الفصل الثاني

◄في سنة 1860م ثارت فتنة طائفيّة بين الدروز وبين مواطنيهم النصارى في جبل لبنان، فأوفدت الدولة العُثمانيّة فؤاد باشا أحد ساستها الدهاة الذي تمكّن من القضاء على هذه الفتنة بالحكمة والمرونة المقرونتين بالقوة والحزم، ثم قام بإجراء مباحثات سياسيّة مع مندوبي بعض الدول الأوروبيّة تناولت أسباب النزاع بين الطائفتين المذكورتين، وأدت هذه المباحثات إلى الإتفاق بين الدولة العُثمانيّة وبين أولئك المندوبين على إعطاء جبل لبنان وضعاً إداريًّا خاصاً عن طريق إعلانه متصرفيّة ممتازة تدار محليًّا بموجب ما سُمي يومئذٍ بالبرتوكول الذي وضع موضع التنفيذ الفعلي سنة 1864م. وقد جاء في المادة الأولى من هذا البرتوكول: (يتولى إدارة جبل لبنان متصرف نصراني تنصّبه الدولة العليّة (العُثمانيّة) ويكون مرجعه الباب العالي رأساً، وهو محتمل العزل، بمعنى أنه لا يستمر في منصبه ما دام حيًّا، ويكون على عهده القيام بجميع خطط الإدارة الإجرائيّة، متوفراً على حفظ الراحة والنظام في أنحاء الجبل كلها، وأن يحصّل منها التكاليف (الرسوم والضرائب) وبحسب الرخصة التي ينالها من لدن الحضرة الشاهانيّة (أي السلطان العُثماني) ينصّب تحت عهده مأموري الإدارة المحليّة ويقلّد الحكّام القضاء ويعقد المجلس الكبير (أي مجلس الإدارة) ويتولى رئاسته وينفذ الإعلامات القانونيّة الصادرة عن المحاكم عن القيود التي ستذكر في المادة الثامنة (أسثنت هذه المادة المعاملات والمراسيم الجارية بها العادة في سائر المملكة العُثمانيّة). وقد اشترط في هذا البروتوكول أن يكون المتصرف من رعايا الدولة العُثمانيّة النصارى غير اللبنانيين. وكان أول من تولى هذا المنصب داوود قرابيت أرتين من عائلة أرمنيّة كاثوليكيّة. وكان هذا المتصرف يطمع بأن يحكم جبل لبنان بصورة دائمة، فعمل على إسترضاء اللبنانيين بأن طلب من إسطمبول ضمّ مدينة بيروت إلى جبل لبنان لتكون منفذاً له على البحر، وعلق بقاءه في منصبه على تحقيق هذا الطلب، بيد أن إسطمبول رفضت ضمّ بيروت إلى جبل لبنان وبادرت إلى إقالة داوود باشا من منصبه.

◄في نفس السنة التي أُعلن فيها جبل لبنان متصرفيّة ممتازة، فإن الدولة العُثمانيّة ألغت جميع التقسيمات الإداريّة في البلاد السوريّة مع الإبقاء على الإمتيازات اللبنانيّة، وجعلت سوريا الطبيعيّة كلها ولاية واحدة مركزها مدينة دمشق، وبذلك أُلغيت ولاية بيروت وأُلحقت مدينة بيروت نفسها بلواء صيدا الذي كان يتألف من هاتين المدينتين ومعهما صور وبلاد بشارة (جبل عامل).

◄في سنة 1888م ألتمس أهالي بيروت من السلطان عبد الحميد الثاني الإنفصال عن ولاية سوريا وإنشاء ولاية مستقلة تكون مدينتهم مركزاً لها. فاستجاب السلطان لهذه الرغبة (نظراً لإزدياد أهمية بيروت وحساسيتها) كما جاء في الإرادة السلطانيّة، وأُعلنت ولاية بيروت التي إشتملت يومئذٍ على ألوية بيروت وعكا والبلقاء وطرابلس الشام واللاذقيّة. وأُسند الحكم فيها إلى علي باشا الذي كان من قبل والياً على ولاية آيْدن في تركيا.

◄في 29 تشرين الأول 1914م نشبت معركة بحريّة بين العمارة العُثمانيّة وبين بعض قطع الأسطول الروسي في البحر الأسود فأعلنت الدولة العُثمانيّة الحرب على روسيا التي كانت إلى جانب الحلفاء في حربهم ضد ألمانيا، وفي 11 تشرين الثاني من نفس السنة أعلن السلطان محمد رشاد الجهاد المقدّس ضد الحلفاء بوصفه أمير المؤمنين في العالم، وعيّن أحمد جمال باشا وزير البحريّة والحربيّة، قائداً أعلى للجيش الهمايوني الرابع لإدارة العمليات العسكريّة في جميع البلاد العربيّة التي كانت تعرف يومذاك باسم (عربستان).

◄في 28 تشرين الثاني أذاع أحمد جمال باشا على أهل جبل لبنان بلاغاً دعاهم فيه إلى الإخلاص لدولتهم العليّة وأعلمهم أن الإدارة العرفيّة التي أقتضتها ظروف الحرب وشملت جميع أنحاء المملكة العُثمانيّة ستطبق أيضاً على جبل لبنان. وفي وقت لاحق من هذا التاريخ حضر جمال باشا إلى بلدة عاليه بلبنان وألقى على الحشود التي جاءت لإستقباله والترحيب به، كلمة ختمها بقوله: (إن الدولة العليّة هي أمكم التي ترأف بكم وتنقذكم من الأجانب الذين يأتونكم بحجة حمايتكم والدفاع عن حقوقكم وإستقلالكم، ولكنهم في الحقيقة كالعلق يمتصون دماءكم ويقضون على كرامة نفوسكم فلا تصدقون ولا تلتفتوا إليهم وأطيعوا أمكم وقوانينها فتعيشوا بسلام وتنعموا بالسعادة والطمأنينة). وبعد هذا الخطاب بأيام قليلة أعتقلت السلطات العُثمانيّة الحكومة اللبنانيّة المحليّة وجميع أعضاء مجلس الإدارة ونقلتهم إلى المنفى في الأناضول ثم أستدعى جمال باشا أوهان قيومجيان وأبلغه إعفاءه من منصبه كمتصرف لجبل لبنان وعيّن مكانه حليم بك رئيس الماليّى التركي متصرفاً بالوكالة. وكانت هذه الإجراءات إيذاناً بإلغاء الإمتيازات اللبنانيّة وإعادة وضع جبل لبنان من جديد تحت الإشراف المباشر لوالي ولاية بيروت الذي كان يومئذٍ بكر سامي بك. وهكذا بدأت متصرفيّة جبل لبنان بحاكم أرمني وإنتهت بحاكم أرمني أيضاً.

◄في سنة 1915م تقدمت فرقة من الجيش العُثماني لأخذ مواقعها الأستراتيجيّة في جبل لبنان وعند ما وصلت إلى محلة الحازميّة قرب بيروت أعترضها قائد الجندرمة اللبنانيّة (الدرك)، بحجة أن البروتوكول لا يجيز للقوات النظاميّة التركيّة المتمركزة في لبنان، إلا أن قائد الفرقة العُثمانيّة لم يكترث بهذا الإعتراض وأمر جنوده بمتابعة تقدمهم وفقاً للخطة المرسومة. فتابع هؤلاء الجنود مسيرتهم العسكريّة إلى المواقع المحددة لهم في جميع المناطق اللبنانيّة بكل هدوء. وكان الأهالي اللبنانيون يقابلونهم بالهتاف والترحيب ويقدمون لهم الزهور والرياحين.

◄في 20 أيلول 1915م وصل إلى بيروت علي منيف بك وباشر عمله كمتصرف أصيل على جبل لبنان تحت إمرة والي بيروت، وأقام بمحلة زقاق البلاط في هذه المدينة.

◄من المفارقات الطريفة أن داوود باشا المتصرف الأول لجبل لبنان كانت أمنيته العزيزة أن يضّم مدينة بيروت إلى الجبل بيد أنه عُزل من منصبه لأنه جهر بهذه الأمنية، فلما أُسندت ولاية بيروت إلى بكر سامي بك حاول هذا الوالي بكل جهده أن يضّم لبنان إلى بيروت، فلما تمّ هذا الضّم بسبب ظروف الحرب نقل من منصبه قبل أن يقطف ثمار جهوده. وكان أحمد جمال باشا وراء هذا النقل لإعتقاده بأن الوالي المذكور كان على علاقة مشبوهة بعملاء الحلفاء في البلاد.

◄بعد بكر سامي بك وجهت ولاية بيروت على عزمي بك الذي إلى هذه المدينة يوم 8 تموز 1915م. ولم يكن هذا الوالي مجهولاً من أبناء هذه البلاد، فلقد عرفوه عن كثب عندما كان متصرفاً في طرابلس الشام حيث ما يزال أجمل الشوارع هذه المدينة وأكبرها يحمل أسمه حتى اليوم.

◄بقي عزمي بك في ولاية بيروت من حين تعيينه سنة 1915م حتى أواخر سنة 1917م وقد وصف بأنه عمراني نزيه، وإليه يعود الفضل في تنظيم أهم أقسام المدينة من ساحة البرج وباب إدريس إلى ساحل البحر دون أن يهتضم حقوق السكان. ومن آثاره الإنشائيّة الباقية الكورنيش الذي يحيط اليوم بأكثر أطراف بيروت في موازاة البحر إلى مجرى النهر، فإن تخطيط هذا الكورنيش الجميل بدأ في عهد الوالي المذكور. وفي أيام عزمي بك وقعت الأحداث السياسيّة التي أفضت إلى إعتقال بعض السياسين العرب وإعدامهم بعد إدانتهم بتهمة التواطؤ مع فرنسا والتمهيد لنزولها في سوريا وإحتلالها.

◄في أوائل سنة 1918م أُعفي أحمد جمال باشا من قيادة الجيش الهمايوني الرابع لأن إسطمبول أعتبرته مسؤولاً عن الفشل الذي مُني به الجيش العُثماني في سيناء والحجاز وقسم من فلسطين، وخلفه في مركزه سميّه جمال باش المرسيني (العربي) الذي أشتهر يومئذٍ بإسم جمال الصغير للتفريق بينه وبين سلفه.

◄أدت التعييرات في المراكز العسكريّة إلى تغييرات مماثلة في المراكز الإداريّة، فنقل عزمي بك من ولاية بيروت، وحل مكانه إسماعيل حقي بك مع متصرفيّة جبل لبنان في ذلك الحين ثم عيّن في لبنان مكانه تركي آخر أسمه ممتاز بك وهو آخر ولاة الأتراك في الجبل ما كان إسماعيل حقي آخرهم في بيروت.

◄في شهر تشرين الثاني 1918م وضعت الحرب العالميّة الأولى أوزارها، وكانت قد ابتدأت في أوائل شهر آب 1914م. كان النصر في هذه الحرب الضروس إلى جانب الحلفاء الذين أستطاعوا التغلب على ألمانيا وحليفتها الدولة العُثمانيّة بعد صراع مميت دام أربع سنوات وأربعة شهور تقريباً شهد العالم خلالها أفظع أنواع الهول والجوع والموت والدمار.

◄وقبيل فجر يوم الثلاثاء، فاتح تشرين الأول 1918م، تحرك الأمير محمد سعيد الجزائري حفيد البطل الجزائري الأمير عبد القادر الحسيني، منتهزاً فرصة إنسحاب الأتراك من دمشق وأعلن نفسه رئيساً للحكومة العربيّة باسم الشريف حسين بن علي أمير مكة المكرمة الذي أستصنعته الدولة الأنكليزيّة للثورة على الحكم العُثماني في بلاد العرب، وأرسل الأمير محمد سعيد الجزائري المذكور إلى رؤساء البلديات في داخل سوريا وساحلها برقيات متماثلة تتضمن النص التالي (بناء على إنسحاب الحكومة التركيّة فقد تأسست الحكومة العربيّة الهاشميّة على دعائم الشرف. طمنوا العموم وأعلنوا الحكومة باسم الحكومة العربيّة. أسفكوا الدم ولكن بعدل). وعندما تسلم عمر بك الداعوق رئيس بلدية بيروت آنذاك هذه البرقيّة، وكان الليل قد أنتصف، أتصل فوراً بوالي بيروت إسماعيل حقي بك وأطلعه على ما جاء في البرقيّة وأتفق الطرفان على أن يغادر الوالي ومعاونوه الأتراك مدينة بيروت بعد بيان موجز أعلن فيه إسماعيل حقي بك إنتهاء الحكم العُثماني في هذه البلاد وإعفاء الموظفين المحليين من مسؤولياتهم تجاه الدولة العُثمانيّة. وبعد ساعات قليلة أستقل المسؤولون الأترك العربات التي حملتهم إلى بلادهم تاركين البلد في عهدة رئيس بلديتها عمر بك الداعوق. وبخروج المسؤولين الأتراك من بيروت في ذلك اليوم أسدل الستار على الحكم العُثماني في هذه البلاد، وغابت راية الهلال من سمائنا بعد أن ظلت تخفق فيها أربعمائة سنة وسنتين بالتمام والكمال. فقد دخل العثمانيون لإلى بيروت سنة 1516م في عهد السلطان سليم الأول وغادروها سنة 1918م في عهد السلطان محمد رشاد. وكان أول ولاتهم في هذه المدينة محمد بن قرقماز أوغلو (الجركسي)، وآخرهم إسماعيل حقي بك إن إسماعيل حقي بك غادر الدنيا بعد أن عولج في مستشفى الفقراء المجاني في إسطمبول وكانت وفاته سنة 1936م. هذا وقد ترك إسماعيل حقي بك سيفه في بيروت فجعلته الحكومة اللبنانية مع الآثار التي احتفظت بها في دار الكتب الوطنيّة ثم نقل إلى مبنى المتحف الوطني تلبية لرغبة الأمير موريس شهاب الذي كان يشغل منصب مدير الآثار اللبنانيّة آنذاك.

◄عندما تمّ جلاء الأتراك عن آخرهم من بيروت تسلّم عمر بك الداعوق السلطة الفعليّة في المدينة، وألّف حكومة محليّة من أعضاء المجلس البلدي ومديري المصالح الحكوميّة وأسند مديرية الأمن العام إلى أحمد مختار بك بيهم وكلّف سليم بك الطيّارة والخواجا جان فريج بمعاونة أحمد مختار بك بيهم في حفظ الأمن بالمدينة.

◄في نفس الوقت أذاع عمر بك الداعوق على الموظفين في بيروت بلاغاً موجزاً طلب فيه إليهم الإمتناع عن الإخلال بالأمن أو القيام بالتظاهرات، كما حذرهم من التعرض للأتراك الذين بقوا مع عائلاتهم في المدينة. وفيما يلي نص البلاغ المذكور:

على الأهلين والموظفين ورجال الدرك والشرطة متابعة أشغالهم ووظائفهم بتمام السكينة والهدوء بكل نشاط وإستقامة ويحتم على الأهلين أن لا يتداخلوا فيما لا يعنيهم وأن لا يتعدى بعضهم على بعض.

ممنوع قطعياً حمل السلاح والخروج إلى الطرقات ليلاً بعد الثانية بعد الغروب (حسب التوقيت العربي الزوالي).

إذا حدث تعدٍّ على أحد، فعليه حالاً أن يخبر أقرب مخفر للبوليس.

إذا وقعت أقل مغدورية (ظلم) أو مخالفة أو تماهل بالوظيفة على الأهالي من قِبل أيّ كان، فعليه إعلامي حالاً.

كل من يتجراء على مخالفة هذه الأوامر، يجازى بأشد الجزاء بلا شفقة ولا رحمة وكل من يتجاسر على سلب الأمن العام يحاكم على الفور ويُعدم شنقاً أو رمياً بالرصاص.

المظاهرات والتجمع وإلقاء الخطب ممنوع.

بما أن الأترك وعيالهم وسائر الغرباء هم بمثابة وديعة عندنا، فيجب على كل فرد تمام الإعتناء برفاهيتهم وراحتهم كما تقتضيه الشهامة العربيّة.

بعد جلاء العُثمانيين عن البلاد شعر أهل بيروت بهزة أرضيّة أثارت الخوف والرعب، وقد فسّر الناس هذه الظاهرة الطبيعيّة بأنها تعبير عن غضب العناية الألهيّة لزوال دولة الخلافة الإسلاميّة وإنهزام جيوشها أمام الحلفاء النصارى. ومما زاد في الوساوس والقلق ظهور طيارتين إنكليزيتين في سماء بيروت ضربتا المرفأ بالقنابل فذعر الناس وألتمسوا النجاة بالهرب إلى خارج البلد.

في 4 تشرين الأول عند الساعة الرابعة بعد الظهر أحتشد البيروتيون في ساحة القشلة العسكريّة (السراي الكبير) التي تحولت فيما بعد إلى مقر لرئاسة الحكومة اللبنانيّة للإحتفال برفع العلم العربي على سارية القشلة مكان العلم العُثماني، وقد تولت رفعه يومئذٍ الآنسة فاطمة المحمصاني شقيقة محمد ومحمود المحمصاني اللذين أُعدما سنة 1916م بتهم التآمر على الدولة العُثمانيّة لصالح الحلفاء. وكان هذا العلم يتألف من زاوية حمراء على شكل مثلث تلتصق به ثلاث خطوط متوازية، الأسود فالأخضر فالأبيض وهذه الألوان الأربعة أختارها أعضاء المنتدى العربي الذي أنشأه الشبان العرب في إسطمبول ودام من سنة 1919م حتى سنة 1911م وقد أستوحى الشبان المذكورون هذه الألوان لتكون رمزاً للحركة العربيّة القوميّة من بيت قاله صفي الدين الحلي أحد الشعراء العرب في أواخر العهد العباسي وهذا البيت هو :

خضر مرابعنا حمر مواضينا     بيض صنائعنا سود وقائعنا

◄وكان شريف مكة السلطان حسين بن علي قد أقرّ هذا العلم رمزاً للثورة التي أعلنها بالإتفاق مع الحلفاء على الدولة العُثمانيّة سنة 1916م، ونشرت جريدة (القبلة) التي كانت تنطق بلسان الشريف حسين أن اللون الأسود يرمز إلى راية العقاب التي كان النبي صلى الله عليه وسلّم يرفعها في غزواته ضد كفّار قريش، وأتخذها العباسيون شعاراً لهم في حركتهم ضد الأمويين، وأن اللونين الأبيض والأخضر من شعارات العرب في العهود القديمة، وأن اللون الأحمر هو شعار أشراف مكة المكرمة من أيام أبي نُميّ بركات الزيني الذي كان أميراً على الأراضي المقدّسة في الحجاز عندما أنتزع العُثمانيون الشرق العربي من المماليك في أيام السلطان سليم الأول العُثماني خلال العقد الثاني من القرن السادس عشر للميلاد. والذي جرى في بيروت حصل مثله في جميع أنحاء البلاد السوريّة، داخلاً وساحلاً، بما في ذلك جبل لبنان الذي كان يتولى إدارته يومئذٍ حبيب باشا السعد الذي عيّنه الكونت دي مارتل المفوض السامي الفرنسي في سوريا ولبنان رئيساً للجمهوريّة اللبنانيّة في 30 كانون الثاني 1934م بعد إقالة الرئيس السابق شارل دبّاس. فإن حبيب باشا السعد عندما تلقى برقية دمشق بإعلان الحكم العربي في البلاد، بادر إلى إعلان ولاء جبل لبنان للحكم الجديد في إجتماع عقده مع أعيان اللبنانيين في بعبدا حيث أقسم يمين الطاعة للشريف حسين بن علي ورفع العلم العربي فوق سراي الحكومة هناك.

◄ لم يبق الأمير محمد سعيد الجزائري في رأس حكومة دمشق غير أيام معدودة إنتهت بدخول الشريف فيصل بن الحسين إلى دمشق على رأس الفرقة العربيّة التي شكلها البريطانيون بإشراف أحد جواسيسهم الكولونيل لورانس. فلقد قام لورنس المذكور بإقالة الأمير الجزائري وعيّن مكانه رضا باشا الركابي الذي أرسل إلى بيروت شكري باشا الأيوبي على رأس مائة جندي ليكون حاكماً عاماً على بيروت ولبنان ومعه جميل بك الألشي رئيس أركان حرب له، وكان ذلك يعني أن الحكومة العربيّة الجديدة أعتبرت البلاد السوريّة كلها وحدة سياسيّة كاملة ولبنان جزء منها دون أي أمتياز أو أستثناء.

◄أثار تصرف دمشق سلطات الحلفاء فأرسل هؤلاء أربع بوارج إنكليزيّة وفرنسيّة رابطت في مرفأ بيروت يوم 6 تشرين الأول. وفي 8 منه نزل بحارة هذه البوارج إلى قلب المدينة وكان معهم الكولونيل دي بياباب الفرنسي الذي عيّنه الجنرال اللنبي حاكماً على (أراضي العدو المحتلّة) في بيروت ولبنان وذلك تنفيذاً للإتفاق بين الإنكليز والفرنسيين على إقتسام سورية بموجب المعاهدة التي أبرموها فيما بينهم خلال الحرب بمعزل عن الشريف حسين بن علي وهي المعاهدة التي إشتهرت بإتفاق سايكس ـ بيكو الذي قضى بجعل هذه البلاد منطقتين : شماليّة لفرنسا وجنوبيّة لأنكلترا.

◄أول قرار أتخذه الكولونيل دي بياباب فور نزوله إلى بيروت ومباشرة سلطاته هو الأمر بإنزال العلم العربي عن هذه المدينة وكذلك عن سراي بعبدا وسائر المدن الساحليّة التي أصبحت اليوم جزء من الجمهوريّة اللبنانيّة. والذي حدث في بيروت في ذلك الحين، أن دي بياباب أرسل من قبله ضابطين، أحدهما إنكليزي والآخر فرنسي قابلا شكري باشا الأيوبي في مكتبه بالسراي الكبير وطلبا إليه إنزال العلم العربي ورفع العلم الفرنسي، فما كان من الحاكم العربي إلا أن وضع مسدسه على الطاولة أما هذين الضابطين وخاطبهما قائلاً: (المسدس أمامكم وفي مقدور أحدكما قتلي إذا أراد ولكني لا أنزل العلم العربي) فلما علم الجنرال اللنبي بما حصل، خابر الشريف فيصل كي يتدبر الأمر مع عامله شكري باشا ويسحبه من بيروت لإنهاء هذه الأزمة. بيد أن فيصل لم يستجيب لهذا الطلب، فكلّف اللنبي عندئذٍ بعض الجنود الإنكليز بإنزال العلم والناس نيام، وتمّ ذلك في ليل 10-11 تشرين الأول (دون حوادث وبكل إحترام) كما يقول الجنرال كلايتون في مذكراته. وعندما بلغ فيصل ما فعله الجنود الإنكليز، أستاء جدًّا وأرسل إلى الجنرال اللنبي برقية إحتجاج شديدة اللهجة قال له فيها: (الراية التي كنتم بالأمس أخبرتموني أنها حليفة راية الحكومة البريطانيّة العظمى ... إن هذه الراية رفعت من طرف أمة اختارتها لنفسها، والتحقت بأبناء جلدتها وجنسها، وطلبت منا إرسال حاكم إليها دوم أي مجبر، كما كان يفعل أهل اللاذقيّة وطرابلس. إن أهالي ساحل سوريا أرادوا وفعلاً انضموا إلى أخوانهم العرب، فهل من العدل والإنصاف حرمانهن من أمانيهم ؟ ولكوني عربيًّا، ولأني نائب هنا عن والدي صاحب الراية المهانة من جانب حلفائه، أطلب إعادة شرف تلك الراية بإرجاعها كما وأطلب تحقيق أماني بيروت). غير أن اللنبي أهمل هذه البرقية ولم يعر التفاتاً لإحتجاج فيصل. وهكذا طويت الراية العربيّة وغابت عن سماء بيروت، وهي ما تزال غائبة حتى الآن، وتلاشى الحلم القومي الجميل الذي راود خواطر البيروتيين أجيالاً طويلة وكلفهم أضاحي عزيزة، وخلال أيام معدودة لم تبلغ الأسبوع وئد إستقلال البلاد في المهد، وأصبحت بيروت وجبل ولبنان وسائر المدن السوريّة تحت نير الحكم الفرنسي المباشر الذي أتّخذ بع قليل صفة الإنتداب، وهي الصفة التي إستعملها الإستعمار الغربي لتبرير أغتصابه للأوطان العربيّة المسلوخة عن الإمبراطوريّة العُثمانيّة بحجة أن هذه الأوطان (لا تزال غير قادرة على الوقوف منفردة في معترك الحياة !) كما نصّت المادة 22 من القرار الذي أصدرته عصبة الأمم في مؤتمر السلام الذي عقدته الدول المنتصرة في باريس يوم 8 كانون الثاني 1919م.

◄لاقى العلم العربي الذي رفعه حبيب باشا السعد في بعبدا نفس المصير الذي لاقاه العلم العربي في بيروت، وإنفرد العلم الفرنسي لوحده في سماء الأراضي التي أُعلن فيها الكيان اللبناني فيما بعد.

◄في اليوم التالي لإنزال العلم العربي أصدر الجنرال اللنبي، بوصفه القائد الأعلى للجيوش الحليفة في (أراضي العدو المحتلة) قراراً بتسمية جورج بيكو حاكماً على سوريا ولبنان تحت أسم (المفوض السامي لحكومة الجمهوريّة الفرنسيّة في الشرق) وكان بيكو قنصلاً لفرنسا في بيروت قبيل الحرب العالميّة الأولى وهو الطرف النرنسي في الإتفاقيّة التي كان طرفها الإنكليزي مارك سايكس وأشتهرت باسم (إتفاقيّة سايكس ـ بيكو)