عمال سوريون في كل مكان

إعداد باسم الجمل ـ قناة العربية

أينما تذهب في لبنان ترى العمال السوريين، تراهم في المصانع، في المحال التجارية، في المزارع، يرصفون الشوارع. سائقو تكسي، حراس مبانٍ، وآخرون يعملون باعة للقهوة للراغبين لها في الشوارع، وأشياء كثيرة أخرى تشمل كافة مناحي الحياة في لبنان، بمعنى تراهم يقومون بكل الأعمال التي يرفض العامل اللبناني القيام بها لأسبابه الخاصة، الكثير من العمال ممن حاولنا التحدث إليهم أنظر في عملهم ومعيشتهم تمنّعوا عن الاستجابة، فلم يكن سهلاً إقناع أي عامل للحديث معنا عن ظروف عمله خاصة في ظل تداعيات استشهاد رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري الذي راح غيلة بتفجير سيارة بموكبه، وعند الحديث إلى العمال تستشعر بالرعب في النفوس، ويبدو أنه لديهم خوف مركب يمنعهم من الحديث حتى ولو في أبسط الأشياء التي تخصهم، وعلى الرغم من ذلك فإن البعض منهم تجرّأ على هذا الخوف واخترق حاجز الرعب الذي يلفّ النفوس بفعل عوامل كثيرة سواء كانت أمنية أم سياسية.

أسرة من تسعة أشخاص في غرفة واحدة

أبو مروان عامل سوري من القامشلي يعمل حارساً لإحدى البنايات في حي مار الياس في بيروت منذ أربع سنوات، يقول: إنه كانا مكتفياً بعمله رغم شح الأجرة التي يحصل عليها، لكن بعد اغتيال الحريري قرّر مغادرة بيروت تحسباً من القادم المجهول الذي يخاف منه.

أبو مروان: بدك الصراحة نحنا متل ما قالوا خايفين شوي، إي، يعني هلأ الجو اختلف يعني، من يوم اللي استشهد المرحوم الرئيس الوزير الحريري تغير الجو يعني.

باسم الجمل: أنت حسيت بالتغير فيه؟ أنت كشخص؟

أبو مروان: والله ما حدا يعني متل ما قال سمّعنا أي كلمة أو شي بس نحن شوي يعني فيه خوف يعني ، إي الواحد بيخاف.

باسم الجمل: طيب يعني الإنسان بيخاف بطبيعته صح، هل أنت يعني فيه سبب للخوف لحدّ الآن ما فيه؟ ولاّ يمكن تتوقّع إنه يمكن يصير؟

أبو مروان: والله عم نتوقع إنه بيصير، ونحن هلأ رايحين، يعني هلأ بالنسبة إلي يعني بس بظبّط أموري بدّي أروح، أروح على بلدي.

باسم الجمل: يعيش أبو مروان مع أفراد عائلته السبعة في غرفة واحدة لا تزيد مساحتها عن التسعة أمتار مربع، فيها ينامون وفيها يأكلون، أما كيف يتدبّرون الأمر فهذا متروك لقدرة الإنسان على التكيف مع المصاعب، وانعدام البدائل الأخرى.
أبو مروان: والله إذا أنا لحالي ما بتكفّي بس نحنا عم نشتغل يعني ثلاثة أربعة لحتى عم.. إي، لأنه هون كل شي غالي يعني، هون كل شي غالي، الأكل، الألبسة، يعني حتى المي.. قنينة المي عم ناخذها بألفين، إي والله، يعني أنا بالصيف بدي كل يوم بأربعة آلاف مي، إذا ما منشتغل ثلاثة أربعة يعني الواحد ما بيقدر يعيش ببيروت.

باسم الجمل: وضع سبعة أفراد في مكان ضيّق لا بد وأن يحدث تأثيراً على نفسية البعض منهم، طاهر الابن الأصغر لأبي مروان ذو الثمانية أعوام يشعر بالخجل عند الحديث، ربما ضيق البيت يولّد ضيقاً آخر في النفس، خاصة لدى طفل لما يرى الحياة بمفاعلها بعد، يحتاج إلى عالم أوسع كما الأطفال كلهم، إلا أن عالمه محصور في مساحة صغيرة ومع آخرين ولا مفرّ من هذا العالم.

اغتيال الرئيس رفيق الحريري ألقى بظلل كثيفة على كل لبنان، وشمل كل مناحي الحياة، وكأن الحياة هناك انطوت خلف الأبواب تحسباً من المجهول وخوفاً على المصير المرتقب، فلم تعد الحياة كما كانت، الناس يفضلون البقاء في البيوت وقلّت رغبتهم في التسوّق إلا للضروري، الكثير من المحال التجارية أغلقت أبوابها أو تكاد تعلن الإغلاق، وهذا يشمل العمال السوريين أيضاً الذين بدأ البعض منهم في العودة إلى سوريا خوفاً على حياتهم.
إبراهيم تاجر أحذية سوري في الضاحية الجنوبية من بيروت، هو الآخر يحزم نفسه للعودة إلى دمشق ويصفي بضاعته.

إبراهيم: أنا كنت بدّي صفّي قبل وفاة الحريري، لما مات الحريري الشغل صار يتعب بزيادة، صرنا نصفّي وصرنا نسمع مشاكل ضرب عالسوريين وهالشي هادا، الناس صارت تترك كلياتها وتروح وصرنا قاعدين نصفّي بالأكتر يعني بالمحل، يعني لما تكون القطعة بـ25000 صرنا نبيعها بـ12000.

باسم الجمل: يعني بخسارة بتبيعها؟

إبراهيم: إي لأنك عم تصفّي المحل بأي شي، زيادة المشاكل اللي عم تصير والتفجيرات اللي ردت صارت بعد وفاته صار الوضع بيخوّف كتير بالبلد.

بائع خضار سوري يعيش في لبنان: يعني قبل كان شي منيح يعني هلأ الأوضاع تعبانة شوي.
باسم الجمل: من إيمتى صارت تعبانة؟

بائع خضار سوري يعيش في لبنان: والله من عند موت السيد الرئيس الحريري يعني الأوضاع هيك تعبانة شوي يعني خفيف.

باسم الجمل: طيب ليش؟

بائع خضار سوري يعيش في لبنان: والله ما بعرف.

باسم الجمل: يعني الناس بطّلوا يشتروا؟

بائع خضار سوري يعيش في لبنان: والله خفت يعني هي أكل وشرب يعني غير اللبس وغير العيال يعني هاي إجباري هاي.

باسم الجمل: طيب يعني من أول كانوا الناس يجوا عليك هلأ بطّلوا مثلاً يشتروا؟
بائع خضار سوري يعيش في لبنان: لأ بيجو هلأ مثلاً اللي كانوا عم يأخذوا بعشر آلاف هلأ عم يأخذ مثلاً بخمسة بثلاثة، واللي عم يأخذ بثلاثة عم يأخذ بألف ألف وخمسة هيك شي، يعني خفّت.

رجل سوري يعيش في لبنان: نسمع أخبار إنو في مقتل طلع بصبرا، سمعنا بمقتل بجسر المطار، فيه ناس تعرّضوا لمشاكل، ناس هيك حسب المنطقة اللي عايش فيها الإنسان يعني  واللي حوليه العالَم.

شائعات ليس لها أصل

اسم الجمل: يبدو أن إشاعات تهديد العمال السوريين وتعرضهم للقتل أو الضرب قد فعلت فعلها لدى الكثير من العمال فقد عاد الآلاف منهم إلى سوريا والبعض الآخر يستعد للعودة، رغم التحقق من حقيقة هذه الشائعات هل تعرّض العمال للضرب فعلاً؟ هل تعرّضوا للإهانة أو للقتل؟ اخترنا شارع صبرا المؤدي إلى مخيم صبرا للاجئين الفلسطينيين الذي اشتُهر بالمذبحة التي ارتُكبت بحق سكانه قبل ثلاثة عشرين عاماً من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي أيام غزوها للبنان، اخترنا ذاك الشارع لكثرة العمال السوريين فيه سواء من الذين يسكنون في المخيم أو للذين يعملون في الشارع، هذا الشارع يعجّ بالعمال السوريين وغيرهم وهنا يمكنك ملامسة بؤس الحياة ومُرّ العيش الذي يعيشه سكان هذا الشارع وعامليه.
عبد، صاحب مطعم سوري أيضاً هو الآخر بدأ يصفّي محله تمهيداً للعودة إلى سوريا بعد أن أمضى أربعة عشر عاماً هنا هو وأولاده.

عبد: العامل السوري كان هو يشتغل يوميته 15 ألف - 20 ألف، ما في واحد هون إلا عنده رصيد بمحلّ متديّنه من باقي التجار ليتعيّش من هالبضاعة من هالمحلات.. يطلّع مصروفه ومعيشته يعني على حسب الوضع اللي نحنا عايشين فيه هون، بس تفاجأنا إنه هلأ بهالصدمة هي ووضع البلد ما عاد يستقرّ أغلب عمالنا وتجارنا طبعاً التجار الصغيرة ما عم بحكّيك أنا كتجار كبيرة يعني تجار صغيرة اللي مستأجرة محل معبّيه بضاعة من هالتجار الكبيرة عم يصفّيها بربع القيمة بس لحتى يؤمّن حاله ويسافر على البلد.

محمد البركة (مزارع لبناني): خيّ في ناس عم تلعب دور، طابور خامس يعني مش الـ.. فيه ناس عم يتهجموا عليهم في بعض مناطق، إي عم يفلّوا في كتير عم يفلّوا، وهذا مضرة إلنا لأنه شو خصه العامل السوري؟ نحن مع الاستقلال ومع الواحد بس العامل السوري ليش بدّن يعملوا فيه هيك؟ السيارات عم ينهبوا لهن إياها، بيوت قاعدين فيها عم ينهبونها لشو يعني هالقصص هيدي؟ هيدي مش حرام؟ شو خصّه؟ بدّن الدولة السورية فلّت والأجهزة المخابرات فلّوا عم يفلّوا، شو خصّه هيدا العامل؟
د. لويس حبيقة (خبير بالشؤون الاقتصادية): لو اليوم بلبنان استعدنا إذا بدك الوضع الطبيعي ورجعت الناس بدها تشتغل طبيعياً، ما كان فيه هاليد العاملة السورية رح يكون في أزمة، بس اليوم ليش ما فيه أزمة؟ لأن البلد في وضع غير طبيعي، وبالتالي اليوم الحاجة إلى اليد العاملة ضعيفة، لأن البلد كله ما عم يستهلك، ما عم يستهلك كونستراكشن، ما عم يستهلك مطاعم، ما عم يستهلك إشيا بالسوبر ماركت إشيا البدائية، يعني الأكل اليوم بلبنان خفّ طلب الأكل، مطاعم نزل، كله اليوم نازل إذا بتتمشّى بوسط بيروت بالنهار أو بالليل ما فيه حدا، شي مش طبيعي، يعني مين مانع الناس تنزل؟ ما حدا، بس هي الناس مَنّا بجو تظهر بلبنان، بالإضافة إنه كل يوم متل ما عم تسمع فيه قنبلة من هون أو تخويف من هو أو إلى آخره، صار في جو عام راكد.

باسم الجمل: هذا الخوف والتوتر يمكن تلمّسه أو تحسّسه من غالبية الناس هنا، وأم العبد هي من الشريحة الأكثر قهراً وتضرراً من الوضع، هي مَعلم من معالم هذا الشارع أو الحي - إن شئت - الذي يؤمّه غالبية البؤساء وعندما تريد أم العبد قول شيء ما، مَا عليك إلا الإنصات، وهذا ما أرادت أن تقوله.

أم العبد [تصرخ]: هيدي عيشتنا، عذاب، عم نموت، صفّوا دمنا بعد شو بدّن؟ حرب؟ حرب؟ قبلانين بالحرب بس يزحّطوا عنّنا، يزحّطوا عن وطننا، هيدا لإلنا هنّه أميركان، نحن أولاد وطن، الوطن إلنا.. الوطن إلنا.. الوطن إلنا.. مش للخاينين.. مش للرؤسا لإلنا.. لإلنا الوطن.


[************************************]
 

باسم الجمل: لم ينقطع دوماً وجود عمال سوريين في لبنان منذ خمسينيات القرن الماضي، لكن هذا الوجود اكتسب زخماً أوسع منذ بداية سنوات التسعينيات من القرن الماضي عقب توقّف الحرب الأهلية وتوقيع اتفاق الطائف الذي راعته سوريا، وقد مهّد ذلك لتدفّق عدد كبير من العمال السوريين إلى لبنان، لكن لا أحد يستطيع تحديد إحصاء دقيق لهذا العدد.
د. لويس حبيقة (خبير بالشؤون الاقتصادية): غير مقبول بعد من اليوم أن يكون عندك مئات الألوف مش مسجلين، يعني الواحد يستحي أن يقول لما يُسأل: أدّيش العمالة السورية؟ ما حدا بيعرف، وزارة العمل ما بتعرف، وزارة العمل هيّ المفروض تعطي هيك إحصائيات.

باسم الجمل: لكن لماذا يضطر العامل السوري إلى القدوم إلى لبنان والقبول بظروف عيش متدنّية مع أجر متدنٍّ أيضاً؟

أم محمد نموذج معاناة العمالة السورية

أم محمد عاملة سورية من منطقة حلب تعمل في الزراعة منذ أربع سنوات هي وعدد من أولادها السبعة إضافة إلى أولاد لزوجها، كلهم يعملون في إحدى المزارع جنوب بيروت.

أم محمد: حالتنا ضعيفة شوي يعني ما في رزقة، ما حد طالع من العيلة، بيت واحد، نشتغل هون ونعيّش الأولاد هنيك، مابو (لا يوجد) مادية يعني نعمل بيوت ونطلع كل واحد لحاله، بيت واحد عايشين.

ابنة أم محمد: عندي بنت واحدة.

باسم الجمل: أدّيش عمرها؟

أم محمد: ثلاث سنين.

باسم الجمل: وين بتروحي ببنتك؟

أم محمد: بنتي مخلّيتها عند بيت عمي بسوريا وأنا وجوزي عم نشتغل هون وبنت عمي، والله أحياناً كل ثلاث أشهر أربع أشهر بروح شق عليها مرة.

باسم الجمل: بتوعى بنتك؟ عارفة إنك هون؟

أم محمد: إي عرفانة بتحكي معي وكل شي بتعرف إنّي هون.

باسم الجمل: وقدرتي تتركيها؟

 أم محمد: ما بدنا نعيش؟

 باسم الجمل: وكي تعيش تعمل أم محمد ومنى طوال اليوم مقابل أجر لا يزيد عن الخمسة دولارات لكل منهما، وأم محمد هي واحدة من ثلاث زوجات ولها سبعة أولاد، أصغرهم طفلة تبلغ من العمر سنة ونصف تراها مرة في السنة، الزوج أبو خالد له من الأولاد سبعة وعشرون من نسائه الثلاث، وكل عدة شهور يأتي أبو خالد ذو السبعين عاماً إلى لبنان ليجمع ما حصلت عليه زوجته وأولاده, ويعود به إلى حلب، حال أم محمد هو نفس حال حمود وأخيه وعائلتيهما يعملان في الزراعة أيضاً ويعيشان فيما يشبه العرائش الملفوف ببعض البلاستيك للوقاية من البرد والمطر، ورغم ذلك تخفق رياح الشتاء بها، لكن لا بديل عن ذلك عند حمود. ويبدو أن استعداد العامل السوري للعمل بأجر أقل من مثيله اللبناني ورغبة أصحاب العمل اللبنانيين بتحصيل ربحٍ أقصى جرّاء ذلك، سهّل استيعاب مئات الآلاف من العمال السوريين في السوق اللبناني إضافة إلى استنكاف العامل اللبناني عن القيام بنفس الأعمال التي يقوم بها السوري أو قبول نفس الأجرة.