أولاً: الهجرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:

لقد حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث هجرات مشهورة:

1-  الهجرة الأولى إلى الحبشة:

كانت هذه الهجرة في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، حيث خرج أحد عشر رجلاً وأربع نسوة مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار فنزلوا بخير دار إلى خير جار أمنوا على دينهم ولم يخشوا ظلما.

2-  الهجرة الثانية إلى الحبشة:

بلغ المسلمين وهم بأرض الحبشة أن أهل مكة أسلموا، فرجع ناس منهم عثمان بن مظعون إلى مكة، فلم يجدوا ما أخبروا به صحيحاً، فرجعوا وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وكانوا أكثر من ثمانين رجلاً، وهي الهجرة الثانية.

ثانياً: أحداث هجرة النبي صلى الله عليه وسلم:

كان اختيار المدينة مهاجراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله تعالى،  قال صلى الله عليه وسلم : ((رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل،  فذهب وَهَلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي يثرب)) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين)).

قال ابن المنير: "كأن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِي دار الهجرة بصفة تجمع المدينة وغيرها، ثم أُري الصفة المختصة بالمدينة فتعينت".

وأول من هاجر إلى المدينة كما تذكر كتب السير هو أبو سلمة بن عبد الأسد، وكان ذلك قبل بيعة العقبة بسنة، وكذلك كان مصعب بن عمير وابن أم مكتوم من أوائل المهاجرين حيث كانا يقرئان الناس القرآن، ثم تتابع المهاجرون فقدم المدينة بلال بن رباح وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر ثم عمر بن الخطاب في عشرين من الصحابة.

أراد أبو بكر أن يهاجر إلى المدينة وتجهز لذلك فقال له النبي : ((على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي)).وكان ذلك قبل الهجرة بأربعة شهر.

ولم يهاجر أبو بكر رضي الله عنه رجاء أن يكون في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم إن أذن له في الهجرة.

أجمعت قريش على قتل النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر القرآن: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30].

أذن للنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة فجاء إلى الصديق في وقت الظهيرة، تقول عائشة:

فلما أذن له في الخروج إلى المدينة لم يرعنا إلا وقد أتانا ظهراً . . قال : ((أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج؟!))، قال: الصحبةَ يا رسول الله؟ قال: ((الصحبة)) .

وكان الصديق قد أعد ناقتين فعرض إحداهما على رسول الله يركبها فقبل وقال: ((بالثمن)) .

وبدأ آل أبي بكر بالتجهيز السريع للرحلة، قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب .

وقد كان خروجهم من مكة ليلاً يقول الصديق: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة.

قال ابن حجر: "أسريت: في سير الليل.

وكان ذلك في يوم الاثنين أو الخميس، قال الحاكم: "تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين".

قال ابن حجر: "خروجه من مكة كان يوم الخميس، وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين، فكأنه اعتبر بداية رحلة الهجرة.

وأوى رسول الله إلى بئر ميمون (في طريق منى) حيث واعد الصديق، ثم دخلا الغار فيما بقي علي بن أبي طالب في فراش النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعمي على قريش خروج النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وقد كانت قريش ترميه بالحجارة، وهي تظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم,

كَمَنَ صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة، فيسمع أخبار قريش، فإذا جاء الظلام انطلق إلى الغار يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار قريش، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، فيما كان عامر بن فهيرة يرعى بغنمه عليهما فيشربان من ألبانها، ويعود عند الغلس إلى رعيان قريش.

وصلت قريش باقتفاء الأثر إلى غار ثور حتى وقفوا على باب الغار يقول أبو بكر: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا قال : ((ما ظنك باثنين  ـ يا أبا بكر ـ الله ثالثهما)).

وبعد المكث في الغار ثلاثة أيام انطلق النبي وصاحبه صباحاً بصحبة الدليل الليثي وعامر بن فهيرة وقد خلا الطريق لا يمر فيه أحد .

وقصد رسول الله وصاحبه صخرة طويلة وإذا براع لرجل من أهل مكة، فحلب لهما ورسول الله نائم،  فبرده الصديق له، فاستيقظ رسول الله فشرب ثم شرب الصديق .

ومر رسول الله وصاحبه بخيمة أم معبد بقُديد، وطلبا منها القِرى، فاعتذرت لهم لعدم وجود طعام عندها، وعندها شاة هزيلة لا تدر لبناً، فأخذ رسول الله الشاة فمسح ضرعها بيده، ودعا الله وحلب في إناء،  حتى علت الرغوة،  وشرب منه الجميع .

وانطلق الركب من طريق الساحل، وشعرت قريش بخيبتها فجعلت لمن قتل رسول الله وصاحبه ديتين فلما جازا قديداً أدركهما سراقة بن مالك المدلجي يقول : فركبت فرسي .. تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت،  وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عُثَان ساطع في السماء مثل الدخان . . فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت وجئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال: ((أخف عنا))،  فسألته أن يكتب لي كتاب أمن،  فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم .

وأما الطريق الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته فقد ذكره ابن إسحاق والحاكم فرويا عن عائشة رضي الله عنها قالت: ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم  من الغار مهاجراً ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة مردفه أبو بكر، وخلفه عبد الله بن أريقط الليثي فسلك بهما أسفل من مكة، ثم مضى بهما حتى هبط بهما على الساحل أسفل من عسفان، ثم استجاز بهما على أسفل أمج، ثم عارض الطريق بعد أن أجاز قديداً، ثم سلك  بهما الحجاز، ثم أجاز بهما ثنية المرار، ثم سلك  بهما الحفياء، ثم أجاز بهما مدلجة ثقف ثم استبطن بهما مدلجة صحاح ثم سلك  بهما مذحج ثم ببطن مذحج من ذي الغصن ثم ببطن ذي كشد ثم أخذ الجباجب ثم سلك  ذي سلم من بطن أعلى مدلجة ثم أخذ القاحة ثم هبط العرج  ثم سلك  ثنية الغائر عن يمين ركوبه ثم هبط بطن ريم فقدم قباء على بني عمرو بن عوف.

وفي الطريق كان الصديق إذا سئل عن النبي قال: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق،  وإنما يعني طريق الخير.

وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء، وكادت الشمس تعتدل .

وقد كان الصحابة يخرجون كل يوم ينتظرون مقدم النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا ارتفعت الشمس عادوا إلى بيوتهم.

ولما أتى النبي قباء كانت الشمس قد اشتدت فدخلوا بيوتهم، وقدم رسول الله فبصر به يهودي فصرخ : يا معشر العرب،  هذا جدكم الذي تنتظرون. فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول،  فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة.

وبلغ عدد مستقبليه صلى الله عليه وسلم حين جاء المدينة-كما جاء في بعض الروايات- خمسمائة من الأنصار،  ودخل والرجال والنساء فوق البيوت، والغلمان في الطرقات يقولون : يا محمد يا رسول الله يقول البراء: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله .

يقول أنس: فشهدته يوم دخل المدينة، فما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه .

ومشى موكب النبي صلى الله عليه وسلم في طرقات المدينة، وتطلع زعماء الأنصار إلى استضافة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكلما مر بأحدهم دعوه للنزول عندهم، فكان يقول لهم:

((دعوا الناقة فإنها مأمورة))،  فبركت على باب أبي أيوب .

وكانت داره طابقين، يقول أبو أيوب : لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العلو،  فقلت له : يا نبي الله – بأبي أنت وأمي – إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك،  وتكون تحتي،  فاظهر أنت،  فكن في العلو،  وننزل نحن فنكون في السفل. فقال: ((يا أبا أيوب، إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت))، قال: فلقد انكسر حب لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، وما لنا لحاف غيرها، ننشف بها الماء تخوفاً أن يقطر على رسول الله منه شيء يؤذيه .

وفي رواية ضعيفة لابن سعد أن مقام النبي في دار أبي أيوب استمر سبعة أشهر.

 

ثالثاً: دروس وعبر من حادثة الهجرة :

معية الله لأوليائه المؤمنين ونصرته لهم، ويتجلى هذا في حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار من أن تناله أيدي المشركين ثم نجاته من سراقة بن مالك.

الثقة المطلقة بالله وبنصره وتأييده، ويتجلى هذا الدرس في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما))، ثم في عدم تلفته عندما لحقه سراقة، وكأن الأمر لا يعنيه صلى الله عليه وسلم، ثم في إعطائه صلى الله عليه وسلم سراقة كتاب أمان، وهو الذي يخرج من بلده مهاجراً، لكنه كان يرى نصر الله له ويرقبه ويتيقنه كما يتيقن الشمس في رابعة النهار.

الأخذ بالأسباب المادية لا ينافي التوكل، فها هو صلى الله عليه وسلم حال هجرته يأخذ شتى الوسائل المادية المتاحة له، فيستخفي بالظهيرة ثم بسواد الليل ثم بتجويف الغار، ويسلك طريقاً غير معتادة، وينطلق جهة الجنوب ومقصده الشمال، ويستعين بكافر قد أمنه ... لكن ذلك كله لم ينسه أن يتوكل على ربه ويعتمد عليه.

وهذه الأسباب التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن كافية لإبعاد قريش عنه، فقد وصلت قريش إلى غار ثور، لكن الله حجبه عنهم فلم يصلوا إليه بسوء.

يقول ابن حجر: "فالتّوكّل لا ينافي تعاطي الأسباب لأنّ التّوكّل عمل القلب وهي عمل البدن، وقد قال إبراهيم عليه السّلام: {وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} [البقرة:260] وقال عليه الصّلاة والسّلام: ((اعقلها وتوكّل))" .

وقال الشّيخ أبو محمّد بن أبي جمرة رحمه الله: "مهما أمكن المكلّف فعل شيء من الأسباب المشروعة لا يتوكّل إلا بعد عملها، لئلا يخالف الحكمة, فإذا لم يقدر عليه وطّن نفسه على الرّضا بما قدّره عليه مولاه، ولا يتكلّف من الأسباب ما لا طاقة به له".

قال ابن حجر: الأسباب إذا لم تصادف القدر لا تجدي .

وقال بعد أن ذكر أقوال العلماء في العلاقة بين الأسباب والتوكل: "والحقّ أنّ من وثق باللّه وأيقن أنّ قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكّله تعاطيه الأسباب اتّباعًا لسنّته وسنّة رسوله, فقد ظاهر صلّى اللّه عليه وسلّم في الحرب بين درعين, ولبس على رأسه المغفر, وأقعد الرّماة على فم الشّعب, وخندق حول المدينة, وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة, وهاجر هو, وتعاطى أسباب الأكل والشّرب, وادّخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السّماء, وهو كان أحقّ الخلق أن يحصل له ذلك, وقال الّذي سأله : أعقل ناقتي أو أدعها ؟ قال : ((اعقلها وتوكّل)) فأشار إلى أنّ الاحتراز لا يدفع التّوكّل, واللّه أعلم .

جواز استخدام المعاريض في دفع الشر والبلاء كما صنع الصديق حين كان يخبر من قابله في طريق الهجرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم دليله في الطريق، فيفهم المخاطب أنه طريق السفر، وهو يقصد الطريق إلى الجنة.

قال ابن تيمية في بيان جواز استخدام المعاريض في بعض المواطن، بل وجوبها: "وقد يكون واجباً إذا كان دفع ذلك الضرر واجباً ولا يندفع إلا بذلك، مثل التعريض عن دم معصوم وغير ذلك، وتعريض أبي بكر الصديق رضي الله عنه قد يكون من هذا السبيل .

وبين رحمه الله الفيصل بين ما يحل وما يحرم من المعاريض فقال: "والضابط أن كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام لأنه كتمان وتدليس، ويدخل في هذا الإقرار بالحق والتعريض في الحلف عليه، والشهادة على الإنسان والعقود بأسرها، ووصف العقود عليه والفتيا والتحديث والقضاء إلى غير ذلك، وكل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز بل واجب .

قال ابن حجر: "ومحلّ الجواز فيما يخلّص من الظّلم أو يحصّل الحقّ, وأمّا استعمالها في عكس ذلك من إبطال الحقّ أو تحصيل الباطل فلا يجوز".

وقال النووي: "استعمال المعاريض عند الحاجة .... وشرط المعاريض المباحة ألا يضيع بها حقّ أحد".

العفة والزهد فيما عند الناس رغم الحاجة إليه درس آخر من دروس الهجرة، حيث عرض سراقة بن مالك عليه الزاد والعون وهو صلى الله عليه وسلم أحوج الناس يومذاك إليه، يقول سراقة: وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال: ((أخف عنا)) .

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله)) .

جواز الاستعانة بالمشرك إذا أمن شره ومكره، فقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أرقط فكان دليله في سفره وكان (هادياً خرّيتاً – والخريت الماهر بالهداية – قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فأمناه.

بذل الصحابة أنفسهم وأموالهم وأهليهم فداء لنبي الله صلى الله عليه وسلم فقد نام علي في فراشه ليلة خروجه، وكان الصديق شريكه في أهوال رحلة الهجرة، فيما جهد ولداه عبد الله وأسماء ومولاه عامر في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من علامات الإيمان وضروراته، قال صلى الله عليه وسلم (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )).

دلائل صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ثباته في الغار، وحين دهمهم سراقة، وذلك لا يتأتى إلا لمن علم أن ربه لا يسلمه إلى عدوه.

ومنه أيضاً معجزاته عليه الصلاة والسلام فقد ساخت يدَا فرس سراقة لما همه بالسوء، كما حلبت شاة أم معبد وهي عجفاء لم يطرقها فحل -كما جاء في بعض الروايات – لما مسّ صلى الله عليه وسلم ضرعها.

الاستفادة من الطاقات المختلفة، وكل حسب نوعه وسنه، فقد كان الصديق بحكمته خير رفيق للرسول صلى الله عليه وسلم، فيما تولى الشاب عبد الله بن أبي بكر مهمة تحسس أخبار قريش، وتولى عامر بن فهيرة الخدمة، وتولت أسماء إعداد الجهاز والطعام لهذا الركب.

استحباب الرفقة في السفر، وأن يكونوا أكثر من واحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم ((الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب)).

قال الخطابي : "والمنفرد في السّفر إن مات لم يكن بحضرته من يقوم بغسله ودفنه وتجهيزه, ولا عنده من يوصي إليه في ماله ويحمل تركته إلى أهله ويورد خبره إليهم, ولا معه في سفره من يعينه على الحمولة, فإذا كانوا ثلاثةً تعاونوا وتناوبوا المهنة والحراسة وصلّوا الجماعة وأحرزوا الحظّ فيها".

فضل عبادة الهجرة وعظم ثواب المهاجر حيث قال صلى الله عليه وسلم مخاطباً مكة : ((والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)) ، وفي بيان ما فيها من بلاء قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَـٰرِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} [النساء:66]، فجعل ترك الديار والأوطان قرين القتل والموت.

فضل الصديق وشدة محبته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان له أنيساً وصاحباً في الهجرة وخادماً، فقد كان يحرسه ويخاف عليه ويبرد له اللبن ويؤثره على نفسه ويظله إذا قامت الشمس.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "نطقت بفضله الآيات والأخبار، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، فيا مبغضيه في قلوبكم من ذكره نار، كلما تليت فضائله علا عليهم الصغار، أترى لم يسمع الروافض الكفار: {ثاني ... الغار} [التوبة: 40] ؟!

دعا إلى الإسلام فما تلعثم ولا أبى، وسار على المحبة فما زل ولا كبا، وصبر في مدته من مدى العدى على وقع الشبا، وأكثر في الإنفاق فما قلل حتى تخلل بالعبا .

تا لله لقد زاد على السبك في كل دينار دينار، {ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ}.

من كان قرين النبي في شبابه؟! من ذا الذي سبق إلى الإيمان من أصحابه؟! من الذي أفتى بحضرته سريعًا في جوابه؟! من أول من صلى معه؟! من آخر من صلى به؟! من الذي ضاجعه بعد الموت في ترابه؟! فاعرفوا حق الجار.

نهض يوم الردة بفهم واستيقاظ، وأبان من نص الكتاب معنى دق عن حديد الألحاظ، فالمحب يفرح بفضائله والمبغض يغتاظ، حسرة الرافضي أن يفر من مجلس ذكره، ولكن أين الفرار؟!.

كم وقى الرسول بالمال والنفس، وكان أخص به في حياته وهو ضجيعه في الرمس، فضائله جلية وهي خلية عن اللبس، يا عجبًا! من يغطي عين ضوء الشمس في نصف النهار، لقد دخلا غارًا لا يسكنه لابث، فاستوحش الصديق من خوف الحوادث، فقال الرسول: ((ما ظنك باثنين الله الثالث)) فنزلت السكينة فارتفع خوف الحادث، فزال القلق وطاب عيش الماكث، فقام مؤذن النصر ينادي على رؤوس منائر الأمصار (ثاني اثنين إذ هما في الغار).

حبه ـ والله ـ رأس الحنيفية، وبغضه يدل على خبث الطوية، فهو خير الصحابة والقرابة والحجة على ذلك قوية، لولا صحة إمامته ما قيل: ابن الحنفية، مهلاً مهلاً، فإن دم الروافض قد فار.

والله ما أحببناه لهوانا، ولا نعتقد في غيره هوانًا، ولكن أخذنا بقول علي وكفانا: (رضيك رسول الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا؟!).

تا الله لقد أخذت من الروافض بالثأر، تا لله لقد وجب حق الصديق علينا، فنحن نقضي بمدائحه ونقر بما نقر به من السني عينًا، فمن كان رافضيًا فلا يعد إلينا وليقل: لي أعذار.

اختلف العلماء في توجيه شرب النبي صلى الله عليه وسلم من لبن الراعي في الطريق، قال المهلّب بن أبي صفرة : "إنّما شرب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من لبن تلك الغنم لأنّه كان حينئذ في زمن المكارمة, ولا يعارضه حديثه: ((لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه))، لأنّ ذلك وقع في زمن التّشاحّ, أو الثّاني محمول على التّسوّر والاختلاس، والأوّل لم يقع فيه ذلك بل قدّم أبو بكر سؤال الرّاعي: هل أنت حالب؟ فقال: نعم, كأنّه سأله هل أذن لك صاحب الغنم في حلبها لمن يرد عليك؟ فقال: نعم، أو جرى على العادة المألوفة للعرب في إباحة ذلك والإذن في الحلب على المارّ ولابن السّبيل, فكان كلّ راع مأذونًا له في ذلك .

وقال الدّاوديّ : إنّما شرب من ذلك على أنّه ابن سبيل وله شرب ذلك إذا احتاج, ولا سيّما النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم".

أهمية المسجد ودوره في الإسلام، حيث حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه أينما حل، فقد بنى مسجد قباء قبل وصوله المدينة، وكان بناء المسجد النبوي أول أعماله صلى الله عليه وسلم حين وصل المدينة.

وليس هذا آخر الدروس والعبر المستفادة من حادثة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.