الهادي

قال تعالى: وكفى بربك هادياً ونصيراً "31" (سورة الفرقان)

هو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وهو الذي هدى ما خلق لما أراد منه في دينه ودنياه، وجميع أمره. وهو المرشد لعباده، وهو الذي دل المؤمنين إلي الدين الحق، وهو الذي يهدي القلوب إلي معرفته، والنفوس إلي طاعته، ومن يؤمن بالله يهد قلبه، وإن الهادي هو الله. وقد ورد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت "عائشة" رضي الله عنها: بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة إذا قام من الليل؟ قالت:  "كان إذا قام من الليل افتتح الصلاة بـ"اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من يشاء إلي صراط مستقيم"

وقد ذكر "الهادي" سبحانه بلفظ الاسم مرتين في القرآن الكريم: وإن الله لهاد الذين آمنوا إلي صراط مستقيم "54" (سورة الحج)

"اللهم إنا نسألك أن تهدينا إلي الصراط المستقيم"

وكفى بربك هادياً ونصيراً "31" (سورة الفرقان)

يقول الحق سبحانه: وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا .. "43" (سورة الأعراف)

لأن الله لو لم ينزل منهجاً لما استقامت حركة حياتنا، ولما وصلنا إلي الجنة، ولذلك فنحن نحمد الله على أنه شرع لن ما جعلنا نصل إلي هذا النعيم، ويقول الحق جل جلاله: وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .. "43" (سورة الأعراف)

تحدثنا عنها فقلنا: إن الهداية هي أقصر الطرق الموصلة إلي الغاية، وأن لله هداية ودلالة ومعونة، وهو أن يدلنا على الطريق المستقيم، أي دلنا على أقصر الطرق التي توصلنا للنعيم، وهناك هداية معونة، وهي أن يعين الله من أمن به على طريق الإيمان. والهداية من الله وحده، لأن البشر أنفسهم لا يعرفون الغاية التي خلقوا من أجلها، والذي يدلهم على هذا الطريق هو الله سبحانه وتعالى، وكل شيء في هذا الكون مصنوع لغاية.

إذن: فالذين يشرعون لأنفسهم أو لغيرهم ضالون، بدليل أن التشريعات البشرية تتغير وتتبدل كل يوم، لماذا؟ لأن الإنسان علمه محدود، فساعة شرع عرف أشياء وغابت عنه أشياء، ولكن إذا شرع الله فلا يغيب عنه شيء. إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ..  "43" (سورة الأعراف)

 معناها أننا ما كنا نعرف الطريق إلي الجنة لولا أن هدانا الله إليه وبينه لنا، كيف؟ لقد جاءت رسل ربنا بالحق .. "43" (سورة الأعراف)

لأن الله لا يخاطب أحداً مباشرة. إذن: فلابد من رسل ليبينوا لنا الطريق. وأنت إذا كنت ذاهباً إلي طريق تسأل عنه، فيقول لك إنسان: تأخذ الاتجاه الفلاني، وتستريح في المكان الفلاني إلي آخره، فإذا وجدت الطريق كما قال لك نقول: صدق الرجل وقال حقاً والرسل الذين أرسلهم الله لنا بالمنهج دلونا على الطريق، وعندما مشينا فيه قادنا إلي الجنة، وهم قد قالوا لنا حقاً ولم يكذبوا علينا.

يقول الحق سبحانه: كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم بالبينات والله لا يهدي القوم الظالمين "86" (سورة آل عمران)

إننا نرى هذا التعجب الجميل، فالحق سبحانه يقول (قولوا لنا كيف نهدي قوماً كفروا بعد الإيمان) ولو لم يكونوا قد أعلنوا الإيمان من قبل لقلنا: إنهم لم يذوقوا حلاوة الإيمان، لكن الذي آمن وذاق حلاوة الإيمان، ما الذي جعله يذهب إلي الكفر ثانية بعد أن أدرك حلاوة الإيمان؟ إنه التمرد المركب، فلو لم يكن قد آمن من قبل لقلنا: إنه لم يذق من قبل حلاوة الإيمان.

وقد يقول قائل: مادام الله لم يهدهم فما ذنبهم؟ نقول لمثل هذا القائل: إنك يجب أن تتذكر ما نكرره دائما لتتضح القضية في الذهن؛ لأنها قضية شائكة خاصة عند غير الملتزمين، الذين يقول الواحد منهم "إن الله لم يرد هدايتي، فماذا افعل أنا؟".

إن ذلك استدلال لتبرير الانحراف، ولذلك نحن نرى أن مثل هذا القول لا يأتي أبداً من طائع لله، وليس هذا القول وقفة عقلية تستحق أن نقولها. إن الذي يقول: إن المعصية إنما أرادها الله مني، فما ذنبي؟ نرد عليه قائلين: إن الطاعة من الله "فلماذا لم نقل إن الطاعة من الله، لماذا يغفل العاصي ذكر ثواب الطاعة. إن الله قد كتب على المعصية، فلماذا يعذبني؟ وكان يجب أن يقول أيضاً: مادام قد كتب علي الطاعة، فلماذا يعطيني عليها ثواباً؟ .

إننا نقول لهذا الذي يبرر لنفسه الانحراف: إنك تريد أن تأخذ من الطاعة ثوابها، وتريد أن تهرب من عقاب المعصية، إنك يجب أن تفهم المسألة على حقيقتها: أقول ذلك حتى يتضح الأمر في أذهان شبابنا. لقد قلنا من قبل: إن "الهداية" تأتي بمعنيين، جاء القرآن بالمعنى الأول، والمعنى الثاني للهداية هو الدلالة الموصلة للغاية المرجوة، والله سبحانه وتعالى قد هدى الناس جميعاً: المؤمن منهم والكافر أيضاً. أي: دلهم سبحانه على الطريق الموصل للغاية.

إذن: فالهداية هنا تكون مرة "دلالة"، وتكون مرة ثانية "معونة" ولله المثل الأعلى نقول: الإنسان يعينه من؟ إن الذي يعينه هو من آمن به. أما من كفر بالله. فيقول الحق سبحانه: كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق .. "86" (سورة آل عمران)

إنهم أهل الكتاب الذين جاءهم نعت الرسول صلى الله عليه وسلم، لدرجة أن عبد الله بن سلام وهو منهم يقول: لقد عرفت محمداً حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد. يقول الحق سبحانه وتعالى: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون "157" (سورة الأعراف)

ولنرى دقة التعبير القرآني .. إن التعبير القرآني لم يقل: يجدون وصفه مكتوباً في التوراة والإنجيل، إنما يقول الحق: الذين يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل .. "157" (سورة الأعراف)

كأن الذي يقرؤه يرى صورة النبي عليه الصلاة والسلام لقد عرفوه لا معرفة فقط، ولكن معرفة ونزوع قول، فهناك فرق بين أن (نعرف) وبين أن (نقول) فقد يعرف الإنسان ويكتم ما عرف، ولكنهم عرفوا الرسول وقالوا ذلك. لقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم قبل مجيئه حجة على الكافرين لكفار قريش فقالوا: سيأتي نبي منكم ونتبعه، ونذبحكم به ونقتلكم به قتل عاد وإرم، فماذا فعلوا؟

إن الحق سبحانه يجيب: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين "89" (سورة البقرة)

إذن: هم آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلما جاء الرسول كفروا به، ولنرى العدالة من الحق سبحانه وتعالى حين يريد أن يدلهم على موقف الصدق والحق والكرامة الإيمانية، ويقول الذين كفروا: لست مرسلاً.

قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب "43" (سورة الرعد)

إن القرآن بعدالته ينصف كتبهم التي بين أيديهم. إن الحق سبحانه لا يعين الكافر، لأنه سيعينه على ماذا؟ إن المعونة تقتضي ابتداء فعلاً عن المعان، والكافر لم يفعل ما يمكن أن ينال بعده المعونة. إن الكافر لا ينال المعونة لأنه لم يؤمن؛ لذلك فهو غير أهل لهذه المعونة، لذلك يكون القول الفصل: والله لا يهدي القوم الفاسقين "108" (سورة المائدة)

ويكون قول الحق: والله لا يهدي القوم الظالمين "86" (سورة آل عمران)

هؤلاء الظالمون الذين ارتكبوا الظلم الأصيل وهو الشرك بالله، كما قال الحق سبحانه: وإذا قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم "13"  (سورة لقمان)

إن الحق سبحانه عندما يتركهم فإنه يزيدهم ضلالاً، ويكون قد ختم على قلوبهم.
كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم بالبينات والله لا يهدي القوم الظالمين "86" (سورة آل عمران)

إنهم لم يعرفوا الرسول من كتبهم فقط، ولم يعرفوه من الكتب وحدها، بل قالوه أيضاً، وفوق ذلك جاءهم الرسول بالآيات الدالة على صدق رسالته، ولكنهم ظلموا أنفسهم الظلم الكبير العظيم، وهو الشرك بالله، إن الله لا يهدي القوم الظالمين.

[ عودة للقائمة الرئيسيّة ]