بذل    

وتعتبر (بذل) من اشهر مغنيات المدينة في عصرها، ومن الذين اسهموا في تأريخ حقيقي للغناء العربي وحفظه من الضياع والنسيان وذلك بفضل كتابها القيم في الاغاني، الذي احتوى على اثني عشر الف صوت غنائي، اضافة الى كونها تعتبر من المغنيات المجيدات، اللواتي كن يحفظن مئات الالوف من الاصوات وهي شيء اقرب مايكون الى الاساطير.
وتحدثنا كتب التاريخ الموسيقي، عن هذه الفنانة، انها كانت تحفظ وتغني ثلاثين الف صوت.

تعلمت (بذل) على ايدي اعلام كبار في تاريخ هذا الفن، حيث تتلمذت على (ابي سعيد مولى فائد) و (فليح بن ابي العوراء) و (ابن جامع) و (ابراهيم الموصلي) و (ابراهيم بن المهدي) وغيرهم, وكما هو معلوم فان هؤلاء الاعلام كانوا ينتمون الى عدة مدارس فنية، هو ما اغنى هذه الفنانة وجعلها اكثر دراية وخبرة في فنون هذه الصنعة الجميلة, وبهذا تعتبر (بذل) من الفنانات القديرات اللواتي اكتسبن ذخيرة معرفية عميقة في العلوم الموسيقية والغنائية على حد سواء، اهلها لان تكون مرجعاً مهماً للاصوات الغنائية القديمة والمحدثة وكل ذلك بفضل ذاكرتها العجيبة بالفعل وما يحكى عنها في هذا المجال، حيث كتبت (لعلي بن هشام) في يوم وليلة فقط مايقارب (اثني عشر الف صوت) وهي في حالة من الملل والضجر!!.


وكانت (بذل) في فترة من الفترات توافي الموسيقار الكبير(ابراهيم بن المهدي) وهو الفنان المبدع وكان يعظمها ويقدرها حق تقدير بكونها مدرسة حقيقية للغناء، وفي احدى المرات حدث سوء تفاهم بينهما واخذ الجفاء والاستعلاء طريقة اليه, فما كان منها وهي الفنانة الواثقة من نفسها الى ابعد الحدود، الا ان اتت (ابراهيم) وواجهته بشجاعة تريد امتحانه، حيث اتت بآلة العود وغنت في نغم واحد وايقاع واحد مائة صوت، لم يعرف (ابراهيم) منها صوتاً واحداً, فما كان منه الا الاعتذار وعادا كما كان من قبل.


اما حكايتها المشوقة مع موسيقار العصر العباسي (اسحاق الموصلي) وهو من اشهر الموسيقيين على مر تاريخ هذا الفن، فجاءت لتؤكد على تلك المكانة المرموقة التي حازتها هذه الفنانة المبدعة بكل اقتدار واستحقاق, فقد تنازعت يوماً مع (اسحاق) على نسبة احد الاصوات ونشب الخلاف بينهما مما احرجها كثيراً وكانا في مجلس الخليفة (المأمون) واضمرت في نفسها حقداً دفيناً (لاسحاق) وصممت على رد الدين له، فقامت وغنت بحضرة (المأمون) ثلاثة اصوات في ايقاع الثقيل الثاني- وهو من الايقاعات المشهورة في الموسيقى العربية- وبعد ان اكملت الغناء سألت (اسحاق) بثقة مطلقة والان اخبرني لمن تلك الالحان؟ فأعياه الجواب وتحير، فما كان منها الا ان قالت (للمأمون) يا امير المؤمنين ان تلك الالحان هي لابيه (ابراهيم الموصلي) اخذتها عنه، فاذا كان (اسحاق) لايعرف غناء ابيه والحانه، فكيف يمكنه ان يعرف غناء غيره, فأفحمت بجوابها هذا (اسحاق) وجعلته يصغر في عيني (المأمون) ويعظم هذه الفنانة ويجزل لها العطاء وهي التي كانت تمتلك ثروة غنية من الاموال والهدايا نتيجة ابداعها المميز في هذا الفن.