الحكواتي

الحكواتي مهنة سادت ردحاً من الزمن في مصر وبلاد الشام وسواهما يوم ان كانت تلك البلاد لا تزال بكراً لم تنل حظها بعد من وسائل التسلية والمتعة، في اكثر البلاد الناطقة بالعربية لا تعرف شيئاً عن هذا الحاكي المرئي الذي سماه الغرب التلفزيون، وهي كلمة لو حققنا لوجدنا أنها مركبة من جزءين معناهما (أخبار ورؤية) أو كما هو معرّب {الحاكي المرئي}.

قبل هذا الصندوق الذي بدأ أسود وابيض ثم تلّون وتلّون حتى لم نعد نعرف له لونا ولا طعما ولا رائحة خاصة في بلادنا العربية، قبل هذا الصندوق العجيب ما كان لأهل الديار العربية من مسلٍ في ليالي شتائهم الباردة وليالي صيفهم المقمرة غير الحكواتي وهو اسم اصطلح عليه أهل الشام ومصر وسواهم وهو راوية للسّير والحكايات الشعبية يجلس في الشام ومصر على كرسي في مقاهيها الشعبية في مدنها أو في مجالس وجهاء القوم في قراها ويسرد سيراً تمازجت فيها الحقيقة بالخيال وضاعت فيها معالم التاريخ وسمات المدن وأسماء الأبطال الحقيقية وظهرت أسماء وأماكن بلا ملامح حقيقية محددة وبلا هويات واضحة، والأماكن والتواريخ والأسماء المتسلسلة في النسب غير معروفة ولكن المعروف وحده هو البطولات والأبطال بأسمائهم الأولى وألقابهم المثيرة :

  • أبو زيد الهلالي

  • سلامة في السيرة الهلالية

  • عنترة أبو الفوارس في سيرة عبلة وعنتر

  • الظاهر بيبرس

  • الأميرة ذات الهمة

      وسوى ذلك الكثير.

ولعل ذلك مما جذب العوام من الناس الى تلك السير دون كتب التاريخ المفصّلة التي ربما حملت في ثناياها قصصاً أكثر بطولة من حكايات الحكواتيّة، لكن كتب التاريخ محشوة بأساليب المؤرخين بالأرقام والأماكن والأسماء وسلاسل النسب والمقاربات والترجيحات والاختلافات في الروايات والقصص وكل ذلك منفر لا يحبه العوام الذين لا يهمهم الدرس والبحث التاريخي بقدر ما تهمهم الإثارة والمتعة والتحليق في الخيال دون الواقع، فهم ليسوا أصحاب تخصّص مهني في التاريخ يمحصون ويركزون ويرجحون ويحققون وينقدون.

وهنا الفرق فإن دارس كتب التاريخ باحث متعلم معلّم والمصغي الى الحكواتي عامي طالب تسلية مستسلم للملقى عليه بلا تحقيق، فكل ما يقوله الحكواتي عنده حقيقة لا تقبل النقاش بل إن الفارق العظيم أن عالم التاريخ وباحثه موضوعي تجاه الأحداث والأبطال ومستمع الحكاية صاحب هوى وتحيز لأبطال السيرة والحكاية لا يرضى فيهم قدحا ولا ذما ولا ضعفا.

وفي احدى الليالي فإن قارئ القصة أو راويها ختم فصلاً من القصة يقول فيه أن عنترة وقع أسيراً وإننا هاهنا في هذه الليلة نتركه مقيداً بالأغلال والأصفاد يحيط به أعداؤه بالحراب الزرق والسيوف البيض المهندة، ويقول الراوي نكمل يا جماعة القصة في ليلة الغد.

وعندها يثور السامعون من بسطاء المجلس ويصيحون بالراوي (باطل على عنترة أن يقع أسيراً) وباطل كلمة يقولها البيارتة إستنكاراً واستهجاناً لما لا يصدقونه ولا يرضونه.

المهم ان السامعين لقصة عنترة في ذلك المجلس البسيط في هذه البلاد التي كانت بسيطة بريئة خالية من كل زيف أصروا على الراوي وأجبروه بالقوة على إكمال القصة وإنهاء الفصل فيها بإطلاق سراح عنترة من سجنه وانتصاره على أعدائه لأنه لا يجوز لبطل كعنترة أن يهزم أبداً.

حتى اليوم لازال الحكواتي يمارس دوره في الريف البريطاني كمصدر رئيسي في نشر الأخبار، الوسيلة الوحيدة التي كان يتلقى فيها المواطن أخبار العالم منذ أكثر من مئة عام، ورغم التطور المعلوماتي والثورات الاتصالية ووجود الجوال والانترنت لازال هذا التقليد متبعاً في بريطانيا كنوع من تراث يجب أن يحترم.