المسبحة في المجتمع الإسلامي والعربي

لقد استخدمت المسبحة للأغراض الدينية، أي بمعنى التسبيح ، في باديء الأمر وما تزال كذلك لطائفة كبيرة من المسبّحين، إلا أن أغراض استخدامها تنوعت وتعددت منذ بداية القرن الحالي وإلى زمننا الراهن في هذه الأيام .

وبغض النظر عن معرفة أسباب استخداماتها الحضارية القديمة والتي نوهنا عنها في رابط آخر ، إلا أنها وبكل تأكيد دخلت وتغلغلت في قلوب أناس كثيرين منذ زمن بعيد ، وبعضهم من أغرم بها كثيراً وأصبح من المستحيل عليه الإستغناء عنها ، وآخرون جمعوا عدداً منها ورتبوا أصنافها وفضلوا نوع على آخر ، وميزوا كل نوع وشكل بصفات وأسماء محببة ، بل إن البعض منهم من عشق نوع معين وتبارك بها ، وللناس فيما يعشقون مذاهب ، وهذا صحيح وواقعي ، فاستخدام المسبحة عادة وعشق لبعض الناس ، ومنهم من ثبت في ذهنه أن قدرته الخطابية أو الكلامية أو غير ذلك لا تتحسن إلا بوجود المسبحة بين يديه والعلامة اللغوي العراقي الدكتور مصطفى جواد رحمه الله كان لا يستطيع أن يصبر عن مسبحته أثناء إعداده لبرنامج (قل ولا تقل) الشهير خلال مرحلة الخمسينات والستينات من هذا القرن .

ومنذ زمن بعيد أنتجت وصنعت المسابح لتوافق مختلف الأذواق والإمكانات المالية ، فمنها ما يصنع عادة لرجال الدين ومنها ما يصلح لطبقة الموظفين ومنها ما يقدر على شرائها من الطبقات الفقيرة في المجتمع وهي الأكثر عدداً بل ان هنالك ما نعتقد أنه صنع خصيصاً للنساء وهم نصف المجتمع وأن كان معظم هؤلاء النساء من طبقة الأعمار الكبيرة من السن .

كما تباينت بشكل كبير أسعار المسابح المختلفة حسب مقومات عديدة منها المادة التي صنعت منها ، وتاريخ صنع المسبحة ومقدار تكاملها من الناحية الفنية الصناعية فضلاً عن قيمة صاحبها الأصلي تاريخاً خصوصاً بالنسبة للقديمة حيث قد تصل بعض الأنواع النادرة منها إلى مبالغ هائلة وإلى الحد الذي قد تتضخم فيه الأسعار بشكل مبالغ جداً . ويشيرأحد بائعي المسابح في مدينة دبي - دولة الإمارات أن هناك مسبحة موجودة في متحف محمد علي بالقاهرة تقدر بمليون دولار أمريكي ، كما وأنه يشير إلى كونه إشترى مسبحة ترجع ملكيتها إلى الملك السابق فاروق ، من مزاد علني في سويسرا عقد قبل سنوات بمبلغ (15) ألف دولار أمريكي وهي من الكهرب الغامق ولها شرابة من الماس والذهب . كما يقول السيد عبدالهادي الشمري وهو أحد الباعة في بغداد أن المسبحة التي استخدمها السلطان رشاد العثماني أو تلك التي استخدمها خليل باشا والي بغداد في مقتبل هذا القرن تعد قطع فنية تاريخية لا يمكن وضع أسعار لهما لتاريخ مالكيها الحافل ، وهنالك نماذج أخرى لا يسعنا المجال لذكرها أو وصفها .

واليوم كثرت أعداد المسابح الغالية بقدوم التصنيع من الجواهر والأحجار شبه الكريمة ، كذلك ازداد حجم القاعدة العريضة من أنواع المواد المستخدمة لإنتناج ذات السعر الزهيد ، لذا فإن الفارق السعري لا يمكن مقارنته نظرا للاختلافات التي نوهنا عنها سابقا .

وإلى حد هذا اليوم ، فالمسبحة ، وخصوصاً الثمينة منها ، إن لم تحفظ في البيوت أو الخزائن ، فهي مثلها مثل المستخدمات اليدوية الأخرى تتعرض للسهو أو النسيان من قبيل صاحبها إلى أيادي الآخرين وقد تتعرض للسرقة والإحتيال أحياناً إذا ما كان مظهرها يدل على ندرتها أو قيمتها العالية ، وتدور كثير من القصص والروايات حول هذا الموضوع خصوصاً بين محبي المسابح النادرة والغالية وأحياناً الزهيدة ، لذا فقد تتسم هذه الأحاديث بكونها محطات للتفكه أو التندر وأحياناً أخرى تدخل في مجال الإنتقام والخصام والنزاع كما قد يصيب أصحابها والذين فقدوها القلق والحزن والأسف ، وفي مرات عديدة صادفنا أصحاب وخلان أو غرباء يبحثون عن مسابحهم الضائعة في كل مكان بلهفة ويستفسرون عنها كما استفسارهم ورجائهم عند فقدان أحد الأبناء والغالي على النفس من الأشياء الأخرى . لذلك فقد دأب بعض الناس على عدم السماح للآخرين في استخدام مسبحته الثمينة والعزيزة عليه إلا من وثق به ثقة عالية ، كما وإن آخرون تهيبوا من هذه المواقف وأودعوا الثمينة والنادرة في الخزائن والبيوت ، واستعاضوا عن التسبيح بها بمسبحة زهيدة الثمن .

وفي بعض المجتمعات العربية او الإسلا مية أو الشرقية عموما تعتبر المسبحة جزءا مكملا لمظهر الرجل . فهو يحملها معه أينما ذهب وفي كل وقت ،  سواء في المقاهي أو المنتديات أو العمل وأحياناً كثيرة في مناسبات الأفراح والمآتم وأحياناً قليلة إلى مختلف المؤتمرات ومنها ما يصل إلى المؤتمرات الدولية .

وقسم من الناس من يخصص لكل مناسبة مسبحة معينة لحملها معه أثناء تلك المناسبة وحسب أهميتها والقسم الآخر من يحاول أن ينسق لون مسبحته التي يحملها مع لون لباسه الذي يرتديه أو يتفاءل بمادة مسبحة معينة أو لون و شكل معين ومنهم من يتطير ويتشاءم من أنواع معينة . كذلك هناك من يتفاخر بمسبحة أبيه أو جده ويفضلها على ما عداها .

كما أن رجال الدين ومن مختلف الطوائف الإسلامية ومنذ زمن بعيد من يفضل استخدام المسابح ذات عدد الحبات التي تكون (99) حبة بالإضافة للمنارة والفواصل ويستخدمها في معظم الأحوال (وإن كان معظمها يميل لونها إلى الأسود أو الأخضر أحياناً ) حيث يسبح ويتمتم ذاكراً اسم الباري عز وجل لمرات عديدة ، كما أن الصورة التى أرتسمت في أذهاننا عن هؤلاء المؤمنين المسبحين في الجوامع والتكايا ما تزال ماثلة للعيان إلى يومنا هذا في مختلف ساحات هذه الأماكن ، وهي صورة مؤثرة حقاً .

ويبدو أن تأثير المسبحة الديني أو الصوفي امتد حتى إلى أوربا في العصور الوسطى . وفي صورة نشرها المؤرخ أرنولد توينبي (في كتابه عن تاريخ الحضارات الإنسانية) حيث يمكن ملاحظة رسما تخطيطيا للبطل الأسطوري السويسري وليم تل ، في القرن الخامس عشر ، يستشير متصوفا ناسكا يحمل بيده اليسرى المسبحة دلالة على اهميتها لدى الطبقة الدينية . كما أن معظم رجال الدين ومن طوائف دينية شتى استخدموا ما يشبه المسبحة منذ عقود طويلة وإلى حد هذا اليوم حيث تكون في بعض الأحيان جزء متمم لشخصية رجل الدين وقد تكون أحيانا جزءا من الطقوس الدينية والأمثلة على ذلك كثيرة جدا .

واليوم ، يحمل المسبحة ، بعض الملوك والأمراء والرؤساء والوزراء وبعض الرجال من الدول العر بية والإسلامية ، ويأخذونها معهم أحيانا إلى مختلف الاجتماعات الدولية في أوربا او أمريكا أو غير ذلك ، مما يثير الحيرة والاستغراب في نفوس الأجانب وبعضهم يتساءل حقا عن سبب استخدامها في هذه الأماكن ، حتى أن بعض الأجانب احتار بذلك ، فمنهم من ذكر لنا أنه يعتقد أن طابعها ديني فلا بد والحالة هذه أن يكون حاملها متدينا ، ومنهم من اعتقد أن تحريك حبات المسبحة بشكل رتيب يبعد القلق وتضفي حالة من الراحة النفسية (حبات القلق Worry beads) كما أن البعض منهم من اعتقد حقا أنها دلالة على دين المسبح . بل أن بعض الأجانب من غير المسلمين اشترى المسبحة لطرافة شكلها أحيانا أو لأسباب أخرى مختلفة . عموما فغن طائفة كبيرة من الشعب اليوناني ما زال يستخدم المسبحة بتأثير الجيرة العثمانية السابقة كما نعتقد .

كذلك فقد اقتحمت المسبحة اليوم منافذ الاهتمام العالمي حيث اهتمت بيوت الأزياء في العواصم العالمية باستخدام حباتها المختلفة (مثل حبات الكهرب) واستخدمتها كزينة إضافية لإثراء متطلبات الأناقة النسائية وتطعيم أزيائها بهذه المستلزمات التراثية .

وعلى النقيض من ذلك ، فإن بعض الطوائف من النساك وأصحاب الطرق الصوفية والدراويش من يسبغ على المسبحة المستعملة عندهم طابعا قدسيا وقد يقوم بعض الناس أحيانا بتقبيل حبات المسبحة تبركا وجلبا للخير كما هو الحال عند بعض الطوائف المسيحية في تقبيل المسابح لرجال الكهنوت أو تقبيل خواتمهم . عموما فغن معظم مسابح الصوفية والدراويش هي من الأنواع الرخيصة وقد تكون المادة التي صنعت منها هي الخشب أو العظام أو الصدف والخزف أو ذات الأصل الترابي وغير ذلك ، وعادة تستخدم هذه في محافل التسبيح والتهليل والتكبير وذلك لاغراض شتى منها ما يرتبط بقدسية المناسبة ، ومنها ما يرتبط بالحساب والعد للمرات التي يذكر فيها اسم الباري عز وجل خشية النسيان ولضبط العملية الرقمية . وبعض الدراويش في حالات استثنائية من يفضل حملها في الأعناق حيث قيل أن ذلك يعتبر مكانا أطهر من اليد ويعبر في الوقت نفسه عن نوع من المكابدة والعشق الإلهي والتعلق الشديد (انظر كتناب الشيخ الشعراني - لطائف المهن ، بولاق ، 1912 ، ص (83) .)   وهنالك قصص وحكايات عديدة تدور حول مسبحة الراهب أو الملّا أو الدرويش والناسك والتي تضفي جوا رومانسيا على هذا التولّه بشكل عام (انظر إلى كتاب المصريون المحدثون ، القاهرة الفجالة 1926 - ص (81) ، السيد ادوارلين) .

أما هواية تجميع المسابح سواء ما اختلف نوع مادتها وشكلها ولونها أم ما انطبق منها وخصوصا في بعض بقاع العالم الإسلامي والعربي . وفي هذا الجانب فقد تجد من الناس من يذكر لك هوايته المحببة هذه ويسرد عدد مسابح الكهرب أو غيرها من المواد والتي يملكها مفصلا عن مواصفاتها وجمالها وألوانها ومعاناة جمعها وبدايات هوايته هذه وتلك التي فقدها وروايات شتى تكاد لا تنقطع ولا تنتهي تدور حول تعلقه بهذه الهواية وتقديرها ، مع دخوله في تفاصيل تتعلق بالشخصيات الاجتماعية او السياسية التي تملك أنواعا معينة من المسابح النادرة وكيفية أو تاريخ اقتنائها وما إلى ذلك ، حتى أن البعض يذهب بعيدا ويضع الخطط في كيفية الحصول على مسبحة نادرة موجودة عند بعض الأشخاص سواء بشرائها أو بطرق أخرى ، وهكذا فقد يجلب حب المسبحة أحيانا مواقف طريفة أو محزنة على حد سواء .

كذلك فإن هواية جمع النادرة والجيدة الصنع منها قد تجبر عشرات الكرام في زمن الحاجة والتقلب . وهناك قصصاً لا حد لها في هذا المجال ، إلا أنه وعلى سبيل المثال فقد سمعنا أن محاميا عراقيا من الجيل السابق والذي يعود أصلا إلى أطراف منطقة الحلة العراقية كان رحمه الله من هواة جمع المسابح الثمينو لفترة طويلة من الزمن وقد توفي فجأة ، وبعد ذلك اجتمع أهله والمقربين منه لبحث ما خلفه المتوفى من مال أو عقار حيث كان مظهره يدلّ على الجاه واليسر أثناء حياته إلا ان ما خلفه كان ضئيلا ، لذلك طلب أحد الأصدقاء من أهله أن يبحثوا جيدا حتى اكتشفوا أكياسا خلف سريره مملوءة بمسابح الكهرب الثمين وغيرها . ويقال أن أهله قد باعوها بعد ذلك بمبالغ طائلة ساعدتهم على قضاء حاجاتهم والحفاظ على كرامتهم . والمجال هنا واسع ومتشعب فكم وكم سمعنا وعرفنا شخصيات عديدة أو وارثيهم باعوا مسابحهم الثمينة للتخلص من مواقف مادية حرجة ، وبعضهم من يظهر الأسف والندم على ذلك طيلة حياته ويتذكر ذلك بحزن شديد .

كذلك فإن هذه الهواية أدت أحيانا إلى احتراف صنعتها وبيعها وتأسيس الحرفة المستقبلية على هذا الأساس ، ويقول أحد أصحاب محال بيع المسابح في مدينة دبي بدولة االإمارات العربية المتحدة (أيضا من مقالته في مجلة زهرة الخليج / الكهرمان العدد (777) 1994 ص (53)) . أنه بدأ هوايته بمسبحة كهرب قدمت إليه كهدية ، ثم اتسع الامر وبدأ في تجميع كافة الأنواع النادرة حتى انتهى به الحال إلى احتراف بيعها ، وهو يشير إلى حاله هذه ويذكر أن مقتنياته من النادرة والثمينة في عام 1994 تبلغ الآلاف منها (700) مسبحة نادرة جدا يحتفظ بها في خزائن البنوك وله محل رائع يبيع فيه المسابح الجيدة وخصوصا ما كان من مادة الكهرب ولقد رأينا بأنفسنا هذه الحالة كما أن نفس هذا الرجل الهاوي نشرت له مقابلات صحفية حول هذا الموضوع . لقد أحب وأعجب بالمسبحة جمع غفير من الناس طيلة القرون الماضية وكانت محط اهتمام عدد كبير من الشخصيات العامة في مختلف المجتمعات حيث إن لم تستخدم لتسبيح الخالق عز وجل فلم نرى ما يشير إلى أي ضرر معروف عنها . وبسبب هذا الاهتمام فلقد نشأت لها محلات وأسواق وباعة مختصون خصوصا في بعض الدول العربية والإسلامية التي تركزت بها الحضارات القديمة مثل أسواق العراق (بغداد وكربلاء والنجف والكاظمية وعدد لا يستهان به من المدن الأخرى) ، وكذلك مصر (في أسواق القاهرة - خان الخليلي وغيرها) والسعودية ودول الخليج العربي وتركيا وبلاد الشام وإيران والأردن ومناطق أخرى لا حصر لها .

وبسبب التنوع البالغ في مصادر المواد التي تصنع منها المسبحة ، ناهيك عن النادرة أو المحببة المطلوبة وذات الصفات الجوهرية ، فغن عملية بيعها أو الاتجار بها تقتضي ان يكون البائع الجيد ملما بنوعيات ومصادر وطرق الصناعة وأماكنها وحسن كشف الزيف وغير ذلك من الامور التي تسهل عملية البيع وتعطي للبائع خبرة مستحبة لزبائنه المترددين حيث ان تزييف مواد المسبحة المصنعة بلغ درجة عالية من الإتقان والمهارة إلى الحد الذي تصعب فيه الحال على بعض باءعي المسبحة أنفسهم التمييز ما بين الاصيل والمزيف ، وقد يستخدم الباعة أحيانا طرق بدائية أو متقدمة لكشف المزيف منها وذلك من أجل تحديد القيمة الحقيقية ومن ثم زرع الاطمئنان في نفسه وفي نفس المشتري أيضا .

لذلك جرت العادة أن تكون محلات بيع المسابح في بعض الأسواق العربية أماكن لتبادل الآراء والاجتهادات ما بين الباعة والزبائن وقد تتوسع دائرة النقاش لتشمل مواضيع أخرى لا تتعلق ببيع هذه السلعة . إن هذا النوع من العلاقات ما بين البائع والمشتري قد يخلق صداقات متينة ودائمة وقد يصبح بعضهم زوارا دائمين لهذه المحلات سواء للشراء أو الاطلاع أو طلب الخبرة وأحيانا تكون الزيارة لأسباب إنسانية أو اجتماعية أخوية جراء تفاعل هذه العلاقات الإنسانية . كما قد يكون الحال عكس ذلك أحيانا  نظرا لتنافر أطراف هذه العلاقة .

ويمكن القول على هذا الأساس ، أن محلات بيع المسابح قد تكون محلات أشبه ما تكون بالمقهى الشعبي القديم ، حيث أن البائع في أغلب الأحيان يدعو رواد محله إلى شرب الشاي أو القهوة نظرا إلى الوقت الطويل نسبيا التي تقتضيه عملية شراء المسبحة وخصوصا النادر منها حيث قد يكون البائع في بعض الأوقات وسيطا لبيع المسابح بين الزبائن . وقد ترى بعض الناس من يحبذ مثل هذه الزيارات إلى محال بيع المسابح وبائعيها بدل قضاء الوقت في أماكن أخرى .

إن هذه الهواية تجر ورائها هوايات ومعلومات وتفاصيل عديدة قد لا يهتم بها عادة الإنسان العادي . فبعض الناس من تسحره وتجذبه بعض أنواع المواد أو الاحجار وخصوصا النادرة منها فيمضي ويتوسع في التقصي عنها ودراستها من الناحية الفيزيائية أو الكيمائية التركيبية أو الجيولوجية . وتجده جادا في معرفة أصولها وأماكن استخراجها وطرق صناعتها وقد يبحث عن مصادرها العلمية وقد يوثقها ، لذا فغن هذه الهواية قد أضافت بعدا ثقافيا وعلميا فضلا عن تطلب الأمر في كيفية تصنيع هذه المواد للمسابح أو لغيرها وأماكنها وكيفية كشف المزيف منها وما إلى ذلك من القضايا المتلاحقة والمتشعبة .

كذلك الحال إلى الباعة ، فإن عملهم قد لا يقتصر على البيع فقط . فقد تقضي الحال الإلمام بطرق صناعة ملحقات المسبحة ومعرفة الجيد من الخيوط والسلاسل والطلب بتصنيع الملحقات إلى الصاغة وخصوصا من مادة الذهب والفضة ، فضلا عن ضرورة إلمامه الكامل أحيانا بحرفة صناعة شرابات المسبحة أو الطلب من حرفي هذه الصنعة القيام بذلك على الأقل . وفي معظم الأحوال فإن توسع البائع في هذه العملية قد لا يقف عند هذا الحد ، فبعض البائعين من يقوم أيضا بعرض الخواتم المرصعة أو مباسم السكائر القديمة أو الساعات القديمة وبعض أنواع السلاسل والأختام القديمة وفصوص الأحجار شبه الكريمة وجملة من مصنعات الفضة وما إلى ذلك حيث أصبح من المعتاد رؤية ذلك في محلات المسابح باعتبار أن ذلك مكملا لحاجة وزينة الرجال أحيانا .

وكذلك فهو الحال نفسه لدى زبائن محلات المسابح حيث غالبا ما يكون الهاوي أو مشتريها من يهوى أيضا اقتناء الأنواع الجيدة من خواتم الفضة المرصعة بالعقيق العادي أو ذاك المنقوش عليه كتابات مختلفة وغير ذلك من الفصوص الفيروزية والياقوتية وجملة متعددة من الأحجار شبه الكريمة الأخرى ، ولقد لاحظنا في فترة سابقة اهتمام حملة المسابح بالخواتم الفضية المرصعة وعلاقة الفص الحجري ولونه بلون ونوعية المسبحة ، وهناك بعض الأفراد من يربط بين نوع فص خاتمه والمسبحة التي يحملها ، ولقد رأينا وسمعنا ، على سبيل المثال ان من يحمل مسبحة من الكهرب قد يرغب غالبا في خاتم من العقيق الأحمر أو الأصفر وأن من يحمل تلك من الفيروز قد يستطيب لبس خاتم من الفيروز وغير ذلك من المشاهدات والأمثلة الشائعة .

إن المسبحة تلعب أحيانا دورا اجتماعيا متناقضا فهي قد تقرب وتعمق العلاقة بين الغرباء من الناس ، ونستطيع هنا ان نقول أن هناك أمثلة كثيرة عن مسبحة جمعت بين غرباء أو خصماء ، فقد يصادف أن يصل إلى علم شخص ما أو أن يشاهد مسبحة نادرة أو معينة بيد شخص آخر لذا فهو يسعى للتعرف عليه أو يوسط آخرين لإتمام عملية الشراء والبيع ، وقد تنتهي هذه العملية بصداقة دائمة وتكون المسبحة قد ربطت بين شتيتين ما كان لهما أن يلتقيا لولا ان يشاء الله ، كما وقد يؤدي ذلك أحيانا إلى زيادة الخصام أو الخلاف ، ولله في خلقه شؤؤن .

وبسبب تأثير المسبحة دينيا واجتماعيا ومنذ فترة طويلة فقد وردت في أدبيات لا حصر لها كما أشير إليها في أبيات شعر عديدة لجملة من الشعراء سواء في الزمن القديم أو الحديث مما قد يمتع الباحثون في مجال الأدب والشعر إذا توفرت الإمكانات في استقراء ذلك خلال الحقبات الزمنية المنصرفة . ونحن من جانبنا فقد سعينا إلى إيجاد أمثلة محددة حول ذلك وخصوصا ما جاء عنها في أبيات بعض الشعراء تاركين اكمال هذه المهمة لمن يهوى تعقب هذا الموضوع ونحن له شاكرون سلفا .

إن عراقة دخول المسبحة في الشعر العربي ترجع إلى ما يزيد عن ألف عام ، ففي عصر المأمون (العصر العباسي) ذكر (من كتاب - أبو نؤاس / في تاريخه وشعره ومباذله وعبثه ومجونه ، تأليف ابن منظور المصري / قدم له عمر أبو النصر / طبع في دار الجيل ، بيروت لبنان 1987 ، ص (253)) .  المسابح الشاعر أبو نؤاس عندما لزم بيته بعد أن حبس في عصر الأمين ، وقيل لمجونه وخلاعته وتهتكه حيث أنقذه الفضل بن الربيع من سجنه وقد اظهر التوبة وقال شعرا منه ما يلي :

وعودتنيه والخير عــــادة أنت يا ابن الربيع الزمتني النسك
وتبدلت عـــــفة وزهادة فارعوى باطلي واقـصر حبلي
في حسن سمـــته أو قتادة لو تراني ذكرت بي الحسن البصري
واصفرار مثل اصفرار الجرادة من خــــشوع ازينه بنحول
في لبتي مكــــان القلادة المسابيح في ذراعي والمصحف
ادركتني على يديك السـعادة ولقد طــــال ما لقيت ولكن

ويبدو أن الشاعر أبو نؤاس ذكر المسبحة (المسابيح) ففي شعره كي يوحي بالتوبة ويُشعر من يستمع إلى هذا الشعر أهمية وجود المسبحة في إعطاء الانطباع بالتوبة والتقشف . إلا أن الطريف أن شاعرنا ما لبث أن عاد إلى تعاطي الخمر وذهب إلى الأمين يعتذر فتقبل ذلك منه .

وفي مقالة منشورة ، فقد ذكر ان بعض الشعراء أشادوا بالمسبحة وتفننوا بها أو وصفوها كقول ابن عبد الظاهر الذي قال شعرا في المسبحة ومنها قوله : (من مقالة عن المسبحة / للدكتور جورج كلاس - نشرت في مجلة الأسبوع العربي . ص (47) العدد الصادر في 7/2/1994م.) .

 قد شغفت بــحبها

وسبـــحة أناملي

 ملتقطـــات حبها

 مثل مناقير غــدت

كما قال الشاعر غذي شعرا فيها ومنه :

اللبيب فتجمـع في همته

ومنظومة الشـمل يخلو بها

عليها تغـدق من هيبته

إذا ذكر الله جــلّ اسمه 

ومنه أيضا :

وأعجب منها عيبهم سبحاتي

فيا عجبا أن العجائب خمسة 

أخيرا وإضافة لما ذكرناه عن المسبحة ، فإن حرفة صناعتها في الوطن العربي بدأت في الاندثار بصورة كاملة لولا القلة من الصابرين المعدودين من صناع اليوم في مصر والعراق والمغرب وتركيا وقلة في أقطار أخرى . والواقع الأليم يتبلور في عدم إمكان تعويض هؤلاء من حيث الخبرة والصنعة حيث يصعب على أولاد هؤلاء الحرفيين نهج صنعه الآباء فضلاً عن صعوبة تعلم الصنعة من غير هؤلاء حيث أنها صنعة مرهقة بالرغم من صفتها التراثية الراقية . ولقد قيل لنا أن هناك جهوداً تبذل في هذا الاتجاه وعلمنا أن ملك المغرب الحسن الثاني وبأمر منه وبإشراف الدولة فإنه يحاول دعم هذه الصنعة والحفاظ عليها بإجبار أصحاب هذه الحرفة وإقناعهم بالمغريات لنقل هذه الحرفة وأسرارها إلى جيل جديد عن طريق التعليم والتدريب ، وذلك لتعزيز التواصل الحضاري الحرفي القديم بالواقع الحالي حيث أثبتت أحوال الأيام الراهنة على فقدان العرب والمسلمين الكثير من حرفهم التراثية القديمة بل وأصبحوا يستوردون منتجاتها من أقصى بقاع الدنيا الواسعة .