أسـمهان

إن مصر التي عبر عن عبقريتها الستة الكبار، حتى كاد نبوغهم أن يكون في فضلها وحدها، كان لها أيضا كل الفضل في نبوغ سابعتهم التي جاءت إلى أرض الكنانة وهي لم تزل طفلة.


أراد أبوها الأمير فهد أن يسميها بحرية لأنها ولدت في البحر، في 24 تشرين ثاني 1917، حين كان يعود بعائلته سرا إلى الشام، بعد هزيمة عسكر السلطان الذين كان يقودهم في بعض الممتلكات العثمانية في أوروبا، في الحرب الكونية الأولى. لكن والدتها عالية المنذر أسمتها أمل لأنها ولدت مع أمل النجاة إثر ليلة كادت فيها الباخرة تغرق. أما زوجها الأمير حسن الأطرش فأحب أن يسميها آمال تفاؤلا. لكن العرب عرفوها بالإسم الذي أطلقه عليها أستاذها الموسيقي العربي الكبير داود حسني: أسمهان على اسم مغنية عربية مجيدة من عصر غبر.


ولدت أسمهان في جبل الدروز من عائلة آل الأطرش، وكان والدها آنذاك يفر بعائلته بحرا. وكان أول بر وطأته قدما الطفلة أرض بيروت ثم إلى مصر هي وإخوتها فؤاد وفريد وأمل، فدخلوا هناك المدارس وارتسمت أمامهم مسالك النزوع الفني الذي ورثوه عن خؤولتهم. وكان خالهم خليل المنذر الذي مات وهو شاب، صاحب صوت عذب، وأمهم تضرب العود وتغني. فغنت بأجر في روض الفرج، وأوكلت إلى علمين من أعلام الموسيقى العربية تعليم أبنائها الفن: داود حسني، وفريد غصن اللبناني الذي لمع في العود والتلحين في عصر العمالقة في مصر. وأخذ بيت الأطرش في القاهرة يتحول في أوائل الثلاثينات إلى موقع من مواقع تجمع الفنانين، يلتقون حيث البراعم والوعد.

 
وبعدما بدأت أسمهان تغني لكبار في دنيا اللحن (القصبجي وحسني وغيرهما) وهي لا تزال في الخامسة عشرة، استفاقت رواسب العمومة في صدر الشقيق الأكبر فؤاد وهو الذي تسنى له أن يعي أمجاد الزعامة السياسية، فثار في مسالك الخؤولة الذي أخذت أسمهان وشقيقها فريد يسيران عليه. فهرب ليلا إلى جبل الدروز سنة 1933، وهو في الثانية والعشرين، ولم يلق آذنا صاغية لدى والده الذي انصرف إلى زوجة جديدة. لكن ابن عمه الأمير حسن لقيه بالترحاب وانتخى لنجدته. كان يجب أن يتزوج أسمهان قبل أن تمضي في طريق الفن إلى منتهاه. وطلق الأمير حسن زوجته، وتزوج ابنة عمه واستطاع فؤاد أن يبعد عن بيت أمه في القاهرة حشود الفنانين وأن يبعد أخته إلى دمشق ثم إلى الجبل حيث يصان الشرف وتحفظ للإمارة حرمتها.


حاولت أسمهان الإنتحار في دمشق أول مرة، ثم اغتنمت فرصة سفرها إلى القاهرة لزيارة أمها وطفلتها من أجل الإستقلال في عاصمة الفن العربي . ولم تقو على معاندة ميلها وهواها إلى الفن، فمكثت في القاهرة تبيت أسبوعا في بيت أمها وشهرا في الفندق.

 

ومضت حياتها في السنوات السبع الأخيرة على هذا المنوال: تصعد في عالم الفن لتسعد جمهورا أحلها مكانة متقدمة في عصر العمالقة، فيما كانت تلهث وراء يوم تسعد فيه نفسها فلا تصادف إلا المآسي.


غنت أسمهان قبل زواجها، وهي بعد في الرابعة عشرة والخامسة عشرة لحنين لداود حسني وألحانا لمحمد القصبجي، لكن من يسمع هذه الأغنيات وبخاصة لحن القصبجي لكلمات يوسف بدروس، صديق العائلة: "كنت الأماني"، يحس عدم نضوج هذا الصوت، إذا ما قورن بصوت أسمهان الذي يعرفه العامة على الرغم من البشائر الواضحة فيه.
أول أغنية غنتها أسمهان بعد عودتها إلى القاهرة سنة 1937 للقصبجي، لحنه الأصولي الكبير: "ليت للبراق عينا" وهو لحن غناه قبلها إبراهيم حمودة، ثم حياة محمد في فيلم "ليلى بنت الصحراء"، والقصبجي أعطاها طائفة أخرى من أجمل إغنياتها تراوحت من القصيدة:

"أسقنيها بأبي" وهي قصيدة الأخطل الصغير الشهيرة، و"يا طيور"، وقصيدة أحمد شوقي وغيرها من الأغنيات الخالدة.


ويؤثر على أسمهان أنها لم تغن للشيخ زكريا أحمد، مع أنها غنت له ثلاث أغنيات على الأقل: "هديتك قلبي"، وقصيدة أبي العلاء المعري: "غير مجد في ملتي واعتقادي"، وعذابي في هواك أرضاه"، غير أن هذه الأغنيات لم تحظ بشهرة. كذلك غنت لحنا من ألحان أستاذها فريد غصن فور عودتها من دمشق هي: "نار فؤادي".


وعلى الرغم من أن أسمهان هي أكثر مطربة تعلمت من أساليب محمد عبد الوهاب في تجديد فنون الغناء العربي وأصوله، إلا أنها لم تغن من ألحانه سوى أغنيتين في فيلم لم تظهر فيه، فيلم "يوم سعيد"، والأغنيتان هما: "محلاها عيشة الفلاح"، التي عاود عبد الوهاب غناءها بصوته فيما بعد، و"أوبريت قيس وليلى"، شعر أحمد شوقي ويعدها النقاد الجديون العرب ذروة الفن الموسيقي والغنائي العربي بلا منازع.


*
تحليل صوت أسمهان:


يقول الفنان فيكتور سحاب:
1-
إن صوت أسمهان من حيث مساحته الصوتية يضم من التصنيفات الأوروبية للصوت النسائي فئتي السوبرانو والمتسوسوبرانو، وهو يمتد على أكثر من ديوانين، إذا احتسبنا صوت الرأس الذي تجيده بإبداع. ولذا فهو صوت كبير.


2-
إن أسمهان كانت تستخدم صوت الرأس الأوبرالي المرتفع في منتهى الحنان والدفء الإنساني والدقة والذوق السليم، والتعبير الفني وبلا أي نبرة صراخ.


3-
إن خامة صوت أسمهان أي نبرته هي لا شك من أجمل الأصوات المعروفة شرقا وغربا، وفيه من الأنوثة والدفء الإنساني ما يجعله متفوقا بالمعايير العالمية.

4-
غنت أسمهان غناء سمته أنه عصري، لكنه مؤسس على أصول الغناء التقليدي الأصيل. هذه الملامح هي نفسها ملامح عبد الوهاب الذي تعلمت عليه.


5-
إن التعبير الإنساني يبقى أعظم ما في غناء أسمهان، وهو تعبير يكاد لا يستثني حالة من حالات المشاعر والأحاسيس الإنسانية. ففي أغنية "ليالي الأنس" تنتقل أسمهان بسرعة من مزاج إلى مزاج آخر وفقا للحن والمعاني.


وفي أغنية "ياحبيبي تعال الحقني"، أربعة مقاطع على لحن يتكرر، والعبارات "من بعدك" و"أتألم"، و"في يدّك" و"يلين قلبك" تقولها أسمهان بأحاسيس مختلفة تؤدي تعبيرا مختلفا في كل مرة، وفقا للمعانى المطلوب، على الرغم من أن اللحن نفسه في العبارات الأربع، وعلى الرغم من أن العبارات المذكورة قصيرة للغاية، ولا مجال فسيحا فيها للتعبير الإنساني الزخم، إذ إنها تتشكل من علامتين موسيقيتين لقط. وفي أغنية "عليك صلاة الله وسلامه" تضفي أسمهان بصوتها مسحة خشوع، بخاصة عند نهاية كل مقطع: "دي قبلتك يا نبي قدامة".


وارتفعت في التعبير المسرحي إلى مستوى محمد عبد الوهاب، في المغناة المسرحية الخالدة "قيس وليلى"، في المحاورة وتصوير الحالات المسرحية الدرامية والنفسية المختلفة، كمثل حالة الحب، حين تناديه "قيس"، فيرد عليها: "ليلى بجانبي كل شيء إذن حضر"، وما تشحن به هذا النداء من حرارة عاطفية مشبوبة، وكمثل حالة التوتر والقلق والإنفعال النفسي لدى مرأى النار: "ويح قيس ما أرى"، ثم "ويح قيس تحرقت راحتاه

تلك هي أميرة الجبل، الفرس الشقراء التي لم تطق قيدا والتي سميت فيما بعد بـ "عروس النيل".