عبد العزيز آل سعود ... من القبيلة إلى الدولة   

وُلد عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل في قصر آل سعود بالرياض في (20 ذي الحجة 1297هـ = 5 ديسمبر 1880م) وحفظ بعض الأجزاء من القرآن الكريم، ودرس جانبًا من أصول الفقه والتوحيد، والتاريخ واللغة، كما تدرب على ركوب الخيل، واستعمال السيف وإطلاق النار. وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره تفتحت عيناه على تصارع أعمامه على الحكم في الوقت الذي يقترب منافسوهم من آل رشيد للاستيلاء على الرياض، وبسط سلطانهم على نجد، فتصدى لهم والده الإمام عبد الرحمن، واشترك عبد العزيز في القتال على حداثة سنه، لكن المعركة انتهت بهزيمة آل سعود، ولم يجد عبد الرحمن بدًا من الرحيل هو وعائلته عن مدينة آبائه، فتنقل بين مضارب القبائل، واجتمعت على العائلة شدة العيش وخشونته مع فقد الملك والسيادة، ثم انتهى بهم المقام عند حاكم الكويت الجديد مبارك الصباح وكان رجلاً سياسيًّا بارعًا.

كانت الكويت في تلك الفترة ميدانًا للتنافس السياسي الدولي بين الدول الكبرى، فكانت فرصة للأمير عبد العزيز ليتعرف على بعض أبعاد السياسة العالمية في المنطقة، فكان يتردد على مجالس أمير الكويت ويخالط العلماء والوجهاء، ومندوبي الدول الأجنبية.

استرداد الملك

ساءت العلاقات بين الشيخ مبارك الصباح وآل رشيد بحائل، وأراد العثمانيون القبض على مبارك وترحيله إلى الآستانة، ومدوا آل رشيد بالمال والسلاح لقتاله؛ لأنه حالف الإنجليز ووقع معهم اتفاقية حماية سنة (1317هـ = 1899م)، فوقع قتال بين آل مبارك وآل رشيد، انتهى بهزيمة الشيخ مبارك في موقعة الصريف في (26 ذي القعدة 1318هـ = 17 مارس 1901م)، ولم يتحقق هدف عبد العزيز في استرداد الرياض فانحاز هو وقلة من المقاتلين في واحة يبرين في الطرف الشمالي من الربع الخالي، فترة من الوقت، ثم اتجه بهذه القوة الصغيرة لدخول الرياض في إطار من السرية الشديدة، وكانت خطته تقوم على اغتيال عجلان أمير الرياض ثم الاستيلاء على القلعة وبعدها على الرياض، وتم له ذلك في (5 شوال 1319هـ = 15 يناير 1902م) واستسلمت الحامية الرشيدية، وكانت تلك بداية ظهور الدولة السعودية الحديثة كوريثة للدولتين الأولى والثانية.

 

نجد.. أولاً

تسلم عبد العزيز مقاليد الحكم والإمامة بعد تنازل والده له، وبدأ في توحيد مناطق نجد تدريجيًا، فبدأ بتوحيد المناطق الواقعة جنوب الرياض بعد انتصاره على آل رشيد في بلدة الدلم القريبة من الخرج، وبلدة السلمية، فدانت له الجهات الجنوبية، ورحل ابن رشيد إلى جهات الشمال، ثم توجه عبد العزيز إلى منطقة الوشم (في نجد الشمالية) واستولى على مقاطعات الوشم وسدير والمحمل وضمها إلى دولته الناشئة وخاض عدة معارك طاحنة ضد آل رشيد وحلفائهم من العثمانيين منها وقعة الفيضية في (18 ذي الحجة 1321هـ = 10 مارس 1904م) والبكيرية ثم الشنانة في (18 رجب 1322هـ = 29 سبتمبر 1904م) التي تعتبر من المعارك الحاسمة لابن سعود، حيث قدم العثمانيون لابن رشيد دعمًا عسكريًا ضخمًا تمثل في ثماني فرق تركية ورغم ذلك انتصر عليهم ابن سعود، وهو ما شكل كارثة للأتراك، حيث استولى على القصيم لكنه تركها واتجه إلى قطر لنجدة شيخها ضد خصومه، فانتهز ابن رشيد الفرصة لاستعادة القصيم إلى سلطانه، فعاد إليها عبد العزيز مسرعًا والتقى الجانبان في معركة فاصلة هي روضة مهنا في (17 صفر 1324هـ = 14 إبريل 1906م) انتهت بمقتل "ابن رشيد" وسيطرة ابن سعود على منطقة القصيم الحيوية بعدما جلت عنها القوات التركية وبذلك انتهى النفوذ العثماني في سائر نجد، وأصبح هو صاحب النفوذ فيها ما عدا منطقة حائل وما يحيط بها إذ ما زال يسيطر عليها آل رشيد.

الاستيلاء على الأحساء

كانت الأحساء منذ دخلها العثمانيون مسرحًا للفتن والاضطرابات، فاستغل عبد العزيز ذلك بالإضافة إلى سخط الأهالي لاستعادة السيطرة السعودية عليها، فدخلتها القوات السعودية في (جمادى الأولى 1331هـ = إبريل 1913م) واستعادت أملاكًا فقدتها قبل اثنين وأربعين عامًا، وتمتعت الأحساء بأهمية خاصة لابن سعود باعتبارها منفذًا هامًا على البحر، كما أنها غنية باللؤلؤ، وطول السواحل، ومكنت الدولة الوليدة من الحصول على مورد مالي منظم بواسطة الرسوم الجمركية، وعززت هذه القوات بما استولت عليه من أسلحة من الأتراك، وجعلت السعوديين يتصلون مباشرة بالسياسة الإنجليزية.

عبد العزيز والحرب العالمية الأولى

كان عبد العزيز هو الحاكم الوحيد الذي لا يخضع لسلطة أجنبية في شبه الجزيرة العربية عندما نشبت الحرب العالمية الأولى، وكان أكبر أمير في العرب يملك رقعة من الأرض، إذ تمتد سيطرته على ثلث مليون كيلو متر مربع ورغم ذلك فقد كان محصورًا بين الضغطين العثماني والإنجليزي خاصة بعد استيلائه على الأحساء والقطيف حيث اقترب من طريق المواصلات الإنجليزية إلى الهند، كما صار مجاورًا للعراق بلاد الدولة العثمانية، ولم يكن في استطاعته مواجهة الحرب على جبهتين في وقت واحد، فبدأ يستغل هذه التناقضات الدولية لتحقيق مصلحته ورغبت بريطانيا في إشراكه في الحرب ضد العثمانيين بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، إلا أنه حرص على البقاء على الحياد قدر استطاعته رغم موقفه المعادي للأتراك، ووقَّع الإنجليز معه اتفاقية دارين في عام (1334هـ = 1915م) التي نصت على أن يقف بجانب بريطانيا، لكنه لم يلزم نفسه بالدخول في العمليات العسكرية، واعترف الإنجليز بسلطانه وملكه على نجد والأحساء، فكانت المعاهدة خطوة تكتيكية منه ليواجه الإنجليز والعثمانيين معًا، بعدما عمل على عدم ربط مصيره بأي من أطراف تلك الحرب الدولية.

ضم عسير وحائل

رأى الإنجليز ضرورة التخلص من آل رشيد؛ لأنهم وقفوا إلى جانب العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، لذلك حرضوا "ابن سعود" على قتالهم وأمدوه بالمساعدة، فتحرك بجيشه نحو منطقة جبال شمر في (1236هـ = 1918م) وانتصر على "ابن رشيد"، ثم تجدد القتال بعد ذلك بين الجانبين، فتقهقر "ابن رشيد" إلى عاصمته حائل، فحاصرتهم الجيوش السعودية ثلاثة أشهر حتى تم التسليم النهائي في (29 صفر 1340هـ = 2 نوفمبر 1921م) وعاملهم "ابن سعود" معاملة كريمة وتصاهرت الأسرتان.

أما مقاطعة عسير التي تقع بين الحجاز واليمن وكانت تخضع لآل عائض، فقد تمكن "ابن سعود" من ضمها إلى دولته الفتيه في (1341هـ = 1923م).

النزاع السعودي-الهاشمي

كان الشريف حسين –حاكم الحجاز- يكن كراهية شديدة لابن سعود، لأنه يقف بعناد أمام مطامحه وآماله كملك للعرب، لذلك كان كثيرًا ما يتعاون مع أعدائه ويمدهم بالمال والسلاح لقتاله، فساند آل رشيد وآل عائض، لذا كانت العلاقات بينهما متوترة للغاية، ولم تفلح وساطات الإنجليز في تخفيف حدة العداء بينهما، ولم يكن يفصل بين نجد والحجاز سوى جبل حضن الذي تقع فيه قرية الخرمة وتربة التي اختلف عليهما العاهلان، فاحتلها الشريف حسين بدعم من وزير الخارجية البريطاني كيرزون، أما حكومة الهند التابعة للإنجليز فكانت تؤيد "ابن سعود"، ومالت الأجهزة البريطانية إلى التحزب لآرائها، غير أن العلاقة بين الشريف حسين والإنجليز تصدعت مع إعلان الحسين نفسه خليفة للمسلمين دون التشاور مع الإنجليز الذين كانوا يريدون القضاء على فكرة الخلافة إلى الأبد، فمالت الكفة لصالح ابن سعود ونجحت القوات السعودية في الاستيلاء على تربة بعد الانتصار على الهاشميين وبذلك أصبح الطريق مفتوحًا إلى باقي المدن الحجازية، فاستولى السعوديون على الطائف في (صفر 1343هـ = سبتمبر 1924م)، ثم واصلوا سيرهم وانتصروا على الهامشيين في وقعة "الهدا"، فأصبح الطريق مفتوحًا إلى مكة، فدخلوها محرمين بالعمرة منكسي الأسلحة في (17 ربيع أول 1343هـ = 16 أكتوبر 1924م) ثم واصلت القوات السعودية سيرها فدخلت ميناء رابغ وقنفذة وينبع، واستسلمت حامية المدينة المنورة.

وبدأ الخناق يضيق على الشريف حسين وكانت حماسة الإخوان (قوات ابن سعود) سببًا هامًا في التفوق على الهاشميين رغم كثرة أسلحتهم وحداثتها، يضاف إلى ذلك حياد بريطانيا التي لم تقدم أية مساعدة إلى حليفها السابق الشريف حسين، فعندما رأت انهياره السريع تركته ينهار لتسدل الستار على شخصه وملكه، وكان أقصى ما قدمته له هو أن توسطت لدى ابن سعود لعقد صلح، ينص على استسلام الشريف ومغادرته البلاد، وبذلك انتهى حكم الأشراف في الحجاز، ونودي بعبد العزيز ملكًا على نجد والحجاز في (15 جمادى الثانية 1345هـ = 10 يناير 1926م) وأصبح لقبه الجديد "ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها" واعترف به السوفييت وبريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا ثم عقد معاهدة جدة في (1346هـ = 1927م) وألغى معاهدة دارين وتحقق الاستقلال الكامل لبلاده ولقبه الإنجليز بـ"نابليون الجزيرة العربية".

توطين البدو

قام عبد العزيز بأول مشروع من نوعه لتوطين البدو في العالم العربي، إذ كان يرى أن الهجر (القرى) وسيلة هامة للقضاء على النزعة القبلية، لذلك عمد إلى تغيير الوظيفة الاقتصادية للبدو، فجعلهم يعتمدون على الزراعة بدلاً من الرعي، حتى يضع حدًا للبداوة والفوضوية التي كانت تجنح إليها القبائل، وكان يرى أن مستقبل الجزيرة العربية يتوقف على نجاح هذا المشروع، لذلك أحاطه بالصمت خوفًا عليه من الإنجليز والأشراف في الحجاز الذين كانوا ينظرون إليه بعين الشك والريبة.

وكان المشروع في حقيقته ذا أبعاد سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية حيث كانت تلك الهجر وسيلة لتعليم البدو أصول دينهم وغرس الحماسة الدينية في نفوسهم وتدريبهم على الفروسية وفنون القتال وتوجيه البدوي لطاعة الدولة والإمام أولاً قبل القبيلة، ونجح الملك في توطين أعداد كبيرة من البدو مستخدمًا في ذلك أساليب سياسية مختلفة تفصح عن عقل واعٍ، وإدراك كامل بالأحداث التي تدور حوله، ومن ذلك استخدامه للعطايا والهدايا والأموال لبعض شيوخ القبائل حتى لا يعارضوا مشروعه، كما أنه تمتع بمرونة كبيرة في تطبيقه فسمح لكل قبيلة كبيرة أن يبقى قسم من أفرادها في الصحراء يعملون في الرعي، أما الباقون فيرسلون إلى الهجر للقيام بأعمال الزراعة، وواجه بحسم بعض القبائل التي حاربت مشروعه وثارت ضده، وكان يقول: "إني أريد تطوير نزعة العرب الفطرية إلى الحرب، حتى يشعروا أنهم أعضاء جماعة واحدة". وكفل هذا المشروع له تنظيم قوة عسكرية من القبائل المختلفة ذات تدريب عال وحماسة شديدة، من الممكن أن تحشد خلفه (76) ألف مقاتل في حالة النفير العام، ليصبح أكبر قوة عسكرية في الجزيرة العربية.

 

إعلان المملكة العربية السعودية

عندما استولى عبد العزيز آل سعود على الحجاز وضمها إلى دولته، وضع التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية ونشرها في الجريدة الرسمية في (1345هـ = 1926م)، ثم أنشأ مجلس الشورى بعد ذلك بعدة أشهر وأسند رئاسته إلى ابنه فيصل، ومع اتساع الدولة، رأى توحيد المملكة في اسمها بدلاً من لقب ملك الحجاز ونجد وملحقاتها واستقر الرأي على اختيار اسم المملكة العربية السعودية وأصدر مرسومًا بذلك في (17 جمادى الأولى 1351هـ = 18 سبتمبر 1932م)، واشتركت المملكة في هيئة الأمم المتحدة كعضو مؤسس، وكذلك في الجامعة العربية التي قال فيها: "إنها لسان العرب ويجب على العرب أن يلتفوا حولها".

وقام بعدة إصلاحات هامة داخل المملكة فسعى للقضاء على الخلافات بين القبائل، واعتنى بشؤون الحجيج وتوسعة الحرمين الشريفين، وأنشأ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجه عناية خاصة للتعليم ففتح المدارس النظامية والمعاهد واستقدم لها المدرسين والأساتذة من الخارج، وأرسل البعثات التعليمية للخارج، وطبع كثيرًا من الكتب الثقافية والدينية والعلمية، وأعفى جميع الكتب اللازمة للتعليم من الرسوم، واهتم بالشؤون الصحية، وسعى للاستفادة من وسائل المدينة الحديثة –رغم معارضة بعض المتشددين- فوضع نواة للطيران، ومد خطوط التليفون والراديو، وافتتحت في عهده محطة الإذاعة السعودية، واستخرج النفط في عهده بكميات كبيرة، وبدأ التنافس الأمريكي-البريطاني لتوطيد العلاقات النفطية مع المملكة والذي حسم لصالح الأمريكيين والذي بلغ أوجه بإنشاء شركة البترول العربية-الأمريكية "أرامكو"، ومع تزايد الثروة النقدية أنشأ مؤسسة النقد العربي السعودية وضربت العملة السعودية (الريال).

وفاته

حكم الملك عبد العزيز آل سعود –رحمه الله- قرابة نصف القرن، توحدت خلالها الجزيرة العربية وانتشر الأمن في ربوعها، وانتقلت من حالة الفوضوية إلى النظام والمجتمع المترابط، وكان لهذه القوة والطاقة البشرية الكبيرة التي تفتحت عيناها على الصراعات، وخاضت عشرات الحروب والمعارك وخاضت غمار السياسة ودهاليزها هذا الزمن الطويل بعزم قوي أن تمر عليها عاديات الزمن فأصيب الملك بتصلب الشرايين وعاودته بعض نوبات المرض، فانتقل إلى الطائف، وهناك كان القدر المحتوم، فتوفي صباح يوم الإثنين (2 ربيع الأول 1374هـ = 9 نوفمبر 1953م) ونقل جثمانه إلى الرياض حيث دفن بمقبرة آل سعود.

المراجع:

q       عبد الفتاح حسن أبو علية – الإصلاح الاجتماعي في عهد الملك عبد العزيز – دار المريخ – الرياض – 1986.

q       مصطفى النحاس جبر – آل سعود في الجزيرة العربية من القبيلة إلى الدولة – دار الكتاب الجامعي – القاهرة – الطبعة الأولى – 1406هـ = 1986.

q       عبد العزيز عبد الغني إبراهيم – أمراء وغزاة "قصة الحدود والسيادة الإقليمية في الخليج" – دار الساقي – بيروت – الطبعة الثانية – 1991.

q       سيد محمد إبراهيم – تاريخ المملكة العربية السعودية – مكتبة الرياض الحديثة – 1980.

q       الموسوعة العربية العالمية – مؤسسة الموسوعة للنشر والتوزيع – الرياض – الطبعة الثانية – 1419هـ = 1999.