علية بنت المهدي

   

للمغنيات في تاريخ الموسيقى العربية، دور بارز في اغناء واثراء الحياة الموسيقية العربية وعلى مر هذا التاريخ، كان إبداع تلك المغنيات، لايقل اهمية وقيمة عن ابداع اعلام الغناء العربي من الرجال، هذا ان لم يكن يتفوق عليه في بعض المراحل، اضافة الى تمتعهن بقدر وافر من الثقافة الفنية والادبية، اهلهن لأن يتبوأن مكانة مرموقة في تاريخ الفن الموسيقي والغنائي العربيين.


اما (علية بنت المهدي) فقد كانت واحدة من اشهر المغنيات، ولدت في بغداد عام (160هـ-777م) وعاشت طفولتها في قصور الخلافة وفيها تذوقت ثمار الفنون والآداب المختلفة، حيث نشأت نشأة تليق بها كأميرة، وبدأت في تثقيف نفسها وهي التي كانت تتمتع بموهبة فنية وادبية لامثيل لها، فبدأت مبكراً بقول الشعر وصياغة الالحان، التي كانت تأتيها غالباً عفو الخاطر، فتقوم بغناء تلك الالحان بصوت رائع يسحر الالباب، وقد اتخذت هذه الصنعة كهواية وبقيت كذلك الى آخر ايامها، حيث كانت بالحانها تلك تعبر عن مكنون مشاعرها الدفينة وعاطفتها الرقيقة ونبض وجدانها.


ومن اوائل الاصوات التي لحنتها (علية بنت المهدي) كان صوت قالته شعراً ايضاً في غلام من خدم (هارون الرشيد) يدعى (طلّ) كانت تهواه وتراسله شعراً بشكل مستمر وهو:

 

يارب اني قد غرضت بهجرها فإليك اشكو ذاك يا ربـاه
مولاة َسوء تستهين بعبدهـا نعم الغلام وبئست المولاة
طلّ ولكني حرمت نعيمــه  ووصاله ان لم يُغثني الله


وقد كانت الحانها تلقى دائماً الاهتمام والتقدير من الجميع وخصوصا في قصور الخلفاء والامراء، حتى انها كانت تفضل في بعض الاحيان على الحان اخيها الامير (ابراهيم بن المهدي) وهو الموسيقار القدير صاحب المدرسة التجديدية في الموسيقى العربية وفي ذلك قيل: ما اجتمع في الاسلام قط اخ واخت احسن غناء من ابراهيم بن المهدي واخته علية حتى كانت علية يقدمونها على ابراهيم .

 

ومن الحوادث الشهيرة التي جرت ايام الخليفة (هارون الرشيد) ما يحكى عن هذا الخليفة انه هوي واستأثر جارية جميلة اهديت اليه وكانت في غاية الجمال والحسن، فكان يصطبح معها دائماً حيث زاد اهتمامه به بشكل كبير مما ازعج (ام جعفر) التي التجأت إلى (علية) كي تخلصها من هذه المشكلة التي ارقتها وكادت تقتلها غيظاً، فما كان من (علية) الا ان قالت لها: لايهولنّك هذا، فوالله لاردنه اليك، حيث قامت بصنع شعر ميل معبر يحكي عن الوصال والهجران وصاغت فيه لحناً صورته فيه معاني الكلمات بكل ابداع وتميز وطرحته على الجواري حتى حفظن اللحن بشكل متقن، وبعد ذلك اتين الى (الرشيد) بعد صلاة العصر وبدأن الغناء:

منفصل عني ومـا  قلبي عنه منفصل
يا قاطعي اليوم لمن نويت بعدي ان تصل

                                       
وهنا تملك الخليفة الطرب وتأثر عميقاً حيث هزته كلمات هذا الصوت كما هزه اللحن الذي ابدعته (علية) وعلى الفور قام (الرشيد) واعتذر من (ام جعفر) ومن اخته (علية) وهو في غاية السرور والنشوة فامر (مسرور) الخادم الا يبقي في بيت المال درهماً واحداً الا ونثره وهكذا كان حيث بلغ ما نثره، (مسرور) يومئذ ستة آلاف الف درهم وهو شيء لم يحدث في تاريخ الخلفاء قط.


وعندما مات (الرشيد) جزعت علية، كثيراً على فقدانه، وتركت الغناء وقرض الشعر حزناً وتأسفاً على رحيل اخيها (الرشيد) .

 

اما الامير (ابراهيم بن المهدي) فقد كان يأخذ عن اخته (علية) العديد من الالحان التي كانت تسكبها حباً وحناناً وفناً اصيلاً لاينسى.


وهكذا نرى (علية بنت المهدي) هذه الفنانة القديرة تصوغ وتبدع اشعاراً والحانا في غاية الجمال والعذوبة، تناقلها المغنون والشعراء في شتى انحاء البلاد، تلك الالحان ذات المنحى التعبيري العميق، وذاك الشعر الذي كانت تقوله تطرباً لاتكسباً، حيث كانت تلحن وتغني شعورها بان هذا الفن هو اسمى مايمكن ان يبدعه انسان معبراً من خلاله عن احاسيسه ومشاعره وخلجات قلبه.


ونذكر أن الحان هذه المغنية العظيمة بلغت حوالي (ثلاثة وسبعين لحناً) .

 

توفيت هذه الفنانة الاميرة في بغداد سنة (210هـ/825م) بعد ان تركت لتاريخ الغناء العربي ثروة فنية لاتضاهى والحاناً سكبتها حباً والفاً وابداعاً، وقيل ان سبب وفاتها ان (المأمون) ضمها إليه وجعل يقبل رأسها، وكان وجهها مغطى فشرقت من ذلك وسعلت ثم أتتها الحمى على اثر ذلك فما لبثت أن ماتت بسبب ذلك والله اعلم.