المثقف اللعين

معرفتي به قديمة ، كان أكبر مني سناً وكنت معجباً به جداً. أذكر أنني كنت أتمنى دائماً أن أكبر بسرعة لأصبح مثله.

كبرت وتحققت أحلامي بسرعة أكبر. أصبحت أقرأ مجلدات ماركس ولينين وستالين. كنت أوفر كل مليم أحصل عليه من والدتي المسكينة لأنفق ما جمعته خلال شهور على شراء الكتب الثقافية من "دار الفجر" التي كانت تبيعها بتنزيلات هائلة مرة واحدة في السنة.

أذكر أنني اشتريت المجموعة الكاملة لمؤلفات لينين بثلاث ليرات ونصف الليرة. المجموعة الكاملة لمؤلفات ماركس بثلاث ليرات وخمسة سبعين قرشاً. كانت فرحتي لا تضاهيها فرحة وأنا أضع على رفوف مكتبتي الفكر الماركسي والعبقرية السوفييتية كلها تقريباً بكلفة أقل من ثمان ليرات سورية.

ما كنت أصل إلى بيتي كل يوم حتى أهرع إلى كتبي تلك أنهل منها ما استطعت تخزينه في عقلي الصغير وجسمي النحيف ومعدتي الخاوية. كان كل همي أن اصبح ثورياً، مدرّساً لمادة الثقافة القومية والاشتراكية. كنت كل مرة ألتقي فيها بالمثقف اللعين، أُخرج له ما عندي من الكتب التي اشتريتها وتلك التي تابعت على شرائها حتى ملأت خزائني ورفوف مكتبتي وتبعثرت تحت طاولتي ولحافي ومخدّتي..

كنت كل مرة أحاول أن أظهر فيها للمثقف اللعين مبلغ ما توصلت إليه في مطالعاتي آملاً أن اسمع منه كلمة ثناء أو تشجيع، أُفاجأ به يخيّب أملي بنظراته المستخفة المتعجرفة وقوله: هذا لا يكفي.. يجب أن تقرأ هذا قبل ذلك وذاك بعد ذلك..

جمعت ذات مرة كل طاقاتي وأقسمت أنني لن اترك له مجالاً للحطّ بي. حصلتُ على شهادة البكالوريا (الثانوية) ودخلت الجامعة وتخرّجت منها لأُعيّن مدرّساً لمادة الثقافة القومية والاشتراكية.

تخطّيتُ المثقف اللعين بأشواط في التهجم على الإمبريالية الأمريكية وربيبتها الصهيونية وعملائها من الأنظمة الرجعية العربية. لا بل أوجدتُ اسماً جديداً لأمريكا لم يسبقني هو إليه ـ "الويلات المتحدة الأمريكية" ـ وأطلقت هذا الاسم عليها بوجوده، فلم تصدر عنه كلمة إعجاب أو ثناء واحدة، إنما اقترب يسألني: هل قرأت مؤلفات هيغل؟.. وكيف تقبل أن تكون مدرّساً لمادة الاشتراكية وأنت لا تعرف شيئاً عن هيغل؟!..

لعنته ولعنت ماركس ولينين واستالين وهيغل.. وعدت إلى لعنه ولعن هؤلاء، وأنا أنظر إلى عيون زوجتي وأطفالي الجائعين، فمؤلفات ونظريات هؤلاء وتلميذهم المثقف اللعين، لم تقدّم لهم شيئاً إلا الجوع والعذاب.

لقد قضيت معظم أيام حياتي بالدراسة والبحث في مؤلفات هؤلاء المفكرين والاستماع إلى محاضرات المثقف اللعين.

وانتهت بي أبحاثي في الفكر الماركسي ـ بعد أن زادت في جوعي وعذابي ـ بالوقوف على باب سفارة هذه الدولة التي أطلقت عليها اسم "الويلات الأمريكية المتحدة"، لأحصل على تأشيرة دخول إليها، ثم ليستقر المطاف بي وبأسرتي أخيراً على أرضها.

وكانت المفاجأة!.. لقد رأيت صاحبي المثقّف اللعين، وقد انتهى به المطاف هو الآخر أيضاً على أرضها، جاء يتنعم بخيراتها، ويعيش من عطائها. ولكن ما يثير الشفقة على الرجل، كونه لا زال يرى في نظريات ماركس ولينين الحل الوحيد لمشاكل هذا العالم! .