وجهات النظر حول أصل الأرقام العربية

 

 

أولا : من ذهب إلى أنها هندية أو سندية 

من أوائل الذين اختاروا هذا القول المؤرخ أحمد بن يعقوب المعروف باليعقوبي ، إذ قال في تاريخه : "إن أول ملوك الهند الذي اجتمعت عليه كلمتهم (برهمن) الملك ، الذي في زمانه كان البدء الأول ، وهو أول من تكلم في النجوم ، وأُخذ عنه علمها ، والكتاب الأول الذي تسميه الهند : الهند سند ، وتفسيره دهر الدهور ، ومنه اختصر الأرجبهد والمجسطي ، ثم اختصروا من الأرجبهد الأركند ، ومن المجسطي كتاب بطليموس ، ثم عملوا من ذلك المختصرات والزِّيجات وما أشبهها من الحساب . ووضع التسعة الأحرف الهندية التي يخرج منها جميع الحساب والتي لا تدرك معرفتها وهي . . وهي بالرسم الشرقي الحديث . 

  

وقد ارتضى المسعودي  هذا القول كما تقدم، ونقلتُ من قبل أيضا قول أبي الريحان البِيروني : "وكما أن صور الحروف تختلف في بقاعهم ، كذلك أرقام الحساب – وتسمى : (انك) - ، والذي نستعمله نحن مأخوذ من أحسن ما عندهم". وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد الخوارزمي الكاتب : "حساب الهند قوامه تسعة صور".  

 

وذكر أبو الحسن أحمد بن إبراهيم الأقليدسي في كتابه الفصول في الحساب الهندي  الأرقام  التي تعرف بالمشرقية وبالهندية ، ورأيتَ رسمها . وكذلك فعل كوشيار بن لبان الجيلي في رسالته أصول حساب الهند  كما عرفت . وصرح جمشيد الكاشي بهندية الأرقام المشرقية فقال : "اعلم أن حكماء الهند وضعوا تسعة أرقام للعقود التسعة المشهورة.

 

وقال طاش كبري زاده في رقوم الحساب : "وتنسب هذه الأرقام إلى الهند". وقال ابن النديم : "الكلام على السند : هؤلاء القوم مختلفو اللغات مختلفو المذاهب ، ولهم أقلام عدة . قال لي بعض من يجول بلادهم : إن لهم نحو مئتي قلم . . . وذكر هذا الرجل المقدم ذكره أنهم في الأكثر يكتبون بالتسعة الأحرف على هذا المثال  . . .  

    

وقد سبق أن الراهب السرياني (سيبخت) نَوَّه بالأرقام التسعة التي عرف بها الهنود ، وذلك في كتابٍ له وضعه بعد سنة 622م – وهذه السنة توافق عام هجرة النبي –صلى الله عليه وسلم- ، وتعد هذه أقدم إشارة لتلك الأرقام  .

 

ويبدو أن المذكورين عَنَوا الأرقام المشرقية من غير تعرض للمغربية منها ، وإن كان كلام بعضهم يحتمل إرادة أصل الأرقام التي تشمل المغربية أيضاً . وما تقدم قريباً عن ابن الياسمين في كتابه تلقيح الأفكار يدل على أن الأرقام بنوعيها تنزع إلى أصل واحد ، وظاهر كلامه يفيد أن ذاك الأصل هو الهند .

 

وفي هذا العصر قامت ثلة من العلماء والباحثين بنسبة الأرقام المشرقية والمغربية - على حد سواء - في أصلها إلى االهند أو السند ، وفي مقدمتهم الدكتور أحمد سليم سعيدان أستاذ تاريخ العلوم في الجامعة الأردنية ، وعميد كلية العلوم فيها سابقاً ، وعضو مجمع اللغة العربية الأردني ، "وهو يعتبر اليوم في طليعة المشتغلين بتاريخ علوم الرياضيات عند العرب"  .

 

ومن أقواله في ذلك ، ما يلي : "لا شك في أن أرقامنا –  سواء منها المستعملة في المشرق باسم الأرقام الهندية، أو المستعملة في المغرب باسم الأرقام العربية- هي هندية الأصل  . . . أما في بلاد السند (باكستان) التي يبدو أنها كانت المهد الذي فيه نشأت هذه الأرقام ، فتبقى الأرقام أكثر شبها بأصلها إلى اليوم . . . وأما سائر بلاد الهند فقد اتخذت لنفسها مجموعة أخرى مغايرة . . . ونحن الذين لدينا من النصوص ما يؤكد الأصل الهندي لهذه الأرقام، نجد هذه التسميات منطقية لا شبهة فيها، إلا أن الأجيال السابقة من المؤرخين لم يطلعوا على كتابات اليعقوبي والبِيْْروني والإقليدسي وغيرهم، فشكوا في صحة هذه النسبة" (يُنظر ما كتب عن الترقيم الهندي بالرابط الخاص بذلك) .

 

وكذلك الأستاذ قدري حافظ طوقان – عضو المجمع العلمي العربي بدمشق ، ونائب رئيس الإتحاد العلمي العربي، ورئيس الجمعية الأردنية للعلوم- ، القائل : "لقد اطلع العرب على حساب الهنود، فأخذوا عنه نظام الترقيم . . . وكان لدى الهنود أشكال عديدة للأرقام، هذَّب العرب بعضها وكوَّنوا من ذلك سلسلتين، عرفت إحداهما بالأرقام الهندية وهي التي تستعملها هذه البلاد وأكثر الأقطار الإسلامية والعربية ، وعرفت الثانية بالأرقام الغبارية، وقد انتشر استعمالها في بلاد الغرب والأندلس"  .

 

وقد ارتضى رأيهما الدكتور عبدالحليم منتصر في كتابه تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه ، والدكتور عبدالله العمري في كتابه تاريخ العلم عند العرب ، والأستاذ محمود باكير في بحثه : الرقم والعدد بين اللغة والرياضيات ، والدكتور محمد عبد الحكيم بخاري في كتابه الأرقام العربية (نشرت مجلة اللسان العربي المغربية "المجلد 12 ، الجزء الأول" تعقيبا باسم : الأرقام العربية في المشرق والمغرب – تقرير وزارة الإعلام في دولة الكويت . وجاء في هذا التعقيب ، أن الأرقام المستعملة في المشرق والمغرب من أصل هندي) ، والدكتور عمر فروخ – عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة وعضو المجمع العلمي العربي في دمشق وعضو جمعية البحوث الإسلامية في بومباي – في كتابه تاريخ العلوم عند العرب  .

 

بل إن الأستاذ عبد الهادي التازي سفير المغرب ببغداد – سابقا- ذكر في بحث له قدمه سنة (1383هـ/ 1963م) إلى حلقة توحيد الأرقام العربية ، التي انعقدت في تونس – برعاية الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية – أن الأرقام  المشرقية والمغربية من أصل هندي ، لكنها مرت بمراحل ابتعدت فيها عن شكلها الأصلي ، مضيفاً أن المغاربة : "تمسكوا بتحوير جوهري أدخلوه على الأرقام الواردة . . . ولعل هذا التحوير الجوهري هو الذي حدا بالعرب أن يتبنوا هذه الأرقام" (الأرقام المغربية أرقام عربية أصيلة . وتبعه على هذا القول – فيما يبدو – الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله في بحثه : العالم العربي متجه نحو استعمال الأرقام العربية المغربية ، إذ قال : "وإذا قلنا بأن الأرقام المشرقية الحالية والأرقام الغبارية كلاهما من أصل هندي ، فإن ذلك يرجع إلى تعدد أشكال الأرقام الهندية تبعا لمناطق بالهند كما لاحظ ذلك البِِيروني ، ولعل العرب اكتفوا من هذه الأشكال بصنفين فقط ، نتج عنهما الطريقتان المشرقية والغبارية المغربية إذا صح أن هذه ليست عربية أصيلة . وقد أكد ابن الحباك محمد بن أحمد التلمساني . . . أن حساب الغبار من وضع الهنود الذين كانوا يتصرفون به في غبار مبسوط على لوح وأشكالها تسعة .

 

وفي ذلك إشارة إلى عادة رش الغبار على الألواح المستعملة لإجراء الحساب ليمكن رسمها بالأصبع . والأرجح عند البعض في تعليل هذه التسمية أن هذه الأرقام كانت تكتب بالقلم المسمى "غباري" ؛ لدقته بالنسبة للأقلام الأخرى ، وهو أصلح للحسابات ، وهذه أيضا نظرية تؤكد انفصال القلم الغباري عن القلم الهندي . . . فعروبة الأرقام المستعملة الآن في أوروبا والمغرب قد تكون غير أصيلة نظرا لطابعها الهندي المحتمل ، غير أن هنالك فرقاً بين الشكل الهندي الأول وبين ما أصبح العرب يستعملونه من أرقام وَصفتها أوروبا بأنها عربية) .

ومحل الشاهد هنا هو الإقرار بأن أصل الأرقام بنوعيها هندي ، رغم ما وقع فيها من تغيير وتحوير وابتكار .

وذهب الدكتور محمد السمان إلى نحو هذا عندما قال : "لكن الفزاري لم ينقل الأرقام الهندية ، وإنما استوعب فكرتها وتوصل إلى وضع رموز عربية مستوحاة منها ، ومع الأيام ظهرت أجيال جديدة ومتعددة لهذه الرموز . . . وفي الوقت الذي تمكن فيه العرب بجهودهم وممارساتهم العلمية من تطوير الأرقام إلى هذين النوعين انطلاقاً من تصور هندي سابق كانت أوروبا في ظلام الجهل" (وأما ما ذكره من وضع الفزاري للأرقام فإنه لا دليل عليه كما سيأتي إن شاء الله تعالى) .

 

ويرى العلامة السيد عبد الله بن محمد بن الصِّديق الغماري : أن ما يستعمله المشارقة من أرقام هي هندية  ، بخلاف الأرقام المغربية كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وذهب إلى هذا الرأي أيضاً محمد السراج الأستاذ بجامعة القرويين سابقاً  (عن / الطابع العربي في الأرقام الرياضية – مع أن بداية بحثه هذا فيه نوع من المخالفة للنتيجة المذكورة التي توصل إليها) . وناقضهما الدكتور قاسم السامرائي ، إذ رأى أن الأرقام التي يستعملها المغاربة اليوم "هي هندية ، سنسكريتية ، آرية ، برهمية الأصل ، جاءت إلى الغرب من الترجمات العربية لكتب الحساب الهندي ، فلما ترجمت هذه الكتب من العربية  إلى اللاتينية ظن الأوربيون أنها أرقام عربية" (تاريخ الخط العربي وأرقامه) . بخلاف الأرقام المستعملة في المشرق كما سيأتي إن شاء الله تعالى (وتنظر آراء جماعة من الغربيين في هذه المسألة على عمومها في مقدمة تحقيق الفصول في الحساب الهندي ، وغيره ، وقد تقدم شيء من ذلك عند الحديث عن الترقيم الهندي) .

 

وبعد هذا فإنه ينبغي تحديد التاريخ الذي انتقلت فيه الأرقام من الهند أو السند إلى العرب بناء على هذا القول الأول ، وتوضيحه فيما يلي :

إن أول إشارة للأرقام الهندية هي التي ذكرها الراهب السرياني (سبيخت) – الذي كان في دير قِنِّسرين – في كتاب له وضعه بعد سنة 622 م وهذه السنة توافق عام هجرة نبينا – صلى الله عليه وسلم – منوهاً بعلوم للهند غفل الناس عنها ، ومن ذلك أنهم بتسعة إشارات فقط يرمزون إلى أي عدد كان (يُنظر ما تقدم آخر الكلام عن الترقيم الهندي) .

 

 لكن الغموض اكتنف تاريخ هذه الأرقام بعد تلك الإشارة المجملة ، إلى منتصف القرن الثاني الهجري في عهد أبي جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس ، حيث أُعجب العرب بعلم الفلك الهندي الذي قادهم تلقائياً إلى تعلم حساب الهنود وأرقامهم ، وكيفية ذاك الاتصال الديواني الأول يحكيها لنا صاعد الأندلسي في كتابه طبقات الأمم فيقول :

"وأما علم النجوم فأول من عُني به في هذه الدولة محمد بن إبراهيم الفزاري وذلك أن الحسين بن محمد بن حميد المعروف بابن الأدمي ، ذكر في زِيْجه الكبير المعروف بِنَظْم العقد : أنه قدم على الخليفة المنصور في سنة ست وخمسين ومئة ، رجل من الهند بالحساب المعروف بالسند هند في حركات النجوم . . . في كتاب  يحتوي على اثني عشر باباً (قال الدكتور سعيدان في مقدمة تحقيقه لكتاب الفصول في الحساب الهندي : "والمرجح أن السند هند الكبير الذي يتكلم عنه نص ابن الأدمي ، هو الكتاب الذي وضعه براهما جبتا سنة 627 م. – (6 هـ.)" . ثم قال في الصفحة التالية : "إلا أني استنادا إلى إشارات أخرى للبِيْروني أرى أن الأمر بين الهندي والمترجمين إلى العربية لم ينحصر في نقل كتاب معين بل كان شرحا لمادة الفلك الهندي ، دخل فيه عناصر من كتب براهما جبتا وأريابهاتا والسدهانتات الأخرى ، وربما دخل فيه عناصر غريبة عنها كلها" . ويُنظر : العد والترقيم عند العرب) . . . فأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى اللغة العربية ، وأن يُؤَلَّف منه كتابٌ تجده العرب أصلاً في حركات الكواكب ، فتولى ذلك محمد بن إبراهيم الفزاري ، وعمل منه كتاباً يسميه المنجمون (السند هند الكبير) . . .  فكان أهل ذلك الزمان يعملون به إلى أيام الخليفة المأمون ، فاختصره له أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي ، وعمل منه زِيْجه المشهور ببلاد الإسلام ، وعدَّل فيه . . . واخترع فيه من أنواع التقريب أبواباً حسنة . . . فاستحسنه أهل ذلك الزمان" (وقام جمال الدين علي بن يوسف القفطي بنقل كلام ابن الأدمي أيضا ، وذلك في كتابه إخبار العلماء بأخبار الحكماء . وكتاب صاعد الأندلسي احد مصادر ابن القفطي .

 

ونذكر هنا ان من الإشارات العربية القديمة إلى حساب الهند قول أبي عثمان الجاحظ – المتوفى سنة 255 هـ. – في رسالته : المعلِّمين – المطبوعة ضمن رسائل الجاحظ – تحت فصل : رياضة الصبي : فمن الرأي أن يُعتمد به في حساب العقْد دون حساب الهند ، ودن الهندسة) .

فقد اعتمد جماعة هذا النص ، للدلالة على أن الأرقام الهندية انتقلت إلى الديار العربية عبر ذلك الفلكي الهندي الوافد ، إلا أن العلامة الدكتور أحمد سليم سعيدان ، دحض هذا الرأي بأنه لا أثر للأرقام العربية التي استعملها المشارقة والمغاربة في ذلك الكتاب الذي حمله الفلكي الهندي ، ولا في الإشارات الكثيرة التي اقتبسها البِيْروني من كتاب محمد بن إبراهيم الفزاري ، بل لا توجد تلك الأرقام في ما وصف بأنه أول كتاب وضع بالعربية في الحساب الهندي ، وهو كتاب أبي جعفر محمد بن موسى الخوارزمي – وإن كان يزعم كثير من المؤرخين أنه الكتاب الأول الذي نقل الأرقام الهندية إلى العالم الإسلامي - ، وذلك من خلال ما تبقى منه مترجماً إلى اللاتينية – لأن الأصل مفقود - ، وإنما فيه أرقام مختلفة فضلاً عن طريقة الحساب المغايرة  لما اتفقت عليه الكتب العربية في الحساب الهندي .

والكتب العربية التي وصلت إلينا في الحساب الهندي – وأقدمها كتاب الفصول – أخذت بما يسمى بحساب التخت (اللوح) والتراب ، أو حساب الغبار ، ويبدو أن هذا الحساب كان منتشراً في السند (لذا لا توجد في كتب الحساب الهندي لدى العرب مصطلحات سنسكريتية ، أو ألفاظ هندية ، أو إشارة لكاتب أو كتاب هندي ؛ بخلاف كتب العرب في الفلك الهندي – مقدمة تحقيق الفصول في الحساب الهندي - .

وقد رجح الدكتور سعيدان – كما في المصدر السابق - : "أن الحساب الهندي العربي يحمل آثارا فارسية ، وهنا نذكر أن الأجزاء الشمالية الغربية من الهند خضعت زمنا طويلا للحكم الفارسي" .

 

وقال الدكتور سعيدان في قصة الأرقام والترقيم : "فللهند عامة وللسند على نحو خاص يرجع الفضل في ابنكار الأرقام التي تستعمل اليوم في معظم أنحاء العالم ، ولكن فضل العرب والمسلمين في أنهم انتشلوا النظام الحسابي الهندي من أوساط العامة ، وجعلوه علما توضع فيه الكتب ، ونشروه وعدلوه ومدّوه" . وينظر عن دور المسلمين الرائد في تهذيب وتطوير الحساب الهندي وأرقامه الصادر التالية : قصة الأرقام والترقيم،  مقدمة تحقيق الفصول في الحساب الهندي ،  مقدمة تحقيق المقالات في علم الحساب ، علم الحساب عند العرب ،  وغيرها") . وما جاورها بين عامة الناس، لاسيّما التجار – وأهل تلك الناحية يكتبون بالخارشتية، التي كانت تتجه من اليمين إلى اليسار- .

ويفترض أن يكون هذا الحساب نتاج مدرسة ، لكنه لم يصل إلينا شيء من كتبها (قال الدكتور أحمد سعيدان في علم الحساب عند العرب : "المصادر الهندية الكلاسيكية (السنسكريتية) . . . ليس فيها من هذا الحساب الهندي الذي تصفه الكتب العربية شيء . . . المصدر الوحيد المعروف الذي فيه ملامح من هذا الحساب . . . مؤلفه "دهاره" عاش ما بين 650 م  و  950 م – (أي بين 235 – 338 هـ تقريبا) - ، فإذا صح ذلك يكون دهاره قد عاش في العهد الذي شرع فيه الحساب الهندي يشق طريقه في العالم الإسلامي . . . إلا أن الكتاب نفسه كغيره من الكتب الهندية القديمة ، تعطى فيه القواعد الحسابية بأراجيز شعرية موجزة لا مكان معها لكتابة رموز أو تفصيل عمليات" . وينظر قصة الأرقام والترقيم، كما ينظر العد والترقيم عند العرب، وقد تقدم إيراد الشاهد منه عند الكلام على الترقيم الهندي) . ، ولعل ذلك بسبب طبيعتها القائمة على الغبار والمعتمدة على المحو .

 

ويضن أن العرب المشارقة تلقوا هذا الحساب مع أرقامه عن طريق التجارة البرية ، وحمله أهل الشمال الإفريقي في تجارتهم البحرية . واختلاف أشكال الأرقام المشرقية والمغربية سببه تعدد صور الأرقام في الهند والسند – كما تقدم عن ابن النديم والبِيْروني - .

ولعل ما تقدم عن الراهب السرياني "سيبخت" ، يومئ إلى أن بعض العرب المسلمين عرفوا تلك الأرقام قبل أن يكتب الخوارزمي كتابه في الحساب الهندي بوقت طويل ، لكن الخوارزمي لفت نظر علماء الحساب إلى أهمية الحساب الهندي – رغم أنهم لم يأخذوا بطريقته في ذلك (لكن جاء في كتاب طبقات الأمم لصاعد الأندلسي ما نصه : "ومما وصل إلينا من علومهم في العدد حساب الغبار الذي بسطه أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي ، وهو أوجز حساب وأصغره وأقربه تناولا") .- ، فمن ذلك الوقت راح الناس يتمسكون بتلك الأرقام وعملوا على إشاعتها (فهذا الذي تقدم فهو رأي الأستاذ المحقق الدكتور أحمد سعيدان استخلصه من المصادر التالية : قصة الأرقام والترقيم ، مقدمة تحقيق الفصول في الحساب الهندي  ، وعلم الحساب عند العرب) ونحن بدورنا موقع الأرقام استقيناه من كتاب "الأرقام العربية – تاريخها وأصالتها وما استعمله المحدثون وغيرهم منها / لمؤلفه الأستاذ الدكتور الفاضل قاسم علي سعد جزاه الله كل الخير) . 

 

ثانيا : من ذهب إلى أن تلك الأرقام عربية الأصل والفصل

قام عدد من الباحثين المحدثين بإثارة هذا الرأي ، فقدّموا دراسات مهمة استوقفت المعتنين بهذه المسألة ، وحقيق بهم أن يتوقفوا ؛ لما اتصف به هذا الرأي من متانة وجدارة : فقد ذهب هؤلاء إلى أن تلك الأرقام عربية ذات أصالة وعراقة ، مع ملاحظة التفاوت والاختلاف فيما بينهم في التفصيل والتحليل :

فالدكتور عدنان الخطيب الذي كان الأمين المساعد لاتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية ساهم في هذه الدراسات ، وتوصل إلى ان الأرقام التي استعملها العرب في مشرقهم ومغربهم عربية في مولدها ونشأتها ، وأنها أشكال متطورة عن الحروف العربية بترتيبها الأبجدي وبحسب قيمتها بحساب الجُمّل، ثم مرت أيضا بمراحل تطور مطَّرد . ودلّل على ذلك بالتشابه بين الأرقام - بنوعيها - والصور المقابلة لها في الحروف الأبجدية، وأنه لا يوجد برهان على أخذ العرب لشكل أرقامهم عن الهنود ، مع التباين الكبير بينها وبين الأشكال المتوارثة في الهند - هذا مع التسليم بإفادة العرب من النظام الحسابي الهندي . (التعريف والنقد : الأرقام العربية ورحلة الأرقام عبر التاريخ 391 , 394 ، الأرقام العربية بين مشرق الوطن العربي ومغربه 294 - 295 ، صلة الكلام في تسوية الأرقام 28 ، 30 .

وقدم الدكتور أحمد العلوي أستاذ اللسانيات بكلية الآداب بالرباط بحثا بعنوان : (رواية الحرف والعدد العربيين) ، بين فيه - بتكلف - أن الأرقام العربية - ويقصد ما يستعمل منها في المغرب - مقتبسة من الحروف العربية ، فهو يقول 46 : "وغاية الامر في هذا ان مرتب الأرقا اصطفى من الحروف العربية عشرة حروف، دوّر بعضها وربّع ونكّس وقعّد وأقام البعض الآخر" . وللأستاذ بجامعة القرويين سابقا محمد السراج مقال سماه : (الطابع العربي في الأرقام الرياضية) ، ذهب فيه إلى أن الأرقام العربية - ويعني ما يستعمل منها في المغرب أيضا - : "تكتسي بعض ملامح الحروف العربية، وتحتفظ بمدلول بعضها من حساب الجُمّل . . . ولا سيما إذا قارنت بين الحروف العربية والأرقام العربية في مختلف العصور، وإنما غيرت الأرقام للتفريق بينها وبين الحروف خوف الالتباس ، أو تغيرت . . . بواسطة الأقلام المختلفة" أ . هـ . من الصفحة 66 .) .

وارتضى الدكتور أحمد مطلوب هذا الرأي، فقرر أن الأرقام بنوعيها عربية، وأن العرب وضعوا صورها وأشكالها ولم يأخذوا ذلك عن الهنود ، وإنما أخذوا عنهم فكرة الأرقام القائمة على النظام العشري . وهو يرى أن واضع تلك الأشكال هو محمد بم إبراهيم الفزاري . (الأرقام العربية للدكتور مطلوب، وينظر ما تقدم قريبا عن الدكتور سمان) .

ولم يسم الدكتور عدنان الخطيب الواضع لها ، لأنها في رأيه صور متطورة عن الحروف العربية كما سبق ، بيد أنه صرح بأن أول من حفظ لنا الأشكال الأولى للأرقام - التي تسمى بالهندية -، هو محمد بن موسى الخوارزمي، ثم أبو الحسن الإقليدسي . (الأرقام العربية بين مشرق الوطن العربي ومغربه ، وينظر الخط العربي نشأته وتطوره) .

وذهب بعض الذين اختاروا هذا القول إلى أن عربية تلك الأرقام ضاربة في القدم، موغلة في التاريخ ؛ وسبق عند الكلام على الترقيم الهندي أن (سمث) و (كاربنسكي) - وهما من كبار الباحثين الغربيين في مسألة الأرقام - وجدا شبها بين الأرقام الخاروشتية الشعبية والحروف النَّبَطية (وتقدم أيضا في المكان المحال عليه أن (درنجر) أحد علماء الغرب يرى ان الأبجدية الخاروشتية وليدة الحروف الآرامية ، ويرجح ان تكون الأبجدية البراهمية وليدتها أيضا . مقدمة تحقيق كتاب الفصول في الحساب الهندي ، وذكر من قبل أن الآراميين عرب الأصل على رأي بعض المحققين . وينظر كتاب الأرقام العربية للدكتور بخاري) . وإن كانا استبعدا أن تكون الأرقام الخاروشتية هي أصول الأرقام العربية ، فإن بعض المحققين من علماء المسلمين - كما تقدم - مال إلى ان الأرقام الخاروشتية هي أصل لها (مقدمة تحقيق كتاب الفصول في الحساب الهندي) . وعرف من قبل أن الأنباط من العرب .

وقد تحمس الدكتور قاسم السامرائي لبيان عروبة الأرقام المشرقية ، وانا قوله هنا رغم طوله لجودته ولفتحه آفاقا جديدة في هذا المضمار ، قال : (أما الأرقام الشائعة في المشرق العربي فهي آرامية فينيقية نبَطية تدمرية ، فهي لذلك عربية الأصل والنّجار ، لا شك فيها إطلاقا . . . فقد كان الأنباط يستعملون نوعين من التوريخ لا يختلفان عما استعمله نساخ المخطوطات أو علماء الرجال والطبقات والتاريخ ، إذ كانوا يستعملون التوريخ كتابة مثل قولهم : في السنة الخامسة من حكم الحارث ، أو أنهم كانوا يستعملون حساب الجمّل أو الأرقام في توريخ الحوادث ووفياتهم (اعتمد الدكتور السامرائي في هذا على بحث للدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب - باللغة الإنجليزية - ، وتعريب عنوانه : نقشان نَبَطيان مؤرخان - من الجوف . ثن أحال على بحث آخر للدكتور الذييب باسم : نقوش نَبَطية جديدة من قارة المزاد سكاكا - الجوف ، نشر في مجلة العصور المجلد (7) الجزء (2) الصفحة 238 . وقد اطلعت على هذا البحث المفيد ، ولم يرد الترقيم إلا في النقش التاسع عشر منه .

 

ومن النقوش العغربية المكتوبة بالخط االنّبَطي - بعد انقراض مملكة الأنباط بمدة طويلة - والمؤرخة بالأرقام : نقش المنارة - وهي بلدة بحوران في جنوب سوريا - ، الذي وجد على قبر امرىء القيس الأول ابن عمرو أحد ملوك لخم .

فالأرقام موجودة في السطر الأخير فقط ، وقد قال الدكتور بعلبكي في كتابه المذكور 124 معلقا على هذا النقش - واقتصر على ما يختص بالسطر الأخير لا سيما الأرقام - : "وهو مؤرخ باليوم والشهر والسنة ، في 7 كِسلول (تشرين الثاني - كانون الاول) من سنة 223 من تاريخ بُصرى { وهو التقويم الذي كان يستعمله عرب هذه الأطراف ونَبَطها} أي سنة 328 ميلادية . وإن نقلنا نص المنارة بالكتابة العربية نقلا حرفيا لجاء - (السطر الأخير) - كما يلي : . . . عكدي . هلك سنة 223 يو 7 بكسلول بلسعد ذو ولده" . انتهى من كتاب بعلبكي مع إضافة ما بين المعقوفتين من كتاب المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي 8/176 . وقد زاد الدكتور جواد : "وتعد هذه الكتابة أول كتابة وأقدم كتابة عثر عليها حتى الآن مدونة باللهجة العربية الشمالية القريبة من لهجة القرآن ، وإن كتبت بالقلم النّبَطي المتأخر وبأسلوب متأثر بالإرمية" . . . وينظر تفسير هذا النقش في كتاب بعلبكي 126 - 143 . وقال الدكتور علي عبد الله الدفاع في كتابه الموجز في التراث العلمي العربي الإسلامي 61 - 62 : "ومن بواعث الأسف الشديد أن كثيرا من المؤرخين العرب والمسلمين يخطئون خطأ فاحشا بتسميتهم الأعداد العربية بالهندية ، مما ادخل الشك في نفوس كثير من الشباب المتعلم في البلاد العربية والإسلامية ، وأتاح لعلماء الغرب فرصة انتهزوها لتبني هذا الاسم المغلوط ؛ ولكن من فضل الله علينا أن الكاتب المعاصر عبد الرحمن عبد اللطيف نشر مقالة بمجلة العلم بعنوان "الأرقام العربية" ، ساعدت على إزالة هذا الشك الخطير ، فقال : (إن الأرقام الغبارية ابتكرها العرب منذ أول عهدهم بتعليم الكتابة العربية قبل البعثة المحمدية ، فيما بين منتصف القرن الثالث الميلادي ونهاية القرن السادس الميلادي ، وهو الوقت الذي تم فيه أيضا تحول الخط العربي من صورته النّبُطية البحتة إلى صورته العربية المعروفة التي نراه عليها الآن ، والتي لا تبعد كثيرا عن صورة الخط النّبَطي التي كانت يومئذ هي نفس صورة الأرقام الغبارية تماما ، وقد علم ذلك مؤخرا عندما رأينا الخط النّبُطي . . . في بلدة النمارة بحوران في نقش مؤرخ سنة (328) ميلادية" . وينظر المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام 8/243 ، 246 ، وبالمقارنه بينه وبين النص الأخير تظهر المبالغة في كلام الكاتب عبد الرحمن عبد اللطيف .

 

لقد استمر الحسابون يستعملون الأرقام السنسكريتية لوحدها ، أو مع النبَطية العربية في كتبهم منذ بداية القرن الرابع للهجرة في المشرق والمغرب ، وأطلقوا على كتبهم مسمى الحساب الهندي ، لان علم الحساب جاء إليهم من الهنود كما يظهر من مخطوطات علم الحساب . . . فمن غير المقبول عقلا ومنطقا ان يقتبس الأنباط خطهم وتوريخهم بحساب الجمّل من الآراميين ويتركوا طرائق حساباتهم بالأرقام .

ومن غير المقبول عقلا أنهم وقد بلغوا ما بلغوا من السمو الحضاري والتجاري ، ثم أنهم لم يستعملوا أرقاما معينة خاصة بهم في الحساب مما تفرضه المعاملات التجارية عليهم ، فقد كان منهم تجار يهبطون الأسواق العالمية في الإسكندرية وفي الشام واليونان والعراق والحبشة والهند . . . من إن الثابت من النقائش أنهم استعملوا الأرقام إضافة إلى حساب الجمّل فعلا ، فانتقلت هذه الأرقام مع الخط إلى الهند وإلى عرب الحجاز قبل الإسلام ، ومن ثم إلى البلدان الإسلامية الأخرى بعد الفتوح ، بعد أن مرت بفترات طويلة من التطور والتغيير . . . وهذا يتفق مع ما حكاه ابن النديم والبيروني عن الأرقام التي عرفوها في الهند والسند .

 

ويؤيد ما ذهبت إليه أن بعض من كتب في الأرقام ووصوله إلى أوربا ، رأوا أن الكتابة البراهمية الهندية التي تكتب من اليسار إلى اليمين وهي أهم الأبجديات الهندية قد اقتُبست من الكتابة الفينيقية ، بينما تكتب الأبجدية الخارشتية الهندية من اليمين إلى اليسار فهي لذلك مقتبسة من الآرامية . والآرامية هنا بمعنى النّبَطية ، لأن النّبُط هم الذين كانوا يتاجرون مع الهند عبر ميناء جرها على الخليج العربي (تاريخ الخط العربي . وقد وعد الدكتور السامرائي في هذا البحث بأنه سيُصدر له كتاب حول الأرقام وأصولها وتطورها ، اعتمادا على النقوش والنقود والمخطوطات) .

وأكد عدد من علماء المغرب عروبة الأرقام المستعملة الآن في بلادهم - وليتهم اقتصروا على إثبات عروبة أصلها ، وهو ما يسمى بالأرقام الغبارية - ؛ منهم الأستاذ محمد السراج إذ يقول : "فالأرقام المغربية من وضع عربي مغربي" . وكذلك العلامة الشيخ عبد الله بن محمد بن الصدّيق الغماري ، ومؤرخ المملكة المغربية عبد الوهاب منصور ، وغيرهم .

 

واستدلوا بما ذكره ابن الياسمين في كتابه تلقيح الأفكار في العمل برسوم الغبار (العالم العربي متجه نحو استعمال الأرقام العربية المغربية 47 ، دليل جديد على عروبة الأرقام المستعملة في المغرب العربي لأبي فارس 231 . وتقدم إيراد الشاهد من كلام ابن الياسمين ، فليُرجع إليه) ، كما استدلوا بالتقسيم الذي ذكره حاجي خليفة بقوله : "كالأرقام الهندية ، والرومانية ، والمغربية ، والإفرنجية" (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) . والذي أورده القلقشندي بقوله : "علم حساب التَّخْت والميل : من الكتب المصنفة فيه على طريق الهندي كتب متعددة ، ومن الكتب المصنفة فيه على طريق الغبار كتاب الحصار" (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) . وقد تقدم توجيه بعضهم لتسمية الأرقام المغربية بالغبارية ، بأنها كانت تكتب بالقلم المسمى : (غباري) لدقته .

 

وثمة نظرية وضعها أحد الغربيين وهو (كرا دي فو) ، واعتمد عليها في إثبات عروبة الأرقام ، وأنها ليست هندية ، وذلك عندما عثر على نص عربي يُسمي الحساب الهندي بالهندسي ، والحروف الهندسية ، ثم خلص إلى وضع تلك النظرية التي حددت أن ما يسمى بالأرقام الهندية أو العربية إنما هي في الأصل أشكال هندسية ابتكرها محمد بن موسى الخوارزمي ، ثم حُوِّرت لتلائم الكتابة باليد . . . وعدد الزوايا في كل شكل يدل على رقمه (قصة الأرقام والترقيم 74 - 75 . لكن الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله في مقاله : العالم العربي متجه نحو استعمال الأرقام العربية المغربية 47 نسب إلى (كرا دي فو) تجيير ذلك لصالح اليونانيين لا العرب كما سيأتي إن شاء الله تعالى . ويُنظر الأرقام الهندية شرقية لا غربية 1491 ، 1492 .

وقد انتقد الدكتور أحمد سليم سعيدان نظرية (كرا دي فو) - حسبما حكاها هو - فقال في قصة الأرقام والترقيم 75 : "رغم طرافة هذا الافتراض لم يقبله الباحثون ، إذ لم يعثروا على أشكال مكتوبة على هذا النحو الهندسي الرتيب ، ولم يلبث أن تبين أن (كرا دي فو) كان واهما ، إذ ان الطريق الهندسي إنما هو هِنْدُسي (هندوسي) نسبة إلى الهندوس لا الهندسة ، وهكذا بادت نظرية (كرا دي فو)" . وفي كلام الدكتور سعيدان رد أيضا على ما ذكره العلامة المحدث عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري في كتابه خواطر دينية 162 بقوله : "وأول من اخترعها - (يعني الأرقام المستعملة اليوم في المغرب) - عربي أندلسي كما في نفح الطيب ، اخترعها على أساس الزوايا ، فرقم واحد يكون زاوية ، ورقم اثنين يكون زاويتين ، وهكذا إلى تسعة" .

وقال الأستاذ محمد السراج في مقاله : الطابع العربي في الأرقام الرياضية 65 : "أما النظرية التي تزعم أن الأشكال الحسابية هي زوايا في أصل وضعها ، فلا تطرد في جميع سلسلة الأرقام ، لأنها وإن تيسرت بالنسبة لرقم الواحد من انه في الأصل زاوية ، وبالنسبة للاثنين من كونها في الأصل زاويتين ، وكذا الثلاثة من كونها ثلاث زوايا ، والأربعة من كونها أربع زوايا ، فهي تتعذر في الخمسة والسبعة والثمانية ، وتعسر إن لم نقل مستحيل في الستة والتسعة إذ لا فرق بينهما إلا في الوضع العكسي . وعلى فرض إمكان ذلك مع تكلف ، فإن الغرض من الأعداد : الدلالة على معدوداتها المتنوعة لا على كمية الزوايا حتى يكون ذلك مبررا لصرف المجهودات من أجل تصحيح تلك النظرية ومناقشات حولها واستنتاجات منها" .

وينظر : تاريخ العلم عند العرب 134 ، ودراسات في تاريخ العلوم عند العرب 85 ، والتعريف والنقد : الأرقام العربية ورحلة الأرقام عبر التاريخ 391) .

 ثالثا : من زعم أنها إغريقية ولاتينية

دأب فريق من الغربيين على انتهاز الفُرص للسطو على حقوق الآخرين ، والاستحواذ على أشيائهم ، فكم من مآثر ومحامد للمسلمين ادّعوها ظلما وبغيا . وفي هذا المقام حاول بعضهم طمس الحقائق الناصعة ، متنكبين عن سنن الحق وجادة الصواب ، ومتعلقين بامثال خيوط العناكب (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) سورة النكبوت آية 41 .

فقد ادعى بعضهم ان الأرقام العربية جاءتنا من طريقهم ، أو أنها لم تصل إلينا إلا بعد أن سُقيت بدلوهم ، زعموا ذلك لما وجدوا فينا وهنا وغفلة ، ولله درُّ القائل :

ومن رعى غنما في أرض مسبعة     *     وغاب عنها تولى رعيها الأسد

قال الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله : "بعض العلماء أمثال (كرا دي فو) و (كاي) و (كولان) ، (لاحظ إبتداء الأسماء الثلاثة بحرف الكاف) يرون أن مبدأ الترقيم يعود إلى الرياضيين اليونانيين ، حيث يرى (كرا دي فو) أن كلمة : هندي ، راجعة إلى كلمة (End) ، الفارسية ، بمعنى قياس في الحساب والهندسة ، أو أنها من هندسي (الهندسة والحساب) ، ولذلك فنظام الترقيم في نظره هو عمل أتباع أفلاطون وفيثاغورس ، ومن ثم انتقلت هذه الطريقة - حسب زعمهم - للامم اللاتينية وللفرس الذين نقلوها بدورهم للعرب والهنود معا بعد الفتح الإسلامي .

تلك نظرية الذين يبحثون دائما عن منفذ إلى أصالة الغربيين المزعومة في كل شيء .

ويزيد (كولان) الأمر تدقيقا فيزعم - تخمينا - ان الأرقام العربية اشتقت من الأحرف اليونانية ذات الدلالة الرقمية ، وأن الفرق بين الأرقام الهندية والغبارية هو ان الاولى تشتق مباشرة كالثانية من الأصول اليونانية ، بل إنها جاءت للغربيين عن طريق الهنود الذين نقلوها بدورهم عن اليونان) .

وعن غربي آخر يتحدث الدكتور سليم سعيدان فيقول : "ثمة نظرية اخرى وضعها (فبكي) انطلاقا من قصة ما يسمى حصى (بوثيوس) . . . وهذه الأشكال التي نقشت على الحصى شبيهة بالأرقام الهندية التسعة ، إلا أن النص اللاتيني ينسبها للفيثاغوريين . ويرد هذا النص في مخطوطة متأخرة لكتاب (بوثيوس) ، يرجع تاريخها إلى القرن العاشر الميلادي - (أي ما يوافق القرن الرابع الهجري) - أو ما بعده ، وهو يرِد معترضا لسياق الكلام الهندسي ، بحيث لو أزيل لما تأثر السياق . . .

افترض فبكي أن اتصالا تم من قديم من قبل الميلاد بين الفيثاغوريين والهنود عن طريق التجارة ، كان من جرائه ان أخذ الفيثاغوريون من الهنود هذه الأشكال مع فكرة المنازل العشرية واكملوها بوضع رمز للصفر ، ثم ظلت هذه الطريقة تستعمل على الحصى على نطاق ضيق إلى أن اكتشفها العرب ونشروها .

كان فرض فبكي ينقصه الدليل ، ذلك أننا لا نجد أي أثر يشير إلى أن الأرقام الهندية استعملها الفيثاغوريون ، أو أنها عرفت في عالم البحر المتوسط قبل الإسلام ، ثم جاءت الدراسات التمحيصية فبينت ان كل هذا الذي يذكر عن حصى (بوثيوس) ، إنما هو إضافات متاخرة ، وأن المدرسين الكنسيين نسبوها إلى الفيثاغوريين ايكتموا عن طلابهم أنها اخذت من المسلمين ، وبذا بادت نظرية فبكي" . (قصة الأرقام والترقيم 75 - 77 . وتنظر مقدمة تحقيق الفصول في الحساب الهندي 21 - 22 وعلم الحساب عند العرب 181) .

ويشير السفير عبد الهادي التازي إلى تلك الدعاوى الكاذبة التي لا تمت إلى الحق بسبب أو نسب ، فيقول : "ولعل أتفه ما نقل في هذا الصدد : أن عرب الأندلس هم المقتبسون للأرقام المنسوبة إليهم من البلاد المسيحية التي افتتحوها ، وأن التشابه الموجود بين أرقام (بويص) التي ترجع إلى القرن الحادي عشر - يعني الميلادي ، وهو يوافق القرن الخامس الهجري) - وبين الأرقام العربية مما يؤكد هذا ، وأعتقد أني لست بحاجة إلى أن أقف كثيرا عند هذه الأسطورة ، فإن العرب - وقد أثرت عنهم الأمانة في النقل - لم يتهيبوا ان ينسبوا الأشياء المقتبسة لواضعيها ، حتى ولو كان أصحابها ينتحلون دينا غير الذي ينتحلونه ، لكن الأرقام هي عربية كما تشهد بذلك المخطوطات العربية القديمة التي عرضت لهذه الأشكال دون أن تكون على صلة ببويص" .

 

رابعا : الترجيح والاختيار

إن القول الأخير مفنَّد - كما ترى - ، لا عبرة به ، لأنه قائم على التخمينات الباطلة ، والتمويهات المتخيلة .

وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلافٌ له حظ من النظر

   

وأما القولان السابقان ففي كل واحد منهما وجاهة من جهة ، فالأول منهما اختاره الأكثر ، ودل عليه عامة كلام المتقدمين . وأما الذي بعده فغنه يتقوى بالتشابه بين الأرقام بنوعيها والصور المقابلة لها في الحروف الأبجدية ، مع التباين بينها وبين أشكال الأرقام المتوارثة في الهند ، إلى غير ما تقدم .

 

ويمكن التقريب بين القولين من خلال المدخل الذي نبه إليه الأستاذ المحقق الدكتور احمد سليم سعيدان ، بيّن ان الأرقام العربية بنوعيها هي أقرب من حيث الشبه إلى الأرقام السندية دون سائر بلاد الهند التي ارتضت أشكالاً أخرى . كما أن الحساب الهندي الذي قدمه المسلمون يختلف عن الحساب الهندي الذي يوجد في عامة المصادر الهندية السنسكريتية . ويبدو أن ذاك الحساب كان منتشراً في السند بين العامة لاسيما التجار ، وأهل السند كانت كتابتهم تتجه من اليمين إلى اليسار بخلاف الكتابة السنسكريتية .

مع ملاحظة تصريح ابن النديم بأن أرقامنا سندية ، وأن أهل تلك الناحية يستعملون حساب الجُمّل على طريقة (أَبْجَدْ هَوَّز) ، وهذه الطريقة آرامية نَبَطيّة ، أي أنها عربية . وتقدم عن البِيْروني أن أهل الهند لا يجرون على حروفهم شيئاً من الحساب ، فيفهم من هذا أن الإجراء الذي ذكره ابن النديم هو عن أهل السند خاصة دون سائر بلاد الهند .

هذا بالإضافة إلى ما تقدم من ان الآراميين والأنباط أصحاب حضارة عريقة ، أفادت مَنْ حولها من الأمم كالهنود ، وإن قسما من أهل الهند كانوا يتكلمون بالآرامية . كما تبين عن الأنباط أنهم كانوا يستعملون الأرقم ، وقلدهم في ذلك العرب منذ الجاهلية .

لذا يمكنني القول بان أهل السند تعلموا من الأنباط الخط والأرقام ، كما تعلمها العرب ، لكن لما أعجب العرب بحساب السند الغباري القائم على النظام العشري المنازلي اخذوه عنهم مع الأرقام ، وإن كانت تلك الأرقام معروفة لدى بعض العرب ، إلا أن الكثير منهم لم يستعملوها لانتشار حساب الجمّل بينهم القائم على الحروف دون الأرقام .

ولا فرق في ذلك بين الأرقام المستعملة في المشرق والمغرب ، وما حدث بينها من اختلاف فإنه يرجع - فيما يبدو - إلى التطور . والله أعلم .