عائشة التيموريـِّة

 

حين تشرق شمس بعد غروب طويل يزهر الفضاء بسواسن اشتاقت لشعاعها.. ويحلو للعصفور التحليق في سمائها بحثاً عن أشعة نسجتها على طريق النور..
هكذا أنظر إلى سيدتي التي أنا بصدد الحديث عنها إذ أراها شمساً أطلت على سماء المرأة المسلمة بعد انقطاع دام قروناً.. فقدت خلالها المرأة أهميتها ودورها في بناء لبنات المجتمع.. وبات من يعرف كيف يفك الخط عالماً.. ومن يحسن قراءة القرآن شيخ زاوية .. وأضحى الموروث من العرف أقوى في ألباب الناس من النهج الرباني.. فغدت المرأة متاعاً ووعاء ليس إلا !!!!


في هذا الموج الشديد الظلمة وخلف أستار ليله الدامس ولدت شاعرتنا عائشة هانم تيمور في القاهرة سنة 1840 لأب تركي كان ساعداً من سواعد محمد علي فارتقى في السلك الحربي حتى بلغ مرتبة الباشوية.. لكن تكوينه العسكري لم يمنعه من الاهتمام بالأدب والثقافة أكثر من اهتمامه بالحرب .. ويبدو أن عائشة تأثرت به فظهر حبها للعلم من نعومة أظفارها .. ومالت للقراءة أكثر من الحياكة والتطريز.. وتجلى اهتمامها بالقرطاس أكثر من الغسل والطبخ الأمر الذي لم يكن مألوفاً في عصر أقصى ما تتعلمه المرأة هو الأعمال المنزلية والتطريز !!!

 

كانت والدة عائشة تيمور من ربات الخدور اللواتي يسعين إلى تعليم بناتهن ما ينفعهن في حياتهن الزوجية فحسب .. فلم تقبل بميول ابنتها وعملت على تعنيفها حرصاً منها على تعلم ما يصلح لها .. خاصة وأن ذلك العصر كان يقيس المرأة بمقاييس العرف السائد.. لكن والدها كان له موقف معاكس من والدتها.. فما لبث أن اهتم بموهبة ابنته الأدبية وعمل على تشجيعها .. ولما كان عصرها مقتصراً على الكتاب ومدارس الذكور التي لم تحظ بها سوى المدن الكبرى فقد جلب لها المعلمين والمعلمات لتعلم القرآن الكريم والفقه والخط والشعر وعلم العروض.. مما ساهم في صقل موهبتها وظهورها بشخصية تختلف عن بنات عصرها .. واستمرت على ما شغف به قلبها يجذبها العلم بحباله المتينة أكثر مما تستهويها مجالس النساء وحكايات القيل والقال .. فنفرت مما اعتادت عليه بنات جيلها لتنزوي خلف أبواب مجالس الأدب التي اعتاد والدها أن يقيمها في بيته تستمع لأقوال الأدباء والشعراء دون أن يعلم بها أحد.. الأمر الذي أدى إلى حدوث صراع بين الأم والأب عبرت عنه في مقدمة ديوانها (حلية الطراز) حين قالت: ( وكانت أمي تعنفني بالتكدير والتهديد، فلم أزد إلا نفوراً ، وعن صفة التطريز قصوراً ، فبادر والدي ، تغمد الله بالغفران ثراه ، وجعل غرف الفردوس مأواه ، وقال لها : دعي هذه الطفيلة للقرطاس والقلم ، ودونك شقيقتها ، فأدبيها بما شئت من الحكم ، ثم أخذ بيدي وخرج بي إلى محفل الكتاب).
 

وما إن بلغت عائشة تيمور الرابعة عشرة من عمرها حتى تزوجت من محمد توفيق زاده فعاشت معه كسيدة أرستقراطية.. يحفل منزلها بالخدم والحشم.. فلم تصرف وقتها بين دور الأزياء وصالونات الشعر كما تفعل النساء.. بل عكفت في أوقات فراغها على كتب الصرف والنحو والعروض حتى أتقنت اللغة العربية إلى جانب إتقانها للغتين الفارسية والتركية .. فكتبت باللغات الثلاث دواوين شعرها التي تركتها نموذجاً لانبلاج فجر الوعي في حياة المرأة المسلمة بعد كبوة طويلة.


وشاءت الأقدار أن تمتحن عائشة في ابنتها ( توحيدة ) التي ماتت ولها من العمر عشر سنوات .. ويبدو أن توحيدة كانت برعم شجرة باسقة من أمها عائشة فحزنت لفراقها أيما حزن .. وأطلقت المراثي والآهات التي جاء منها :

أمــاه لا تنسي بحق بنوتي قبـري لئلا يحزن المقبـور
ورجاء عفو أو تـلاوة منزل فسواك من لي بالحنين يزور
فلعلما أحظى برحمة خالــق هــو ربنا راحم وغفــور


استمرت عائشة تبكي ابنتها سبع سنوات حتى أصيبت بالرمد ونصحها الأطباء والمقربون بأن تخرج من هالة حزنها .. فانصرفت تواسي نفسها بقراءة القرآن عاكفة على دراسته ، وتنهل من الحديث الشريف الأمر الذي أضفى على حياتها إجلالاً وإكباراً ، وأكسب قلمها مزيداً من السمو.. فأطلقت لكتاباتها الشعرية والنثرية العنان تشدو في الكثير من المجالات التي عاصرتها مطالبة المجتمع بتهذيب الفتيات وتعليمهن .. وصرفت جل اهتمامها لتحقيق هذا الهدف .. فكانت كما وصفها معاصروها درة يتيمة في عصر الرجال...


اشتهرت عائشة تيمور بقصيدتها التي جاء فيها :

 

بيد العفاف أصون عز حجابي وبعصمتي أسمو على أترابـي
ولقد نظمت الشعر شيمة معشر  قبلي ذوات الخدر والأحسـاب
عوذت من فكري فنون بلاغتي بتيمية غراء وحرز حجــاب
ماساءني خدري وعقد عصابتي وطراز ثوبي واعتزاز رحابـي

                              

هذه عائشة تيمور سباقة عصرها في الخروج من قيد العادات البالية وظلمة الأعراف التي لم ينزل الله عز وجل بها سلطاناً إلى نور نسج ظلاله على ثوبها المخملي.. تتوج حياتها الاجتماعية الأرستقراطية بدرر العلم والثقافة بدلاً من الألماس والذهب .. فهل لنا بالخروج أيتها المرأة المسلمة من دنيا السطحية إلى عالم الثقافة الحقيقية لنرقى وترقى أمتنا بين الأمم.