحول الرويسات الى مكان سكن راق، راح البناء العشوائي يتسلل اليها وراح الفقر يطبع ساكنيها.

لم تتغير الحال كثيرا اليوم. شبح القلة يخيم على البلدة وان كان الناس يتسترون عليه بالتعميم كما حال آمنة التي تؤكد «ان الوضع صعب على كل الناس». لا تتذكر آمنة الرويسات والجديدة سابقا فهي تقيم فيها منذ ست سنوات فقط بعد ان انتقلت اليها مع عائلة ابنها. على شرفة منزلها صورة للسيد حسن نصرالله وعلى مرأى نظرها في الحي المقابل صورة للرئيس بشير الجميّل واخرى للنائب ميشال عون. نسألها رأيها فتبتسم قائلة :انا لا اتعاطى في السياسة.

يقول رئيس البلدية جبارة «ان الجديدة صورة مصغرة عن النسيج اللبناني. فهي تضم كل المذاهب الاسلامية والمذاهب المسيحية». يبتسم مضيفا «فقط لا يوجد لدينا دروز. اما الطوائف الاخرى فكلها موجودة».

ماذا عن المجنسين؟ يصر على التوضيح ان المجنسين الجدد هم من يقيمون في الجديدة منذ فترات طويلة هم بمعظمهم من السريان والاشوريين والارثوذكس وقد اتوا من البلدان المجاورة بسبب ظروفهم الخاصة. اما العرب، وهم المسلمون، فانهم مسجلون في مسح العام .1936 كانوا يأتون من الجبال ليقيموا ويسترزقوا هنا.

يصر جبارة على الاشارة الى «الانسجام والتوافق بين مختلف العائلات الروحية في المنطقة» مؤكدا «ان الروابط الاجتماعية والعلاقات اليومية بين الناس تبقي على طابع خاص لمدينة الجديدة، السد والبوشرية».

قد يرى كل انسان «الطابع الخاص» في مدينته لانه ينظر اليها بذاكرته وذكرياته واحلام ماضيه والمستقبل. اما اذا ترك الحكم للعين فقط فانها تلتقط سريعا حجم التشابه بين الجديدة وجوارها من البلدات. فالبلدة التي يحدها البحر غربا اخذت منه القليل خصوصا انها من اوائل المدن التي بدأت بحجب البحر عنها فأقيمت على شواطئها «الكازخانات» منذ العام .1940
وتتداخل حدود الجديدة، البوشرية والسد مع الزلقا شمالا ورومية في الشرق الشمالي والدكوانة وعين سعادة في الشرق الجنوبي وبرج حمود. اخذت البلدة عن كل جارة بعض خصالها وملامحها.

لا تتشابه كل احيائها وابنيتها. واذا كانت «البيوت اسرار»، فكذلك المدن. فبين حيّ وآخر، بين سوق تجاري ممتد لمسافة طويلة ومؤسسة تجارية ضخمة تتفاوت معطيات كثيرة. في الجديدة مساكن تتراوح اسعارها بين الثلاثين الف دولار و150 الف دولار. فيها من يتسترون على فقرهم وبعض من ابناء الطبقة الوسطى. اما الميسورون فباتوا قلة. وتعكس المدينة التي تضم نحو 36 مدرسة وجامعة ومعهدا فنيا ومؤسسة تربوية حرص ابنائها، كما معظم اهالي المتن، على اعطاء التعليم الاولوية.

تتزيّن الضواحي لتتألق. تعرف انها تبقى دوما اقل بهاء من العاصمة. لكن الجديدة، البوشرية والسد، ومن ينتسب اليهم من البلدات ضمن نطاق بلديتهم كالسبتية والروضة، ضواح تجيد ابراز بعض جمالها. تستعمل عمليات التجميل لتحافظ على شبابها. يساعدها ان بلديتها «مرتاحة ماليا» وفق ما يقول رئيسها، وهي الاكبر في جبل لبنان.

لكن تبقى الجديدة مدينة على تخوم بيروت. تكتسب منها وتكسبها ولا تتوقف عن الافتخار «صخور الجديدة بنت شوارع بيروت ومنازلها».

أعلى الصفحة