أم كلثُوم

 

أم كلثُوم إبراهيم البلتاجي، أعظم المجودات من نساء العرب، ( كوكب الشَّرق ) نسج لها من الألحان أعظم منشئي اللحن عند العرب في القرن العشرين. ولدت في قرية طمباي الزهايرة من أعمال الدقهلية، بين القاهرة والإسكندرية، سنة 1896 في قول، وفي قول آخر سنة 1904.


بدأت أم كلثُوم تغني وهي في الثالثة عشرة، متجولة في قرى الريف مع والدها الشيخ إبراهيم، منشدة التواشيح الدينية والقصائد الصوفية. وأخذ يتعرف بها كبار منشئي اللحن آنذاك، الشيخ أبو العلاء محمد، والشيخ زكريا أحمد وغيرهما.

وفي سنة 1923 تركت الريف واستقرت في القاهرة، حيث التقت مرة آخرى صديق والدها الشيخ أبو العلا سيد ملحني القصائد آنذاك، فغنت من روائعه قصائد بقي منها عشرة على الأقل:

Ø    الصبّ تفضحه العيون

Ø    حقك أنت المنى

Ø    أقصر فؤادي

Ø    مثل الغزال نظره

Ø    يا آسي الحي

Ø    أفديه إن حفظ الهوى

Ø    أمانا أيها القمر المطل

Ø    قل للبخيلة بالسلام تورعا

Ø    أكذب نفسي

Ø    كم بعثنا مع النسيم سلاما

 

 وغنت بعض هذه القصائد بلا موسيقى أو إيقاع، فيما يشبه اختيارا اجتازته مبشرة بعصر جديد يطوي صفحات سابقة من الغناء النسائي.


وفي السنة التالية لوصولها إلى القاهرة، تعرفت بالشاعر أحمد رامي الذي كان لتوه أنهى دراسة الفارسية في باريس، وبلغ إليه أنها غنت له قصيدته: "الصب تفضحه العيون"، وتعرفت في السنة ذاتها على طبيب الأسنان الطنطاوي الفنان الدكتور أحمد صبري النجريدي الذي لحن لها أربع عشرة أغنية على الأقل.


وسرعان ما أخذ النجريدي يلقنها ضرب العود، إلى أن حل محله في هذه المهمة عبقري الآلة العظيمة، محمد القصبجي، الذي علم محمد عبد الوهاب هذا الفن أيضا. في هذه المرحلة أخذت أم كلثُوم تظهر على المسارح في القاهرة والأقاليم مع فرقة موسيقة تضم على العود القصبجي، وعلى القانون محمد العقاد، وعلى الكمان سامي الشوا.


وإذا كان الموصلي محقا في أن اللحن صنعة الرجال، فلم تظهر ملحنة موسيقية ذات شأن في أي من حضارات العالم الموسيقية المعروفة، فإن أم كلثُوم حاولت الإحتذاء على أستاذها، فلحنت أغنيتين وغنتهما: "على عيني الهجر ده"، و"يا نسيم الفجر" على أوديون. 


واستمرت رفقتها للقصبجي ملحنا من سنة 1924 حتى 1948 حين لحن لها أغنيات فيلم "فاطمة"، لكنه ظل يعزف على العود في فرقتها حتى وفاته سنة 1966، ولم يكن شأن هذه الرفقة إلا أن تترك أثرا خطيرا في مسارها الفني. وهذا المسار الطويل مع القصبجي واكبه مسار مواز مع موسيقيين من سادة اللحن العربي غيره. فمن سنة 1930 إلى 1932، لحن لها داود حسني إحدى عشر أغنية معظمها أدوار.


وتعرفت أم كلثُوم رفيق عمرها الثاني الشيخ زكريا أحمد في حزيران1919 في السنبلاوين، وذهبت إليه في القاهرة سنة 1922، فعرفها بالشيخ على محمود والشيخ أحمد ندا، وساعدها كثيرا في أول عهدها بالقاهرة، لكنه لم يبدأ بالتلحين لها إلا في سنة 1931. ولعله كان مشغولا عنها بنتاجه المسرحي الكثير. وتعرفت كذلك على رفيق عمرها الثالث رياض السنباطي فغنت له أولا رائعته: "النوم يداعب عيون حبيبي" التي تبدو أشبه بألحان القصبجي.

في هذه المرحلة اهتمت أم كلثُوم بالأفلام الغنائية، فأنتجت ستة منها:
وداد وغنت فيه لزكريا أحمد، نشيد الأمل وغنت فيه للقصبجي، دنانير وغنت فيه لزكريا، عايدة أو أوبرا عايدة، لحن قسمها الأول القصبجي، والقسم الثاني السنباطي، أما زكريا فلحن لها: فضل لي إيه يا زمان لرامي، ويا فرحة الأحباب، سلاّمة، وفيه غنت لزكريا، وفاطمة حيث غنت أيضا لزكريا.


بدأت أم كلثُوم في مطالع العقد الخامس حفلاتها الثلاثية الشهرية، في أول خميس من كل شهر، عدا أشهر الصيف. فظهرت لها أنماط جديدة ومختلفة من الأغنيات التي غلب عليها شكل زاوج الطقطوقة الطويلة بالمونولوج، منها: أنا في انتظارك، الآهات، حبيبي يسعد أوقاته، سلو قلبي وغيرها. لكن فيلم فاطمة كان خاتمة مرحلة وبداية مرحلة، إذ ارتأى الشيخ زكريا وتوأمه الشاعر الخالد بيرم التونسي أن الست لا تفيهما حقهما المالي لقاء التأليف والتلحين لها. ولم يكن ريع الحقوق منتظما آنذاك بل كان المغني يشتري الكلام واللحن فتصبح الإغنية ملكا خاصا به، فتوفا عن العمل معها، ولم تغن لزكريا بعدئذ، حتى كانون الأول 1960، حين غنت لهما رائعتهما: "هو صحيح الحب غلاب"، مع أغنية بليغ حمدي "حب إيه".

في السنوات الإحدى عشر الأخيرة، أعطاها السنباطي أغنيات مسرحية خالدة جعلها بعض النقاد معيارا للأسلوب السنباطي في التلحين، فيما جعلها بعض آخر نماذج للأسلوب الكلثومي في الغناء، برغم أن كلا منهما لم يعرض عن الأساليب الأخرى لا في التلحين في الغناء: أغنية النيل، رباعيات الخيام، سهران لوحدي، يا ظالمني، جددت حبك ليه، ذكريات، أروح لمين، قصة الأمس، شمس الأصيل.


ولما عاودت أم كلثُوم الغناء لملحنين آخرين، كان خط الأغنيات السنباطية الكلثومية اتخذ وجهته، فتابعه السنباطي بعد 1960 بعدد من الأغنيات الكبيرة: الحب كده، حيرت قلبي، حسيبك للزمن، لا يا حبيبي.. ولعل من خفايا ما يذكر ما صادفته أم كلثُوم أنها غنت قصيدة أبي فراس الحمداني "أراك عصي الدمع" في ثلاثة ألحان، لها على مقام البياتي وهي لحن عبده الحامولي، ثم على مقام الهزام لزكريا أحمد، فلم تسجل الأغنية للأسف. وأخيرا على مقام الكرد لرياض السنباطي. ومما غنته أيضا وحيدة لملحن لبناني هو فريد غصن.

لقد كتب كثيرا في كوكب الشرق، وعرفت مراحل حياتها في نطاق واسع، منذ زواجها بالملحن الكبير محمود شريف حتى زواجها الآخر بطبيب الجلد الشهير حسن الحفناوي. وقد امتاز صوت كوكب الشرق بستة عناصر قوية يكفي كل منها ليجعل صوتها ظاهرة عظيمة:

1) المساحة، إذ يغطي صوته ديوانين، من وسط موقع صوت الباريتون الصوت الرجالي المتوسط في تصنيفات الأصوات الغربية. وهذا نادر للغاية في أصوات المغنيات في العالم. عرف أن صوت سلامة حجازي يغطي ثلاثة دواوين، وصوت مغنية البيرو الشهيرة إيما سوماك يغطي أربعة دواوين، لكن غناءها يمتاز بهذه الصفة الفيزيائية في الصوت دون أن تكون له قيمة فنية ممتازة، خلافا لصوت أم كلثُوم.

2) التملك من الصوت، فهي كانت تستطيع أن تؤدي بسهولة جملة غنائية صعبة للغاية، بزخرف صوت يصل إلى حد الإعجاز. ويذكر في أغنية "يا ظالمني"، تطويرها لأداء كلمة: "عشان"، في جملة "عشان تعطف علي يوم".

3) قوة الصوت، فالغناء المعتمد على الحجاب الحاجز في أسفل الرئتين، يجعل ضغط الهواء في الحنجرة مساويا مرتين ونصف مرة للضغط الجوي. أما غناؤها فكان يعتمد على الضغط المباشر على الحنجرة. ولذا كان الضغط على حنجرتها هائلا. وكانت تبتعد عن الميكروفون أكثر من متر في حفلاتها، فإذا ارتفعت نبرة الغناء ابتعدت مزيدا، وانقرضت فصيلة هذا الصوت في عصر الميكروفون.

4) القوة البدنية، ذلك أن أطول حصة غنائية في أطول الأوبرات الأوروبية لمغن بمفرده، لا تزيد على أربعين دقيقة، ولا تتجاوز مدة الغناء المتواصل خمس عشرة دقيقة. أم كلثُوم كانت تغني أربع ساعات وحدها، في سهرات تستمر في المعتاد، مع الإستراحة واللوازم الموسيقية ست ساعات تقريبا.

5) طول العمر، فأم كلثُوم غنت مذ كانت في الثالثة عشرة حتى الثالثة والسبعين، أي ستين سنة كاملة. وليس في تاريخ الغناء في العالم ظاهرة مماثلة أو مقاربة ولم يعرف مغنون أوروبيون غنوا أكثر من أربعين سنة.

 

 أجريت سنة 1975 تجارب إلكترونية لقياس نسبة النشاز في الأصوات المصرية المعروفة. ويذكر أن الطنين الكامل بين مقام دو ومقام ري يتخذ معيارا في القياس، إذ أن تسع الطنين هوالفارق الذي تستطيع الأذن العادية أن تميزه. وأظهرت الآلات الإلكترونية أن دقة صوت أم كلثُوم بلغت واحدا على الألف من الطنين، ودقة صوت عبد الوهاب واحد على ألف ومائتين من الطنين.