ابتســامة أبي صبحي

ما من أحدٍ ينظر إلى وجنتي أبي صبحي المتوردتين إلاَّ وينقـر على الخشب أو يردد قائلاً: ما شاء الله.. ما شاء الله!.. فهو وقد قارب الستين من عمره لا زال يتمتع بصحةٍ يحسده عليها كثيرون وخاصة زملاؤه في العمل.

ظهـره منتصبٌ، يداه ثابتتان، مشيته سريعة. إذا أراد الانتقال من مكانٍ إلى آخر فإنه يقفز قفزاً كغزالٍ أو أرنب. صوته مرتفع، نظره ممتاز وهو يتباهى دائماً بضغطه الدموي المنخفض ويشبّه قلبه بقلب ابن سبع سنوات ويقول عنه بأنه مثل الساعة، أي أنه منتظم كانتظام دقاتها!

هو أول من يصل إلى عمله في مبنى وزارة العدل حيث يشغل منصب رئيس ديوان محكمة التمييز، وهو عادة آخر المغادرين.

يقول أبو صبحي لمن يسأله عن سر شبابه الدائم وصحته الجيدة أنَّ هنــاك أموراً في الحياة لا يتعاطاها، يسميها زملاؤه "وصايا أبي صبحي الخمسة". ويقول أن كلاًّ من هذه الأمور قد ساهم بشكلٍ أو بآخر في جعل صحته "مثل الحديد". فهو لا يدخِّـنُ حفاظاً على رئتيه وقلبه، ولا يشرب الكحول حفاظاً على معدته وكبده. لا يقرب من نساء العالم غير زوجته حفاظاً على راحة فكره وسعادته العائلية. لا يتعاطى السياسة لا من قريب ولا من بعيد لأنها لا تطعِـمُ خبزاً ولأنها أيضاً إذا صعدت ببعض الناس إلى فوق فإنها قد تنزل بهم فيما بعد إلى تحت حيث تسوء صحتهم من الهم والحزن. أما وصيته الخامسة فهي أنه لا يسمح لقرش الحرام أن يدخـل جيبه سـواء كان بشكلِ "برطيلٍ نقدي" أم بشكل علبة شوكولا أو هديّة للبيت، وبذلك يحافظ على راحة ضميره وعلى مبادئه التي لا يبيعها - حسب قوله - لا بفضة ولا بذهب.

صحيح أن راتب أبي صبحي لا يكفي حتى لمتطلبات الحيـاة الضرورية ولكنـه قانعٌ كل القنوع بما عنده، وما عند أبي صبحي هو شيءٌ يحسده كل الناس عليه.. راحة الفكر والصحة الحديـد!..

****************************

شـيءٌ واحد ينقص أبا صبحي، وهو الابتسامة!

هل قلنـا "الابتسامة"؟

نعـم، الابتسـامة!

ولكن، لمَ لا يبتسمُ رجلٌ يملك ما يملكه أبو صبحي من راحة فكـرٍ وصحةٍ تلفت الأنظار وتزعج الخشب من حوله لكثـرة ما ينقر الناس عليه؟

الحقيقـة أن عيون أبي صبحي هي التي تبتسم. جبينه يبتسم، ذقنه تبتسم، ووجنتاه المتورِّدتان تبتسمان.. إنما فقط، شـفتاه لا تبتسمان! وكما أن وراء صحته سراً، فكذلك هناك وراء شفتيه سرٌّ آخـر.

سِـرُّ أبي صبحي أنَّ أسنانه متآكلة مصفرَّة وغير مستقيمة، وكأنه سبحانه تعالى أعطاه كل الصحة إنما لم يشأ أن يتمَّ نعمته عليه بأسنانٍ سليمة. لذلك كان أبو صبحي يتحاشى الابتسام بشفتيه لكيلا تنقلب نظرة الناس إلى رثاء. إضافةً إلى ذلك فإنه هو أيضاً قد ساهم في الإساءة إلى أسنانه بسبب شغفه بالسكاكر التي لم تكن جيوب سترته لتخلو منها أبداً.. ولكنه مع شغفه هذا، فإنه لا يقبل أن يأخذ قطعة سكر من أحد المراجعين، وإذا ما اضطرَّ لأخذها حياءً أو تفادياً لما قد يفسّره البعض بأنه كبرياء أو مبالغة في التصلب، فإنه يأخذها من مُراجعٍ ليعطيها لمراجعٍ آخر أو لأحد زملائه الموظفين في الديوان.

****************************

ليس هناك أمرٌ يرعب أبا صبحي ويقشعرُّ منه بدنه أكثر من فكرة قلع الأسنان والاستعاضة عنها بطقم من الأسنان الصناعية، لكنّ أصدقاءه وزملاءه في العمل المقرَّبين منه يعرفون أنَّ مشكلته ليست مستعصية الحل. كل ما في الأمر أنها تكلِّفُ الكثير وليس هناك في المدينة إلاَّ طبيب أسنان واحد متخرِّجٍ من بلاد العم سـام، يعرف لها علاجاً. وعندما نقول الكثير فإننا نعني الكثير بالنسبة إلى دخل أبي صبحي، ولذلك فهو يجيب دائماً على الذين يلحون عليه بزيارة ذلك الطبيب بقوله: "أرجوكم يا جماعة، لم يـبقَ من العمر بمقدارِ ما مضى منه!.."

****************************

ذات يومٍ خيـَّم على الديوان صمتٌ مشوبٌ بالقلق، وتوقف جميع الموظفين عن العمل وهم ينصتون إلى أبي صبحي، الإنسان المؤدب الهادئ ذي النفس الشفافة اللطيفـة، ينفجـر غاضباً وهو يرمي بإحدى المعاملات في وجه أحد المراجعين.

إنهـا ليست المرة الأولى التي يعرض فيها أحدهم البرطيل على أبي صبحي، ولكن ردَّة فعله هذه المرَّة كانت مختلفة كل الاختلاف عن سابقاتها. أبو صبحي لا يغضب كثيراً حين يأتي العرض من مواطنٍ عادي، لأنه يعرف أن البرطيل أمرٌ سائد بين الناس، وأنَّ المواطن المسكين الذي لا حول له ولا قوَّة غالباً ما يجد نفسه ملزماً لعرض البرطيل لتيسير أموره بينما يتمنى في الحقيقة لو يصرف المبلغ على عائلته وبيته. كل ما يفعله أبو صبحي في موقفٍ كهذا هو أنه يقطِّب جبينه ويوبِّخ المواطن ثم يساعده في تسيير المعاملة طالباً منه أن لا يكرر العرض مرة أخرى.

اليوم، كان الأمر مختلفاً. لم يكن العرض للتعجيل بمعاملة وتجاوز الروتين الذي تشتهر به دوائر الدولة، إنما كان عرضاً للغش والتحايل، وكذلك لأنَّ عارض البرطيل كان من جماعة "المحسوبين على الحكم". لقد أراد من أبي صبحي، مقابل ثلاثة آلاف ليرة، أن يحصل على توقيع القاضي على إحدى الوثائق وذلك عن طريق تمريرها بين المعاملات مستغلاًّ ثقة القاضي به وعلاقتـه الممتازة معه.

لم يستطع رئيس الديوان الشريف والفخور بمبادئه أن يكتـمَ غضبه. ثارت ثائرته ورمى بالأوراق في وجه الرجل ونهض من وراء مكتبه مشيراً بسـبَّابته إلى الباب وهو يقول بصوتٍ مرتفع، "اذهب إلى الجحيم أيها الشيطان.. ابحث لك عن واحدٍ غيري ولا بدَّ أنَّك واجده فالبلد تزخر بأمثالك ولكنها لم تـَخْلُ بَعْـدُ من الشرفاء."

"طوِّل بالك أبو صبحي!" قالها له أحد موظفي الديوان بعد أن غادر الرجل القاعة. "ماذا يمكنك أن تفعـل لوحدك يا صاحبي في مجتمع فاسد يعيش كله على الغش والبرطيل؟"

وينتفض أبو صبحي قائلاً، "لا .. ليس كله!.. أنا واحد من كثيرين لا يقبلون البرطيل ولذلك فإننا نُحْسـَدُ على صحتنا وراحة فكرنا."

وهنا تحضر النكتة أحد موظفي الديوان فيقول له مازحاً، "ثلاثة آلاف ليرة يا أبو صبحي.. أصلح الله عقلك.. ثلاثة آلاف ليـرة يمكنك أن تذهب بها إلى بلاد الهونولولو لتصلِّح أسنانك!"

وتفترُّ شفتا أبي صبحي عن ابتسامةٍ نادرة ما تلبث أن تغيب عندما ينحني برأسه إلى سلة المهملات ليبصق فيها ويقول: " تْـفـِه.. على هكذا مجتمع وعلى هكذا حكومة..!"

"تـفـه على هكذا مجتمع" ليست بالعبارة التي يحاسب عليها القانون أو تزعج المسؤولين في الحكومة. بالعكس تماماً فالحكم يؤيدها ويباركها لا بل يمارسها أيضاً كل يوم ولكنه طبعاً لا يقولها علناً من فوق المنابر!.. أما "تـفـه على هكذا حكومة"، فهذا أمرٌ لا يجوز أن يُقال.. على الأقل علناً!

إذا لم يكن أحد من الناس قد سمع رئيس الجمهورية أو أحد وزرائه يقول علناً "تفه على الشعب أو على المجتمع أو بدي فتفتك" فإنه بالتالي يتوجب على الناس أن يراعوا الحدود فلا يقولوا علناً "تـفـه على الحكومة".

هل يمكن لأحد أن يقول بأن هذا المنطق غير سليم؟ وكيف لا يكون منطقاً سليماً في بلاد تسمح للنقيب أن يقفز بين ليلة وضحاها إلى رتبة لواء أو فريق، أو لرئيس الدولة أن يقفز إلى رتبة إله؟

في بلادٍ كهذه، يحكمها هذا المنطق، لا يحتاج المسؤولون إلى البحث عن سبب لإلقاء القبض على مواطنٍ ما والزج به في السجن. لذلك كان استدعاء أبي صبحي إلى دائرة المخابرات للتحقيق معه أمراً غير مفاجئ لزملائه الموظفين أو لمعارفه وأقربائه.

****************************

تغيّرت ابتسامة أبي صبحي وأصبحت أعرض وأحلى مما كانت عليه أيام زمـان. لم يكن ذلك لأنه استقال أو أُقيـلَ من الوظيفـة وارتاح من عناء العمل، بل لأنه اضطرَّ أخيراً لتركيب طقم الأسنان بعد أن سقطت أسنانه نتيجة لكمة أخوية تلقاها خلال حلوله ضيفاً على دائرة الاستخبارات العامة.

ويسأله سائلٌ عن سبب ضحكته الجديدة فيجيب، " لم أضحك حتَّى ابتُـليت! وقد صدق من قال أنَّ شـرَّ البليـَّـةٍ ما يضحك!"