تفاصيل عملية اسقاط العماد عون عام 1990

الحياة   17/05/2005

للمرة الأولى، تناول السفير الفرنسي السابق في لبنان رينيه آلا، كيف تم لجوء العماد ميشال عون الى السفارة الفرنسية في 13 تشرين الأول (أكتوبر) 1990، حيث أمضى تسعة أشهر قبل ان يغادرها الى فرنسا في اطار عملية نظمتها الاستخبارات الفرنسية التي ترأسها في حينه فيليب روندو، في عهد السفير الفرنسي دانيال هوسون.

رينيه آلا: لجوء عون الى فرنسا كان يخيف السلطة اللبنانية.  والتقت «الحياة» آلا المتقاعد من السلك الديبلوماسي ويترأس حالياً بلدية بلدة في جنوب فرنسا وقد عمل في لبنان من سنة 1989 حتى سنة 1991 ثم نقل الى الفاتيكان.

روى آلا لـ«الحياة» انه «في 13 تشرين الأول 1990 حلقت طائرات سورية من نوع سوخوي في الاجواء اللبنانية وحامت فوق منطقة مار تقلا حيث مقر السفارة الفرنسية، وراحت تقصف منطقتي اليرزة وبعبدا القريبتين، حيث كان مقر عون الذي كان رئيساً للحكومة»، فاتصل بي عون هاتفياً وقال: «هل انت على علم بما يحدث»، فقلت: «نعم لقد فهمت».

أضاف آلا: «كان واضحاً ان تحليق الطيران السوري في سماء لبنان كان بموافقة اسرائيلية أميركية، إذ ان مثل هذا التحليق كان ممنوعاً على الطيران الحربي السوري في الأجواء اللبنانية، فأدركت عندها ان هناك اتفاقاً دولياً مسبقاً يسمح بذلك، على رغم النفي الذي صدر في الولايات المتحدة».

وتابع: «كانت ادارة الرئيس جورج بوش الأب نفت عشية هذا الهجوم انها سمحت لسورية القيام به، وفي تلك الفترة كانت الإدارة الأميركية تعد لحرب لتحرير الكويت».

وأشار آلا الى انه صباح يوم 13 تشرين الأول كانت الجبهة اللبنانية مشتعلة من جراء القصف السوري، فاتصل عون به مجدداً وقال: «انظر ما في وسعك أن تعمله، فهذا هجوم شامل». وكانت عائلة عون في تلك الفترة في أحد الملاجئ وهو في بعبدا: «فاتصلت بوزارة الخارجية في باريس وأيقظت مدير مكتب وزير الخارجية آنذاك السفير برنار كيسيدجيان (سفير فرنسا الحالي في جنيف) وأبلغته بالهجوم السوري على لبنان والعماد عون وطلبت منه إبلاغ وزير الخارجية رولان دوما والرئيس الفرنسي (الراحل) فرانسوا ميتران بذلك».

ومضى يقول: «حاولت الاتصال بالرئيس الهراوي. اتصلت به مرات عدة»، (الهراوي في مذكراته لم يشر سوى الى اتصال واحد)، فعاد عون واتصل مجدداً «ليقول لي ان الهجوم شامل ونهائي وانه يريد تجنب حمام دم وانقاذ ما يمكن إنقاذه، مطالباً بوقف لإطلاق النار، مضيفاً بصوت مخنوق ويكاد لا يسمع، اعتبر انني هزمت».

وذكر آلا انه عندئذ بدأ يكثف تحركه فتمكن من التحدث هاتفياً الى الهراوي، بعد صعوبة و»أبلغته ان عون اعترف بهزيمته ويطلب وقفاً لإطلاق النار لتجنب حمام دم» وانه «من المحتمل أن أكون قلت له مثلما ورد في مذكراته لماذا أطلقتم هذا الهجوم فيما كنا نسعى لحل سياسي، لكني لم أعد أتذكر ذلك بدقة».

وقال انه أكد للهراوي ان وقف اطلاق النار ضرورة وان عون صادق، فأجاب: «أنا لا أصدقه ونحن معتادون على مناوراته، فليذهب الى السفارة الفرنسية وبعدها سترى كيف ترتب الأمور». وانه عاد واتصل بعون ليبلغه بالانتقال الى السفارة، لأن مجيئه هو أحد شروط التفاوض لوقف اطلاق النار.

وذكر آلا انه اتصل مجدداً بعون الذي قال له: «كيف أصل الى السفارة والقصف من كل الجهات، فأنا لا أرى كيف يمكنني أن أخرج»، فكان لا بد من أن أعود وأتصل بالهراوي الذي رد علي قائلاً: «طالما لم يحضر إليكم (السفارة الفرنسية) فلا شيء ممكناً»، فاتصلت بعون وقلت له انه ليس هناك أي حل إلا بمجيئك الى السفارة، فأجاب: «سأخاطر وسنرى». وعند الساعة الثامنة والنصف من ذلك اليوم وصلت آليتان مصفحتان وعلى متنهما عون وحوالى 20 من أعوانه، وتوزعوا على مقر السفارة ومنزل السفير في ما كان يسمى فيلا الأمير، وحرصت على انزال الجميع الى الطبقة الموجودة تحت الأرض وبقيت مع عون وعدد من حراسه في الطبقة الأرضية.

وروى آلا انه من هذا المكان أجرى اتصالاً هاتفياً بالهراوي وقال له: «ان عون الآن في دار السفارة، فماذا نفعل؟». فأجاب الهراوي انه ينبغي ان يعلن انه ينضم الى قائد الجيش في حينه إميل لحود ويطلب من الجيش أن ينضم لهذه القيادة وبهذا الشرط فقط يتم وقف اطلاق النار، «فبدأت أناقش مع عون لإقناعه بضرورة الادلاء بمثل هذا التصريح العلني»، فسألني: «كيف وبأي وسيلة». ثم اتصل بمدير إذاعة لبنان آنذاك، رفيق شلالا المستشار الإعلامي السابق للرئيس أمين الجميل، فقال له انه وصل الى السفارة الفرنسية وأنه يريد التفاوض.

وقال آلا انه عاد واتصل بالهراوي وقال له انه سيعطيه عون ليتكلم معه. فرفض الهراوي قائلاً: «التفاوض سيكون عبرك». فسألته متى ستعطى الأوامر لوقف اطلاق النار، فقال: «ان وزير الدفاع ألبير منصور سيتصل بك». فتأخر اتصال منصور، وعند حصوله طلب من عون أن يوجه أمراً شخصياً لوحداته للالتحاق بلحود وأن يضعوا أنفسهم تحت قيادته شخصياً، وعندها سألته عما إذا كان وجود عون في السفارة كاف للتفاوض على وقف اطلاق النار من دون أي اذلال له، إذ انهم كانوا بدأوا مسار قتله سياسياً، فقال لي ينبغي أن يسمع صوت العماد على الاذاعة وإلا فلا وقف لإطلاق النار، لأن ذلك سيكون أكثر صدقية بالنسبة الى جنوده، وعندها حاولت إقناع عون وتمكنت من ذلك لأنه أراد تجنب إراقة الدماء.

ورأى آلا ان عون كان يدرك انه ينبغي تجنب المزيد من الدمار، وكانت سورية تكبدت أثناء المعارك حوالى 300 قتيل، فهذه الأسباب الأساسية جعلت خروج عون أكثر صعوبة.

وتابع آلا ان لحود كان وقتئذ في بيروت الغربية ولعب دوراً إيجابياً في تلك الفترة لأنه قاوم طويلاً قبل الموافقة على الحل العسكري الذي كان مسيئاً جداً للجيش، وكان هاجسه الأساس خلال الأشهر التي سبقت الهجوم السوري حمل عون على الالتحاق بقيادته، وكانت لديه معلومات حول ما كان يجري في دمشق.

وأشار الى أن عون اتصل في هذه الأثناء برئيس أركان الجيش جان فرح وقال له: «لا تفاجأ سأدعو لوقف إطلاق النار وسأطلب من الجيش ان يضع نفسه بتصرف لحود وان يأخذ الأوامر منه». ثم اتصل مجدداً بشلالا وعاود تصريحه قائلاً انه يطلب وقف اطلاق النار تجنباً لإراقة الدماء، ودعا جنود الجيش لتلقي الأوامر من لحود.

وقال آلا ان الجنرالين ادغار معلوف وعصام أبو جمرة لحقا بعون الى السفارة في وقت لاحق، وذكر انه علم باغتيال عدد من ضباط الجيش اللبناني، في حين ان وقف اطلاق النار لم ينفذ، على رغم الشروط المذلة التي وضعت لذلك، وقد «استهدفنا بقذيفة مباشرة سقطت على بضعة أمتار مني ومن عون، وبحسب الخبراء فإن القذيفة أطلقت من الشمال الغربي».

وكشف عن اتصال هاتفي تلقاه من جوزيف جبيلي نيابة عن قائد القوات اللبنانية سمير جعجع، قال له فيه الا تحمي عون، وتساءل آلا عما اذا كان هذا الكلام تهديداً مباشراً لفرنسا، إذ ان القذيفة التي أصابت السفارة سقطت في الساعة التاسعة والقصف صباحاً «وكنت جالساً مع عون في مكتب في الطابق الأرضي، وكان في إمكانها أن تصيب أياً منا».

ومضى يقول انه على رغم ان عون كان أعطى أوامره لجميع الوحدات الموالية له، جنود سوريون أمام القصر الجمهوري المدمر في 13 تشرين الأول 1990. فقد استمرت المعارك والنصف طوال النهار، إذ ان بعض الوحدات لم توافق على الأوامر، وكانت هناك مشكلة مع «وحدة (الضابط) كلس» الذي كان يريد المضي في المعركة الى النهاية، فيما كانت الوحدات الأخرى تعمل على الالتحاق.

وتابع آلا انه في الثالثة من بعض ظهر اليوم نفسه، عاد جبيلي وأجرى اتصالاً جديداً معه قائلاً له ان عون «ينبغي تسليمه الى السلطات الرسمية لتتولى محاكمته، فقلت له عندها ان عون في وضع اللجوء السياسي في السفارة، كوني اتصلت بالخارجية الفرنسية التي أكدت لي ان (الوزير) دوما قال ان عون حصل على اللجوء السياسي»، كما أبلغ آلا جبيلي بأن عون غادر قصر بعبدا ووصل الى السفارة بطلب من الهراوي.

وأضاف آلا انه بعد ذلك احتلت القوات السورية قصر بعبدا، وبعد ذلك وصلت زوجة عون وبناته الثلاث مع عدد من العسكريين الى السفارة برفقة إيلي حبيقة، في مشهد سوريالي، إذ ان حبيقة كان مع العماد السوري علي ديب الذي احتل قصر بعبدا حيث وجدت عائلة عون، وقد سأل (حبيقة) زوجة عون عن المكان الذي ترغب في الانتقال اليه فقالت انها تريد الالتحاق بزوجها في السفارة الفرنسية، فأقنع حبيقة السوريين بأنه سيهتم شخصياً بالقضية ونقلت العائلة الى السفارة.

وذكر آلا ان حبيقة كان مديناً لعون وأراد تسديد دينه كون عون أنقذ حياته في إحدى المرات. بعد ذلك بدأ التفاوض حول مغادرة عون الى باريس، لكن هذه المفاوضات استمرت لمدة طويلة.

وأضاف آلا انه في غضون ذلك لم يتمكن من الاتصال بالهراوي قبل المساء، وكان الوزير دوما اتصل به وطلب منه السماح لعون بالمغادرة الى فرنسا، لكن الحكومة اللبنانية كانت تريد تسلمه لمحاكمته وقتله سياسياً «لأنهم كانوا يتخوفون من أن يتيح له اللجوء السياسي العودة وينهض سياسياً»، لكن الوزير الفرنسي حصل من الهراوي على وعد ضمني بأن عون سيتمكن من المغادرة خلال يوم أو اثنين.

وأشار الى أن فرنسا كانت أرسلت طائرة الى لارنكا لنقل عون، من دون علم منه، وقال آلا انه التقى الهراوي ليرتب معه تفاصيل مغادرة عون، لكن الرئيس اللبناني «أبلغني بأنه من غير الوارد أن يغادر عون لا اليوم ولا غداً لأن مجلس الوزراء اتخذ قراراً بهذا الشأن وانه ينبغي محاكمته بتهمة اختلاس أموال». وبعد ذلك طلب مني التحدث في الموضوع مع وزير الخارجية فارس بويز، فبدأت مفاوضات مديدة مع بويز وعادت الطائرة الفرنسية من لارنكا الى باريس وبدأت السلطات اللبنانية بالمماطلة.

وأوضح آلا ان بويز كان يعطي الانطباع بأنه يبحث عن حل ويطالب بضمانات حول لجوء عون، منها مثلاً ان يمنع من الكلام ومن العمل، وكان واضحاً ان السوريين كانوا وراء مثل هذه الشروط، أما الحكومة اللبنانية فكان المهم بالنسبة اليها انهاء عون سياسياً وحمل فرنسا على التراجع.

وروى آلا انه في 16 آب (أغسطس)، صرح ميتران علناً بأن فرنسا لن تسلم عون أبداً وان هذه مسألة شرف بالنسبة اليها، و»كنت التقيت مرات عدة رئيس الحكومة سليم الحص وقمت معه مراراً بمحاولات عدة لم يكن مقتنعاً كثيراً بها، لكنه قام بواجبه».

وعاد آلا بالذاكرة الى ما حصل بينه وبين الهراوي قبل التدخل العسكري السوري في 13 تشرين الأول، فقال انه كان على موعد معه غداة اجتماع لمجلس الوزراء اتخذ خلاله القرار بالعملية العسكرية وطلب تدخل السوريين، إذ ان بويز كان توجه الى دمشق حاملاً رسالة من الهراوي والحكومة اللبنانية تطلب تدخل السوريين، «سألت الهراوي عما حصل في الاجتماع الحكومي فأجاب لا شيء خارقاً، مكتفياً بذكر تعيين سفير لبنان في الفاتيكان، فركزت نظري على عينيه وسألته: هل أنت متأكد يا سيدي الرئيس انه لم يحصل شيء؟ فقال: لا».

أضاف آلا: «كنت على علم بالقرار الذي اتخذ من مصادري، فقد كذب علي كأنه أراد أن أتجنب أسوأ الاحتمالات. وبعد ذلك أكد لي الحص القرار الذي اتخذ خلال الاجتماع الحكومي بطلب التدخل العسكري السوري».

ونقل آلا عن الحص قوله ان «جلسة مجلس الوزراء كانت صعبة جداً، فسألته هل فُقد الأمل برأيك، فأجاب: لا أدري لكن معلوماتي لا تدعوني للتفاؤل وان عون يجب أن يضع نفسه تحت قيادة لحود، فوجهت رسالة الى عون لإبلاغه بالأمر فرد برسالة لا يقول فيها شيئاً ويكرر موقفه المطالب بانتخابات وحكومة وحدة وطنية، وهو ما لم يكن مقبولاً».

أضاف آلا انه تساءل في تلك الفترة عما اذا كان في إمكانه التفاوض ديبلوماسياً لتأخير الهجوم المتوقع، خصوصاً انه تلقى رسائل من بعض المقربين من سورية تشير الى ان الحل الديبلوماسي لا يزال ممكناً، وكان ذلك في 11 و12 تشرين الأول، إلا ان الطائرات السورية بدأت القصف في 13 منه.

وبالعودة الى المفاوضات حول خروج عون من لبنان، قال آلا انها وصلت الى طريق مسدود وانه كان يلتقي بويز باستمرار الذي كان عليه أن يحصل على ضوء أخضر من جهته وعلى أقصى حد من الضمانات الفرنسية، «فأراد انجاح المفاوضات، ولكن من الصعب علي القول الى أي مدى، فعمل على التفاوض بأسلوب تقني، معتقداً أن في إمكانه الحصول من فرنسا على شروط وضمانات خطية تؤكد ان السلطات الفرنسية توافق على شروط الحكومة اللبنانية المتعلقة بشروط اقامة عون في فرنسا»، ولكن هذا لم يكن مقبولاً، لأن حق اللجوء الى فرنسا خاضع لقوانين ولا يمكن أن يكون شبيهاً بعملية اعتقال.

وأضاف انه حصل في هذه الأثناء على موافقة على مغادرة أسرة عون وزوجتي معلوف وأبو جمرة، التي كانت بدورها صعبة لأسباب مختلفة، إذ كان بحوزتهن مبلغ من المال احتجز من الضباط اللبنانيين الخاضعين لمراقبة ضباط سوريين، كما حصل، بعد مفاوضات مع لحود الذي قال انه كان لائقاً جداً، على الموافقة على خروج الضباط الذين كانوا مع عون في السفارة على أن يعاد دمجهم في الجيش، بعد ملازمتهم منازلهم لفترة من الوقت.

وأشار آلا الذي غادر لبنان في نهاية مهمته في الأسبوع الثاني من حزيران (يونيو) 1991، فيما كان عون لا يزال داخل السفارة الفرنسية انه توصل في تلك الفترة الى استنتاج مفاده ان العلاقات السورية – اللبنانية أكثر أهمية في ذهن كبار المسؤولين اللبنانيين، ومنهم تحديداً الرؤساء الثلاثة، من حرصهم على علاقة جيدة مع فرنسا، وان تحرير عون والسماح له باللجوء الى فرنسا كان يخيف السلطات اللبنانية، وان بيروت ودمشق لم تفكرا جدياً بحل قضيته، قبل ترسيخ المكاسب السورية المنبثقة عن اتفاق الطائف.

وعبر آلا عن اعتقاده بأن اصرار فرنسا على سيادة لبنان وانسحاب القوات الأجنبية من أراضيه، حمل الحكومة اللبنانية للكشف عن حقيقتها في وقت أبكر مما كان متوقعاً، إذ انها لم تخف من المبادرة على دفع العلاقات مع فرنسا نحو التدهور عبر اتهامها بالتدخل، وان بيروت ودمشق أعطتا الأولوية للمفاوضات مع الولايات المتحدة التي كانت تغطي نهج اعطاء الطابع السوري للسياسة اللبنانية.

وقال انه تساءل في تلك الفترة عما اذا كانت دمشق أجلت تحسين علاقاتها مع فرنسا، الى الفترة التي سيعطي فيه تفردها مع واشنطن ثماره وتكون الأوضاع في لبنان وصلت، تحت وصاية سورية، الى نقطة اللاعودة على كل الصعد.

وعبر آلا عن قناعته بأن تعطيل قضية عون وتدهور العلاقات الفرنسية – السورية انطويا في تلك الفترة على مكاسب لدمشق من دون أن ينطويا على أي مساوئ.