الشيخ مصطفى نجا 

 

إن سيرته الذاتيّة في جوانبها العامة، هي في الواقع جزء من تاريخ بيروت في نهضتها الحديثة ما بين القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ونحن لا نستطيع أن نتحدث عن هذه النهضة دون أن نفرد للشيخ مصطفى نجا الكثير من الصفحات المشرقة التي كانت مآثره من عناوينها البارزة في مختلف الحقول العلميّة والميادين الاجتماعيّة والإنسانيّة، وغير ذلك من البوادر التي كان لها أثرها الكبير في المجتمع البيروتي.

 

هو مصطفى بن محيي الدين بن مصطفى بن عبد القادر محمد نجا، ولد في بيروت فجر يوم الجمعة في 7 رمضان سنة 1269هـ 1852م، عُرفت أسرته بالتقوى وإشتغل أفرادها بالتجارة، وكان والده محيي الدين يتعاطى تجارة العطارة في سوق العطارين ببيروت.

 

قرأ القرآن الكريم على الحافظ الشيخ حسن شومان البيروتي، وأتقن التجويد على شيخ القراء بالديار الشاميّة الشيخ حسين موسى المصري الأزهري نزيل بيروت ودمشق، والمتوفى في بيروت سنة 1327هـ.

 

من بواكير النشاطات التي مارسها الشيخ مصطفى نجا في حياته العامة، الدعوة إلى إنماء روح التعلم بين مواطنيه المسلمين الذين كانوا آنذاك ما يزالون في بداية الطريق إلى التطور العلمي الحديث، فلقد لمس رحمه الله ، حاجة هؤلاء المواطنين إلى من يشجعهم ويأخذ بيدهم في هذا السبيل الذي سبقهم إليه إخوانهم في الوطن من النصارى الذين عاونهم الأجانب على إنشاء المدارس العصريّة الخاصة بهم ورفدوهم بما يحتاجون إليه من الأموال والرجال لإنجاح هذه المدارس.

 

ففي سنة 1320هـ 1902م ساهم الشيخ مصطفى نجا في تأسيس مدرسة ثمرة الإحسان التي أُنشئِت يومئذ لتعليم البنات المسلمات بعد أن لاحظ أن الإرساليات الأجنبيّة ركزت إهتمامها بصورة رئيسيّة على فتح مدارس الإناث ليقين هذه الإرساليات بأن الاستحواذ على عقل المرأة يساعد على إدخال الثقافة الغربيّة إلى صميم العائلة البيروتيّة، لأن المرأة تلتصق بحياة العائلة ولها تأثير فعّال على رب البيت من خلال غرائزه البشريّة وعلى أولادها من خلال أمومتها والوشائج العاطفيّة التي تشدّهم إليها.

وقد إختارت اللجنة المشرفة على المدرسة المذكورة صاحب الترجمة رئيساً لها، فاستجاب الشيخ مصطفى نجا رئيساً لهذه الدعوة وظل قائماً بأعباء الرئاسة مدة سبع سنوات متواصلة.

وكان لا يكتفي بإدارة اللجنة بل إنه كان يتولى بنفسه تعليم البنات وأساتذتهن قراءة القرآن الكريم بالإضافة إلى العلوم الدينيّة الأخرى. وقد آتت جهوده أُكلها وأعطت أفضل النتائج من النواحي العلميّة والدينيّة والخلقيّة فتخرج من المدرسة المذكورة رعيل كريم من المعلمات اللاتي أُسندت إليهن فيما بعد إدارة كثير من المدارس الرسميّة والأهليّة والتعليم فيها داخل بيروت وخارجها.

 

وفي أثناء عمله في رئاسة لجنة مدرسة ثمرة الإحسان كان عضواً في لجنة الأوقاف الإسلاميّة، إلا أنه في سنة 1325هـ 1907م قدّم استقالته من هذه اللجنة فأخذ مكانه الشيخ محمود محرّم. ولم تبين جريدة ثمرات الفنون التي نشرت خبر هذه الاستقالة والسبب الذي حمل الشيخ مصطفى نجا على التخلي عن عضويته في اللجنة المذكورة.

 

ولكن استقالته من الأوقاف لم تمنعه من متابعة الإهتمام بشؤون المساجد والمساهمة بعمارتها وصيانتها والتدريس فيها، وكانت له حلقة دائمة في الجامع العمري الكبير، كان يلقي فيها الدروس على المصلين فيفقههم في دينهم ويفسّر لهم القرآن الكريم ويشرح الحديث الشريف ويحضهم على الاعتصام بحب الله المتين والاستمساك بعروة التضامن الأخوي والتآزر في مجالات التعاون والتزام الأخلاق الإسلاميّة السمحة، ويدعو إخوانه المسلمين إلى أن تكون علاقتهم بمواطنيهم من أبناء الملل والنحل الأخرى نابعة من الشعار الإنساني الذي رفعة النبي محمد عليه الصلاة والسلام بقوله:

الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله  

 

في شهر صفر سنة 1323هـ نيسان 1905م حزنت بيروت بوفاة مفتيها الشيخ عبد الباسط الفاخوري فتطلع العلماء إلى اختيار الرجل الكفؤ من أجل تقديمه إلى الباب العالي في أسطمبول كي يصدر السلطان إرادته السنية بتكليفه بهذا المنصب الجليل.

ولم تكن مهمة أولئك العلماء بالأمر السهل لأن المرشح الذي يقدمون اسمه إلى أسطمبول يجب أن يتحلى بالصفات العلميّة والمزايا الخلقيّة التي تجعله قادراَ على أداء رسالته بالمستوى المطلوب حتى يطمئن الناس إلى رئاستهم الروحيّة على الوجه الأكمل، في مدينة مثل بيروت تتعدد فيها الطوائف والأقوام من كل جنس ومن كل دين.

 

كان الصالحون لشغل منصب مفتي بيروت كثيرين ولكل منهم من يدعمه ويحبذه في العائلات البيروتيّة الكبيرة والأوساط الاجتماعيّة والسياسيّة النافذة. وهذا ما جعل موضوع الفتوى في هذه المدينة يراوح مكانه حوالى أربع سنوات دون أن يتمكن العلماء من الإجماع على اختيار واحد منهم لملء المنصب الشاغر.

 

على أنه لا بد من الإشارة إلى أن الشيخ مصطفى نجا رحمه الله كان يصّر على البقاء خارج حلبة المتنافسين على هذا المنصب جرياً على ما أخذ نفسه به من العزوف عن التطاول إلى المراكز الرسميّة والاكتفاء بخدمة إخوانه المسلمين عن طريق مساهمته بالمؤسسات التعليميّة وإلقاء العظات والدروس الدينيّة في المسجد العمري الكبير وغيره من مساجد بيروت، مع بقائه في ميدان العمل الحرّ بتجارة العطارة في محل والده بسوق العطارين لتأمين حاجته وحاجة عائلته من الرزق الحلال بكدّ عينيه وعرق جبينه.

وكان يقول لمن يرشحونه للفتوى: ذروني في شغلي أسعى لرزق عيالي وأريحوني من متاعب هذا المنصب فقد تغيّر الزمان وأهله ولست من الذين إذا وسّد لهم هذا الأمر ينصرفون إلى الراحة بل لا بد لي من القيام بحقه من كل وجه والقيام بمصالح عباد الله، وهي في ذمتي إذا قصرت عنها .... .

 

بيد أن تعفف الشيخ مصطفى عن المنصب الذي تهافت الطامحون على الوصول إليه، لم يمنع أهل الفضل من العلماء والأعيان من أن يتوجهوا بأفكارهم إلى شخصه وأن يقرروا اختياره ليكون خلفاً للمفتي الراحل، وخلال السنوات الأربع التي مرت بعد وفاة الشيخ عبد الباسط الفاخوري، حدثت تطورات سياسيّة هامة في السلطنة العُثمانيّة أدت إلى إعلان الدستور وإنشاء مجلس المبعوثان. وقد مثّل بيروت في هذا المجلس رضا بك الصلح والد الزعيم العربي رياض بك الصلح الذي تولى رئاسة الوزراء في الحكومة اللبنانيّة وحقق استقلال لبنان سنة 1943م، وكان رضا بك الصلح على رأس المتحمسين لإختيار الشيخ مصطفى نجا في منصب مفتي بيروت خلفاً للشيخ عبد الباسط الفاخوري وقد تولى هو وسليم علي سلام، أبو علي، رحمهما الله العمل من أجله في الأوساط الرسميّة والأهليّة معاً.

 

وعندما أعلن الجنرال غورو الفرنسي قيام الكيان اللبناني، بحدوده الحالية، يوم أول من أيلول سنة 1920م أراد أن يسترضي المسلمين كي يقبلوا بتجزئة البلاد السوريّة والموافقة على هذا الكيان الذي فُرض عليهم بالرغم من إرادتهم، فزار الجنرال غورو الشيخ مصطفى نجا في دارته وعرض عليه لقب مفتي دولة لبنان الكبير، بدلاً من لقب مفتي مدينة بيروت وإعتقد غورو أن هذا اللقب الفضفاض سيفتح شهيّة المفتي على التعاون مع السلطات الفرنسيّة ويغريه بالسير في ركاب الإنتداب، وبذلك يسهل استدراج المسلمين إلى سلوك نفس الطريق، بيد أن تفاؤل غورو لم يكن في محله إذ أن الشيخ مصطفى نجا إعتذر يومئذ عن عدم قبوله بما عرض عليه لأنه صادر عن سلطة أجنبيّة غير إسلاميّة وتمسك بلقب مفتي بيروت الذي حصل عليه من قبل السلطان العُثماني محمد رشاد صاحب السلطة الشرعيّة بوصفه الخليفة الأعظم أمير المؤمنين.

 

هذا، وإن الشيخ مصطفى نجا الذي أبى الاستسلام لمغريات اللقب الكبير والمال الكثير، كاد يدفع فيما بعد ثمن إبائه من حريته الشخصيّة عندما رفض الإشتراك بالإحتفال الذي أقامه الجنرال غورو بقصر الصنوبر يوم أعلن إنشاء دولة لبنان الكبير، فإن الجنرال غورو هدده بالنفي إلى جزيرة كورسيكا إن هو أصّر على الرفض، الأمر الذي حمل وجهاء المسلمين على إقناعه بالحضور حرصاً على راحته وتجنباً للمضاعفات الخطيرة التي كانت ستحصل لو أصّر كل من الطرفين على موقفهما.

 

خلال سنوات الحرب العالميّة الأولى 1914م 1918م انحسرت جميع النشاطات في بيروت ومثل ذلك حصل في بقية أملاك الدولة العُثمانيّة.

 

ولأن بيروت بالذات كان هدفاً لأن يتسرب إليها جواسيس الحلفاء ويستغلوا أوضاعهم الطائفيّة لإثارة المتاعب في وجه الدولة، فإن السلطات العسكريّة اتخذت بعض الإجراءات التي أدت إلى توقف حركة التعليم في هذه المدينة بالنسبة إلى المدارس الأجنبيّة، وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات لم تشمل جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة إلا أن هذه الجمعيّة اضطرت لإقفال مدارسها بسبب استدعاء أغلب أساتذتها للخدمة العسكريّة وبسبب شح مواردها الماليّة التي كانت تعتمد على مساعد الأهلين. وقد توقفت هذه المساعدة أو كادت نتيجة للأزمة التي استحكمت بالبلاد آنذاك.

 

ولما وضعت الحرب أوزارها، ودخلت البلاد في حوزة الإحتلال الفرنسي، بادر الشيخ مصطفى نجا إلى بعث الجمعيّة من جديد، فوجّه كتاباً إلى سلطات الإحتلال طلب فيه إعادتها إلى سابق عهدها وتسليمها جميع منشآتها العقاريّة وأوقافها الخيريّة والترخيص لها بافتتاح مدارسها التي أُغلقت خلال الحرب.

ولقد استجاب الحاكم الفرنسي لهذا الطلب وأصدر في 2 تشرين الثاني سنة 1918م قراراً بإعادة الجمعيّة وتسليمها جميع ما كانت تملكه من عقارات وأوقاف والترخيص لها باستئناف العمل في مدارسها.

 

وعلى أثر صدور هذا القرار، دعا الشيخ مصطفى نجا إلى داره أعيان المسلمين وعلماءهم حيث جرى انتخاب هيئة جديدة للجمعيّة مؤلفة من الشخصيات التاليّة:

·       الشيخ مصطفى نجا

·       الشيخ أحمد عبّاس الأزهري

·       الشيخ عبد الباسط الأنسي

·       الشيخ محمد هاشم الشريف

·       الشيخ محمد عمر البربير

·       سليم علي سلام

·       أحمد مختار بيهم

·       الدكتور حسن الأسير

·       راشد طبارة

·       سليم أحمد البواب

·       شريف خرما

·       عمر الداعوق

·       عبد الحميد غندور

·       الحاج محمد إبراهيم الطيارة

·       محمد اللبابيدي

·       محمد الفاخوري

·       محمد حمادة

·       محمد أبو الخير الرحيلي القصار

·       نجيب عيتاني

·       عبد الباسط فتح الله

·       محمد عمر نجا

·       حسن قرنفل

 

وإختار هؤلاء من بينهم أعضاء مكتب الجمعيّة وهم:

·       الرئيس : الشيخ مصطفى نجا.

·       نائب الرئيس : سليم علي سلام.

·       وكيل الإدارة : عبد الباسط فتح الله.

·       الكاتب العام : محمد عمر نجا.

·       أمين الصندوق : حسن قرنفل .

 

وفي ربيع الثاني سنة 1338هـ كانون الثاني 1920م فرغت هيئة الجمعيّة من إعداد قانونها الأساسي الذي نصّ في المادتين السادسة والسابعة على أن يكون مفتي بيروت رئيساً طبيعيٍّا لجمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة ما دام مفتياّ مع تحديد سلطاته التنفيذيّة وطبيعة عمله.

 

صباح يوم الخميس الواقع في 20 رمضان المبارك سنة1350هـ 9 كانون الثاني سنة 1932م شعر الشيخ مصطفى نجا بأن صحته لا تمكنه من مزاولة أعماله العاديّة، وكان الجو بارداً، فلزم داره، على أن صحته لم تتحسن وأصابته نوبة في ضيق التنفس، عاودته أكثر من مرة، فاستدعى أهله الطبيب لمعالجته والعناية به، وبالرغم من أن الطبيب طمأن أهله بأن ما يعاني منه عارض صحي بسيط لن يلبث أن يزول، فإن العلة اشتدت بالشيخ مصطفى نجا، وفي اليوم التالي حاول التغلب على الوهن الذي أصابه واستقبل، وهو على فراش المرض وفداً من السواقين واستمع إلى شكواهم من سوء معاملة الحكومة لهم، فوجد أنهم على حق في شكواهم وتناول القلم والورقة ليكتب إلى المسؤولين من أجل تحقيق مطالبهم وإنصافهم، وبينما كان يكتب ازداد ضيق صدره بتنفسه، فطلب إلى الشيخ رضا القبّاني الذي كان إلى جانبه أن ينوب عنه بمرافقة السواقين إلى دار الحكومة وأن يتوسط في شأنهم باسمه.

 

بعد انصراف وفد السواقين ارتاح قليلاً، وفي أثناء الليل بدا له وكأنه استعاد نشاطه وعافيته، فأقبل على أفراد عائلته يسامرهم ويتبادل معهم الأحاديث المختلفة ثم استسلم إلى النوم، إلا أن فجر اليوم التالي كان يحمل مع انبثاقه النبأ المفجع، وهو إنتقال الشيخ مصطفى نجا إلى الرفيق الأعلى، فتبين حينئذ أنه عندما عجز رحمه الله عن مواصلة كتاب التوصية بمساعدة السواقين كان في الواقع يعاني آلام الاحتضار وفي الساعات الأخيرة من حياته، وهكذا، أسلم الشيخ مصطفى نجا روحه الطاهرة إلى بارئها فجر يوم الأحد في 23 رمضان المبارك سنة 1350هـ الموافق 31 كانون الثاني سنة 1932م وكان آخر عمله في هذه الدنيا قبيل وفاته بساعات قليلة، خدمة مواطنيه وقضاء مصالحهم.

وفي صبيحة هذا اليوم، أفاق أهل بيروت على النبأ العظيم، نبأ انتقال مفتيهم الكبير إلى جوار أكرم الأكرمين عن عمر بلغ 81 سنة، وقرأ البيروتيون نشرة النعي التالية: