عزف منفرد على خيط مسبحة

قصة للكاتب السوري تاج الدين الموسى

وضع المسبحة بين يديه ، وبدأ يهمس ، وهو ينقل حباتها بأصابعه من كف إلى كف : أتروح أمي إلى الحج ؟ أم لا تروح ؟ تروح .. لا تروح .. تروح .. لا تروح .. وانتهى من العـد والهمس عنـد تروح ..

لكن كيف ستروح ؟ ومن أين سيدبر لها خمسين ألفاً إن راحت ؟ وقد لا تكفيها الخمسون ألف ليرة لمصاريف السفر.. ألن تجلب معها هدية لأحد ؟ جلابية لهذا ، وعباءة لتلك .. أو قطعة قماش لكل نفر من الأصول والفروع .. أو للفروع فحسب ، فأصول أمه قد صارت تحت التراب ..

ثم يجيء دور المسابح .. وهل يجوز الحج دون مسابح؟  هذه المسبحة التي بين يديه حجاجية هدية من جاره أبي خليل الذي قصد الديار المقدسة في العام الماضي .. أصلاً لا يصدق الناس إن قيل لهم إن فلاناً قد سافر إلى الحج ، ورجع ، دون أن يجلب معه خرج مسابح ، وحفنة  من مـــاء زمزم .. وإن سولت له نفسه ، وفعلها ، يصير بنظرهم وكأنه لا راح ، ولا رجـع ، ولن يسـلم من ألسنتهم طوال حياته .. وقد يورّث العار لأولاده وأحفاده بعد موته ..

((  هذا أمه التي حجت قبل عشر سنين ولم تجلب معها مسبحة ))

(( هذا جدته التي حجت قبل عشرين سنة ولم تجلب معها دمعة من ماء زمزم ))

 بالنسبة إلى ماء زمزم قربة واحدة تكفي .. فكلما نقصت القربة لتراً أضافوا إليها من ماء الحنفية .. وهكذا تبقى القربة ممتلئة بالماء إلى أن تنتهي المناسبة ..

ثم قدّر عبد الله ثمن السكر والشاي ، والقهوة المرة والحلوة ، وثمن الضيافة من الحلو.. لقد درجت في السنوات الأخيرة موضة تقديم الراحة المحشوة بالفستق الحلبي لضيوف الحاج ، القطعة الواحدة من هذا الصنف تكلف خمس ليرات .. بعدئذ يجيء دور الذبيحة .. إن أرخص ذبيحة ، ولو كانت بمثابة خروف ابن سنة ، تكلف خمسة آلاف ليرة .. أم أنك لن تذبح لأمك يا عـبد الله ؟ أترضى أن يقول الناس فيك : إن الأستاذ عبد الله ، الموظف الكبير عند الحكومة ، بعث أمه إلى الحج ، فرجعت يداً من وراء ويداً من قدام ، ما جلبت معها هدية لأحد ، ولا قدم لها ابنها البكر الضيافة المناسبة ، أو ذبح لها خروفاً أو ديكاً عزم عليه الأهل والجيران ؟ يا حيف على خلفة كهذه ، يا حيف 00 الأم تحمل ، وتلد ، وترضع ، وتربي ، وتمنع اللقمة عن فمها ، لتطعمهـا لأولادها ، الذين حين يكبرون ، يتحـولون إلى أفاعي رقطـاء ، برأسين ، يستكثرون في أمهاتهم مصاريف الذهاب إلى الحـج !

ورجع من الحديث مع نفسه ، إلى الهمس مع حبات المسبحة ، وهو ينقل حباتها بأصابعه ، من كف إلى كف : أتروح أمي إلى الحج ؟ أم لا تروح ؟ تروح .. لا تروح .. تروح .. لا تروح ..  وانتهى من العد والهمس عند تروح ..

ولماذا لا تروح ؟ من في مثل سنها من عجائز واختيارية الضيعة لم يذهب إلى الحج ؟ أهي أقل قيمة منهم كيلا تذهب ؟ أهي من عائلة صغيرة ؟ أو أبناؤها أقل شأناً من الذين أرسلوا أمهاتهـم وآباءهـم إلى الحـج ؟ يكفي من أبنائها عبد الله ، المسؤول الكبير في شركة ( س ) الحكومية ، الذي لا تصير كلمته اثنتين ، تحت يديه ميزانية الشركة التي تفوق الخمسمائة مليون .. لن يصدق أحد من أهله ، ومعارفه ، وأبناء ضيعته ، أنه ليس بمقتدر على إرسال أمه وحدها إلى الديار المقدسة .. أيحمد الله الآن على وفاة أبيه المبكرة بالسل لأنه وفّر علـــيه طلباً كهذا ؟

ـ صدقيني يا أمي حين أقول لك إن الراتب الذي أقبضه لا يكفي لمصاريف البيت ..

ـ هذا لأن الله لا يبارك لك فيه .. شف صبحي ، زميلك بالدراسة ، ومرؤوسك بالشغل  ، كيف يقبض الراتب فيتحول بين يديه إلى ذهب أحمر .. أصلاً الذين في مثل مركزك صار عندهم أراضي زيتون ، وسيارات قاطرة ومقطورة ، وباصات على خط الشام ..

ظن في البداية أن حبات المسبحة قد تآمرن عليه ، وكأنه لا يعلم أن حبات هذا الصنف من المسابح يبلغ ثلاثاً وثلاثين حبة ، وأنه حين يبدأ العد والهمس ب : أتروح أمي إلى الحج ، أم لا تروح ، فانه سينتهي عند تروح .. إذن جهله بعدد حبات المسبحة هو السبب .. أصلاً هو حديث العهد بالمسابح .. صار يخجل بعد تقدمه بالسن من عادة قبيحة نشأ عليها ، وهي قضم أظافر يديه بأسنانه ، ففكر أن يشغل أصابعه بشيء ما عن أسنانه ، فوجد المسابح في طريقه .. وأصنافها سيان عنده ، إذ تستوي التي بخمس ليرات ، مع التي بخمسين ، أو خمسمائة .. التي تتألف من ثلاث وثلاثين حبة ، مع التي من إحدى وخمسين ، مع أم المائة حبة وحبة ، لطالما تؤدي كلها الغرض نفسه : إشغال الأصابع عن الوصول إلى الفم ..

في إحدى المرات ، أخذت أمه مسبحته من يده وشرعت تسبّح بها عن جد ، وحين نهض ، وهمّ بالخروج من المنزل ، وطلبها منها بقوله : اعطني مسبحتي ، قالت له : مسبحة عندما تكون معي .. أما عندما تصير معك ، فهي ملوحة ، أو مقبحة ، رح ، الله يهديك ..

 ثم تذكر مسألة الزينة .. أترح أمه إلى الحـج ، وتعود بالسلامـة ، دون أن يزين لها الدار؟ مستحيل .. لن يترك مجالاً لأهل الضيعة ليؤلفوا فيه سيرة تفوق صفحاتها عدد صفحات تغريبة بني هلال .. بل لن يترك لهم مجالاً ليتناولوه ولو بكلمة واحدة .. ولو بحرف .. سيطلي الدار من الخارج بالكلس .. خمسة كيلووات من الكلس ، يذيبها في برميل ماء ، ثم يستعير بخاخاً من عند أحد معارفه ، ويشمر عن ساعديه وساقيه ، و يرشها بنفسه ، وبعد أن يجعلها تشع بياضاً ، سيسخر واحداً من معارفه ، من أصحاب الخط الجميل ، ليرسم له الكعبة المشرفة فوق باب الدار ، محاطة بنخلتين ، ويكتب على الجدران بعض الآيات ، والأحاديث ، والأقوال المأثورة : الحج عرفة . من زار قبري وجبت له شفاعتي . حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً . أهلاً وسهلاً بزوار قبر المصطفى ..

أرض الدار ، والغرف من الداخل ، سيزنها بالأعلام الخضراء ، والشرائط .. خصوصاً غرفة الضيوف ، التي سيستقبل فيها المهنئين بعودة أمه بالسلامة ..

ـ ليش خلقتك مقلوبة أستاذ عبد ؟

ـ مسألة شخصية صبحي .

ـ ولو كانت شخصية . نحن أخوة .

بلع عبدا لله ريقه ، وعرق ، وتأتأ : أمي زعلت مني ، وتركت بيتي ، وراحت تسكن عند أختي حليمة .

وضع صبحي بريد لجنة فض العروض أمام عبد الله على الطاولة ، وتساءل باندهاش بعد أن جلس على أقرب كرسي إلى الطاولة  : غير معقول ! كيف تترك خالتي أم العبد  بيت ابنها البكر ، وتروح تسكن عند إحدى بناتها ؟

شرع عبد الله بتقليب أوراق البريد ، والتأشير عليها ، دون أن يجيب على تساؤل صبحي ، وكأنه رغب بإنهاء الحديث عند هذه النقطة ، لكن صبحي لم يحقق له هذه الرغبة ..

ـ ما قلت لي ليش تركت خالتي أم العبد البيت ؟

سال العرق على جبين عبد الله ، وخديه ، وصار ينقط من ذقنه على الطاولة ..

ـ تريد أن تروح إلى الحج ..

فجأة تغير شكل صبحي .. انتفض في وجه عبد الله مثل الديك المذبوح ، وانقضّ علـيه كالنسر ، كأنه أبوه ، وله بذمته  ثمن التربية ..

ولماذا لا تروح ؟! آ ؟! أليس هذا من حقها وهي في مثل هذا العمر ؟ بالفعل إنك رجل عاق . ألا تعلم أن الجنة تحت أقدام الأمهات ؟ أم أنك نسيت الشهور التسعة التي حملتك فيها في بطنها ؟ الحليب الذي أرضعتك ؟ سهرها الليالي قرب سريرك وهي تحدوا لك كي تنام ؟ ثم ألا تدرك أنك بمنعها من الذهاب إلى الحج تعطل ركناً من أركان الإسلام يا قليل الدين ؟

ترك عبد الله البريد من يده ، واستدار إلى صبحي ، ليرد على صياحه بهمس ، وكأن الشتائم الذي سمعها منه تخص شخصاً آخر سواه ..

ـ الحج فريضة على من استطاع يا صبحي ، وأنا لست بمقتدر.. لن أتسول أمام المساجد بعد كل صلاة من أجل أن تذهب أمي إلى الحج ؟ ولن أصوم أنا وزوجتي وأولادي عن الأكل والشرب واللبس بقية عمرنا من أجلها ؟

نهض مصباح فجأة ، ركض صوب الباب ، أغلقه ، رجع بالسرعة نفسها ، انحنى فوق عبد الله ، وهمس في أذنه :

ـ لماذا لا تدبر رأسك من هنا ؟

وأشار إلى الخزنة .

ذعر عبد الله .. لأول مرة يحدّثه صبحي بمثل هذه اللهجة المقشرة ..

ـ مؤكد أنت تمزح معي .

ـ لا . أنا لا أمزح معك ، ولا سبق لي أن مزحت معك بمثل هذه المسائل .

ـ يعني تريد مني أن أسرق من أموال الشركة ؟!

ـ ومن قال لك إنها سرقة ؟ لو كنت ستصرف المبلغ على طاولات القمار ، أو في الأندية الليلية ، أو على رؤوس الراقصات في المقاصف ،كنا قلنا إنها سرقة .. إنها في سبيل الله يا رجــل..

أمضى عبد الله الليل بطوله يفكر بكلام صبحي .. زوجته ، وابنه طالب الثانوية العامة ، الذي سهر لوقت متأخر يحضّر ، انتبها لحالته .. لم يجد في طريقه من مبررات لأرقه سوى الكذب : مغص في معدتي لا يـتركني أنام ..

غلت له زوجته منقوع الكمون في البداية ، ثم البابونج والنعناع ، وقرأت عند رأسه عدداً من قصار السور ، أتبعتها بسورة ياسين ، التي تحفظها منذ طفولتها ، فغفا لساعة ، قبل أن يستيقظ ، ويذهب إلى المؤسسة ، ويرجع إلى حسابات المسبحة ..

أسرق المبلغ من صندوق الشركة ؟ أم لا أسرق ؟ أسرق .. لا أسرق .. وانتهى من العد والهمس عند أسرق .. لكن كيف سيسرق ؟ أيتحول إلى لص بطرفة عين ، بعد عشرين سنة أمضاها بالوظيفة ، دون أن يمد يده إلى قرش واحد من المال العام ؟ لقد أغلق هذا الباب منذ بداية عهده بالوظيفة ، وانتهى الأمر ، على الرغم من الفرص الكثيرة التي سنحت له ، ولا تزال ..

السرقة من صندوق الشركة في سبيل ذهاب أمي إلى الحج حلال ؟ أم حرام ؟ حلال .. حرام .. وانتهى من العد والهمس عند حلال ..

ضاع عبد الله .. لم يعد يعرف يديه من رجليه .. أتكون حسابات المسبحة صادقة ؟ أيكون صبحي صادقاً ؟ أتكون السرقة من المال العام في مثل مسألة الذهاب إلى الحج حلالاً دون أن يدري ؟ لماذا لا يذهب إلى مفتي البلد ويسأله ؟ لماذا لا يذهب ويسأل إمام الجامع الكبير ؟ لكن لنفترض أن الشيخ عرفه ، أو المفتي ، وأدركا مراميه من وراء السؤال .. أيفضح نفسه بنفسه ؟ إن خوفه على سمعته أشدّ وطأة على نفسه من ارتكابه فعل الحرام .. ثم إنه ليس بقصير حربة في فهم مسائل الشريعة ، والاجتهاد فيها ، عند الضرورة ، ليروح ، ويسأل ..

أغضب الوالدين أصعب ؟ أم السرقة ؟ غضب الوالدين .. السرقة .. الغضب .. السرقة .. وانتهى من العد والهمس عند غضب الوالدين ..

لم يبق من حلول أمام عبد الله ،كيلا يغضب أمه ، إذا ما بقيت مصرة على الذهاب إلى الحج ، سوى أن يذهب إلى مصرف التسليف ، ويأخذ قرضاً .. لكن المصرف لا يمنح قرضاً بمبلغ كبير كهذا .. حتى لو دبر رأسه ، وأخذ قرضاً من مصرفين ، فان غضب أمه نازل فوق رأســـه لا محالة .. إنها تحرّم التعامل مع المصارف من أساسه .. مؤكد أنه لو استشارها ستقول له : 

ـ هذا ربى يا ابني الله يبعدنا عنه ..

وقد لا تكفيه المئة  ألف ليرة أصلاً .. مصاريف الزينة لم يحسبها ، وتكاليف إقامة المولد راحت عن باله .. صبحي استقدم فرقة ( أديب الدايخ ) بعد رجوع أمه وأبيه من الديار المقدسة .. يومها ، وبعد انتهاء المولد ، غنى الدايخ للشباب : أنا سعاد .. وعشقتك يا ليلى .. وشقراء لا كدراً يشوب صفاءها .. فغنوا معه ، ورقصوا .. فرقة الدايخ ، وحدها ، كلفت صبحي مبلغاً تجاوز الثلاثين ألفاً .. أيرضى أن يقول أهل البلد إن صبحي استقدم فرقة كبيرة كهذه ، وعبد الله لم يكلف خاطره باستقـــدام فرقة المنشدين العميان ، أو الدراويش ؟

دخل إليه صبحي ببريد شعبة العقود ، فتوقف عن تحريك حبات المسبحة بين أصابعه ، والهمس مع كل حبة تنتقل من كف إلى كف ..

ـ صباح الخير .

 ـ صباح النور .

 وضع صبحي البريد على الطاولة أمام عبد الله ، وجلس على أقرب كرسي إلى الطاولة .

ـ ما رجعت خالتي أم العبد إلى البيت ؟

ـ لا والله . ما رجعت .

ـ ومت سترجع ؟

ـ حين أدبر لها مصاريف الروحة إلى الحج .

ـ ومتى ستدبر لها مصاريف الروحة يا أستاذ عبد الله ؟

ـ لن أدبرها يا مصباح .. لو كانت خمسة آلاف .. عشرة .. عشرين كنت تصرفت .. إنها أكثر من مئة ألف ليرة يا رجل ..

ـ أكثر من مئة ألف ، أو أقل .. عندك في الخزنة أكبر من هذا المبلغ بكثير ..

ـ المبلغ الذي في الخزنة لم أرثه عن أبي . ثم افرض أني سحبته من صندوق المؤسسة ، فكيف أخرّجه من قيودي ؟

ـ المسألة في غاية البساطه .. نشتري قرطاسية بعشرين ألفاً ، ونجلب فواتير بمئة وعشرين .. أو نعطل سيارة على الورق ، ونصلحها على الورق ، ونقبض نحن مصاريف الإصلاح .. بالنسبة لي أنا ، ومن أجل عيون خالتي أم عبد الله ، سأقوم بالإجراءات اللازمة كافة ، من الحصول على الموافقات المطلوبة ، إلى تحضير عروض الأسعار ، وتجهيز الفواتير ، وإدخالها المستودع ، وإخراجها ، وتحضير أوامر صرف بها .. أنت مطلوب منك التوقيع فقط ..

وأضاف صبحي بعد أن فتح طريقاً في رأس عبد الله :

ـ أنت لو تدرك قيمة الأدعية التي ستدعوها لك خالتي أم عبد الله وهي واقفة ، بين يدي الله ، في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ، تصلي .. أو وهي تطوف حول الكعبـة .. أو حين تلمس الحجر الأسود ، أو وهي تقبلها .. أو حين تقف على جبل الرحمة ، في صباح يوم عيد الأضحى ، تكبّر، كنت ركضت بيديك ، ورجليك ، ودبرت لها المبلغ .. أما آن لك أن تعمل شيئاً لأخرتك ؟

قرّر عبد الله ، بعد خروج صبحي من مكتبه ، أن يستخدم المسبحة للمرة الأخيرة ، ويحسم هذه المشكلة التي تشغل باله منذ عدة أيام .. انصرف بكيانه كله إلى المسبحة .. وضعها بين أصابعه ، وشرع ينقل حباتها من كف إلى كف ، على مئة مهله ، وهو يهمس مع كل حبة تنتقل من طرف إلى طرف : أتروح أمي إلى الحج ؟ أم لا تروح ؟ تروح .. لا تروح .. تروح .. لا تروح ..كأنه ظن أن المسبحـة قد تغير رأيها .. أو أنه بدأ يفكر بوضع قدم له على الطريق التي فتحها صبحي في رأسه .. وقبل حبتين ، أو ثلاث ، من النهاية ، كان خيط المسبحة قد انقطع ، وتناثرت حباتها على الأرض ..