الفصل السادس

الإسراء والمعراج

ها هي البشارات تتوالى، والانتصارات تتعاقب في دأب شديد! ولئن بدا الرسول *صلي الله عليه وسلم* مهزومًا في عالم الشهادة، فلقد غدا منصورًا في عالم الغيب، الجن تؤمن به *في رحلة العودة من الطائف* حين كفر الناس، وأبواب السماء تفتح له، حين أغلقت في وجهه أبواب الأرض. أسري برسول الله *صلي الله عليه وسلم* بجسده من المسجد الحرام إلي بيت المقدس، راكبًا علي البراق، بصحبة جبريل *عليه السلام*، وبالمسجد الأقصى حيث أبناء إبراهيم من ولده إسحاق *عليهم السلام*، صلي مُحَمّد بالأنبياء إمامًا وكأن ذلك إيذان بانتقال النبوة من ولد إسحاق إلي ولد إسماعيل *عليهما وعلي أبيهما السلام*، ثم عرج به *صلي الله عليه وسلم* إلي السماوات العلا حيث توالت>رؤيته للآيات العجيبة، وأمام ربه *عز وجل* كان فرض الصلوات الخمس، فلما أصبح رسول الله *صلي الله عليه وسلم* في قومه أخبرهم بما أراه الله *عز وجل*، فكذبوه وآذوه، فساق لهم من دلائل صدقه ما يقنع عقولهم السقيمة، غير أنها لا تعمي الأبصار، ولكن تعمي القلوب التي في الصدور.

فرض الصلوات الخمس خمسون صلاة في كل يوم وليلة هي ما فرضها الله *سبحانه وتعالي* علي سيد الأنبياء في رحلة المعراج، لكنه *صلي الله عليه وسلم* حين مر بموسى *عليه السلام* أشار إليه أن يرجع إلي ربه ويسأله التخفيف لأمته، ففعل ووضع عنه ربه عشرًا، ولم يزل مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* يتردد بين موسى *عليه السلام* الناصح بالتخفيف وربه تبارك وتعالي، حتى صارت الصلوات خمسًا، وعندها أجاب *صلي الله عليه وسلم* موسى الناصح بمزيد من التخفيف: قد استحييت من ربي، ولكني أرضي وأسلم، فلما بعد نادي منادٍ: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي.

ما رآه مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* من الآيات وجب علي الأنبياء حمل ما لم يحمل به غيرهم، ولذا فقد حق لهم أن يصلوا إلي يقين لا يلزم غيرهم، ولأن الخبر ليس كالمعاينة، فقد عاين الأنبياء من الآيات العجيبة ما جعل الدنيا بأسرها تدنو في أعينهم عن جناح بعوضة، وما جعلهم يستعذبون في سبيل حمل الرسالة ما يمر عليهم من المحن والعذاب. وفي رحلة المعراج رأي مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* من الآيات العجيبة ما ثبت فؤاده، وملأ قلبه يقينًا، ففي السماء الدنيا رأي آدم *عليه السلام*، ورأي أرواح الشهداء عن يمينه وأرواح الأشقياء عن يساره، وفي السماء الثانية رأي عيسي ويحيي *عليهما السلام*، وفي السماء الثالثة رأي يوسف *عليه السلام*، وفي السماء الرابعة رأي إدريس *عليه السلام*، وفي الخامسة رأي هارون *عليه السلام*، ورأي أخاه موسى*عليه السلام* في السادسة، ولما انتهي إلي السماء السابعة لقي إبراهيم *عليه السلام*، وكان كلما رأي نبيًا سلم عليه ذلك النبي ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلي الجبار* جل جلاله*، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدني، وفي هذه الرحلة تكررت له *صلي الله عليه وسلم* حادثة شق الصدر، وعرض عليه اللبن والخمر فاختار اللبن، ورأي أربعة أنهار في الجنة، نهرين ظاهرين وهما: النيل والفرات، ونهرين باطنين، ورأي مالك خازن النار، كما رأي الجنة والنار، ورأي أكلة مال اليتامى لهم مشافر كمشافر الإبل، يقذفون بقطع من النار في أفواههم فتخرج من أدبارهم، ورأي أكلة الربا لهم بطون كبيرة لا يقدرون بسببها علي الحركة، ويطؤهم آل فرعون حين يعرضون علي النار، ورأي الزناة يأكلون اللحم الغث المنتن، ويتركون السمين الطيب إلي جنبه، ورأي النساء اللاتي يدخلن علي أزواجهن من ليس من أولادهم معلقات من أثدائهن، وقد قص مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* علي أهل مكة حين أصبح خبر رحلته فصدقه من شاء الله له أن يصدق، وكذبه من صرف عن رؤية الحق رغم دلائل صدقه التي ساقها لهم النبي.

دلائل صدقه من آمن بالإسلام كله لايكذبه لبعضه، ومن عرف مُحَمّدا *صلي الله عليه وسلم* آمن بصدقه كيفما حدَّث، هاتان الحقيقتان البسيطتان هما اللتان نطق بهما لسان أبي بكر بسهولة ويسر: لئن كان قاله، لقد صدق، فوالله إنه ليخبرني إن الخبر ليأتيه من السماء إلي الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه!، ولأن العقول والقلوب ليست كلها كعقل أبي بكر وقلبه، شاء الله أن يؤتي مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* أدلة دامغة لمن أراد أن يمعن النظر، فقد سأله الناس أن يصف لهم بيت المقدس، فجلاه الله له حتى عاينه، وطفق يخبرهم عن آياته، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئًا، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وعن البعير الذي يقدمها، وعن بعير شرد لهم فدلهم عليه، وعن ماء كان لهم مغطي فشربه ثم تركه مغطي كما كان ليكون لهم آية، لكن أني لمن لم يصدع قلبه لآيات القرآن أن تهتز شعرة من رأسه لحديث النبي الصادق؟!.

بيعة العقبة الأولى

إن النبتة التي غرسها رسول الله *صلي الله عليه وسلم* بيده في موسم الحج في السنة الحادية عشرة للنبوة، قد اشتد عودها، حتى جاء في الموسم التالي اثنا عشر رجلاً، خمسة من الستة الذين قابلوه في العام الماضي، وسبعة جدد، جاءوا يبايعون الرسول *صلي الله عليه وسلم* عند العقبة بمني، بيعة كبيعة النساء يوم فتح مكة *أي علي الإيمان والطاعة*، دون حرب أو قتال، وقد بعث النبي *صلي الله عليه وسلم* معهم شابًا من السابقين إلي الإسلام هو مصعب بن عمير العبدري؛ ليعلم من أسلم بيثرب شئون دينهم، ويدعو بها من لم يسلم بعد، وقد بارك الله في سفارة مصعب، وكان يعرف بالمقرئ، وآمن بدعوته أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وقصة إسلامهما تنبئ بحكمة مصعب ودماثة خلقه، وقد أقام مصعب في دار أسعد بن زرارة يقوم بما انتدب له بجد وحماس حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، فقد وقف بهم عن الإسلام قيس بن الأسلت الشاعر حتى عام الخندق العام الخامس للهجرة. ولم يأت العام المقبل: العام الثالث عشر للنبوة إلا ومصعب قد عاد إلي مكة، يزف إلي رسول الله *صلي الله عليه وسلم* بشائر الفوز، وبوارق الأمل، في قبائل يثرب، وما بها من خير ومنعة.

بيعة العقبة الثانية: الله أكبر!! موسم الحجيج للعام الثالث عشر من النبوة يسفر عن غرس مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* وقد استغلظ واستوي علي سوقه، وفد يثرب يقدم قاصدًا مكة وبين صفوفه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ممن أسلم وآمن بالدين الجديد، لا ينهزهم إلا شوقهم للقيا نبي الله *صلي الله عليه وسلم*، ومبايعته علي النصرة وتحت جناح الليل، وبعد مضي ثلثه الأول، كان التسلل خفية، للقاء الموعود، عند العقبة حيث الجمرة الأولي من مني، حسب الاتفاق المضروب، وبينا هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله *صلي الله عليه وسلم* ومعه العباس عمه *وهو بعد علي دين قومه*، أما أبو بكر وعلي فقد وقف كل منهما عينًا علي الطريق؛ لحراسة الاجتماع السري، وقبل أن يسرد النبي *صلي الله عليه وسلم* بنود البيعة أكد العباس علي خطورتها، وبعد أن سردها فقد كرر التأكيد علي خطورة البيعة، الأنصاريان السابقان: العباس بن عبادة، وأسعد بن زرارة، لكن الأنصار الذين عرف الإسلام طريقه إلي قلوبهم، ما كادوا يستمعون إلي قولهما حتى بادروا إلي مصافحة رسول الله *صلي الله عليه وسلم* قائلين: والله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها. وبعد أن تمت البيعة، قام الأنصار تنفيذًا لطلب رسول الله *صلي الله عليه وسلم* باختيار اثني عشر نقيبًا، حتى إذا تمت البيعة، اكتشف شيطان المعاهدة فصاح علي قريش يستفزهم، وسعت قريش لمطاردة المبايعين؛ لقتل حركة تعلم جيدًا شدة خطورتها، لكن الله سترهم، ولم تظفر قريش إلا بسعد بن عبادة الذي أجاره المطعم بن عدي، والحارث بن حرب بن أمية، فعاد سالمًا إلي ركبه، وعاد الجمع الميمون إلي المدينة ينشرون دعوة الله، ويهيئون يثرب لإقامة دولة الإسلام الأولي في الأرض، ويستعدون لاستقبال المهاجرين، ونبيهم *صلي الله عليه وسلم*.

بنود البيعة: كانت بيعة العقبة الأولي علي الإيمان والطاعة، أما هذه البيعة فقد كانت علي الجهاد والقتال كذلك، وقد جمع رسول الله *صلي الله عليه وسلم* بنود هذه البيعة في نقاط خمس:

1)   الأولى : السمع والطاعة في النشاط والكسل

2)   الثانية : النفقة في اليسر والعسر

3)   الثالثة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

4)   الرابعة: أن يقوموا في سبيل الله لا تأخذهم في الله لومة لائم

5)   الخامسة: أن ينصروا رسول الله *صلي الله عليه وسلم* إذا قدم إليهم، ويمنعونه مما يمنعون منه أنفسهم، وأزواجهم، وأبناءهم.

وواضح من هذه البنود الخمسة أن الإسلام لم يعد عقيدة تسكن أفئدتهم فحسب، بل صار دعوة، وحركة، وجهادًا، وتضحية، تكلفهم أرواحهم ودماءهم في بعض الأحيان، أما وعد النبي *صلي الله عليه وسلم* إن هم وفوا بما عليهم، فلم يكن النصر في الدنيا ولا الغلبة علي أعدائهم، كما لم يكن متاعًا أو جاهًا يتنعمون به إنما كان الجنة، والجنة فحسب. وقد سأل أبو الهيثم بن التيهان رسول الله *صلي الله عليه وسلم* قائلاً: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها *يعني اليهود*، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلي قومك وتدعنا؟، فتبسم رسول الله *صلي الله عليه وسلم* ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم. وعلي شدة وضوح الخطورة في بنود هذه البيعة، إلا أنه تم التأكيد علي خطورتها من الحاضرين ليبايع من أراد وهو علي بينة من أمره.

التأكيد على خطورة البيعة أن يبايع المرء علي الدفاع عن دعوة جندها الفقراء والمستضعفون، وأعداؤها كل ذي سطوة وقوة علي ظهر الأرض ليس بالأمر اليسير، وخير للمرء أن يعتذر بأدب في أول الدرب علي أن ينكص علي عقبيه بعد أن يحاط بالجمع الغفير!. لهذا الأمر بدأ العباس عم النبي *صلي الله عليه وسلم* الحديث مع الأنصار قائلاً بقوة ووضوح: يا معشر الخزرج، إن مُحَمّدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو علي مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبي إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده. والحق أن العباس قد أوضح الأمر بجلاء ويسر، فما كان من كعب بن مالك إلا أن طلب من رسول الله *صلي الله عليه وسلم* أن يسرد بنود بيعته حتى يبايعوه عليها، فقال: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت! فسرد النبي *صلي الله عليه وسلم* بنود بيعته؛ ليبايعوه، لكن العباس بن عبادة أسرع ليؤكد للقوم خطورة ما أقدموا عليه فقال: إنكم تبايعونه علي حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه علي نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة، فقالت الأنصار: لرسول الله *صلي الله عليه وسلم*: ابسط يدك. لكن أسعد بن زرارة أخذ بيده *صلي الله عليه وسلم* قائلاً: رويدًا يا أهل يثرب! إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة،وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم تصبرون علي ذلك فخذوه وأجركم علي الله،وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله. لكن الأنصار صاحوا بأسعد في ثبات ويقين: يا أسعد، أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها. فكانت البيعة.

اختيار النقباء

ما أروع الإسلام حين تدب في نصوصه الحياة فتسعي في الأرض تنظم للمسلمين شئونهم، يقرر الإسلام مبدأ الشورى، ثم تأتي بيعة العقبة الثانية ليتجلى هذا المبدأ في أبهى صوره، رسول الله لا ينتقي -وهو النبي المعصوم- منهم أحدًا، إنما يكل الأمر إليهم قائلاً: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبًا؛ ليكونوا علي قومكم بما فيهم. أما الأنصار فيعلمون أنهم جميعًا أمام شرع الله سواء، من آمن في العام الحادي عشر، ومن بايع بيعة العقبة الأولي، ومن لم يمض علي بيعته سوي لحظات، الجميع سواسية، لهم نفس الحق، وعليهم ذات الواجب، وفي الحال تم انتخاب تسعة نقباء من الخزرج، وثلاثة من الأوس، ثم أخذ عليهم النبي -صلي الله عليه وسلم- ميثاقًا آخر بصفتهم الرئاسية قائلاً: أنتم علي قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسي بن مريم، وأنا كفيل علي قومي -يعني المسلمين-، فقالوا: نعم!. ويا لها من عظمة نبوية جليلة حين أعلن مُحَمّد -صلي الله عليه وسلم- التكافؤ في المسئولية بينه وبين النقباء الجدد في قوله: وأنا كفيل علي قومي.

اكتشاف قريش للبيعة ومطاردة المبايعين

 "يا أهل الأخاشب، هل لكم في مُحَمّد والصباة معه قد اجتمعوا علي حربكم؟". انطلقت هذه الصيحة، بأنفذ صوت سمع قط، من فوق مرتفع من الأرض، في اللحظات الأخيرة للبيعة؛ لتصل إلي سمع كل قرشي بمني، وعرف النبي -صلي الله عليه وسلم- صاحب الصيحة فقال: هذا أزب العقبة -وهو شيطان-، أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك. ثم أمر الأنصار أن يسارعوا إلي رحالهم، ولعل هذه الصيحة كانت أول اختيار وأسرعه لصدق الأنصار في بيعتهم، فقد أسرعوا بوضع أيديهم علي مقابض السيوف قائلين: لئن شئت يا رسول الله لنميلن غدًا علي أهل مني بأسيافنا؛ لكنه -صلي الله عليه وسلم- أبي أن يعجل بمعركة يكون ثمنها أرواح المسلمين، ودماءهم دون نفع أو جدوى فقال لهم: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلي رحالكم؛ فرجعوا وناموا حتى أصبحوا، وظلت كلماته -صلي الله عليه وسلم-: "لم نؤمر بذلك" درسًا معلقًا بأذهانهم يتعلمون منه التخلي عن تهور الجاهلية وطيشها، وإعلاء مصلحة دين الله فوق كل مصلحة، والاحتكام الدائم إلي شرع الله تعالي، فلا تكون حركة إلا بأمر أو إجازة من الله ورسوله.

مطاردة المبايعين: مادت الأرض تحت أقدام قريش وطاشت عقولهم، إن مُحَمّدا قد أعجزهم وهو الضعيف بمكة، فكيف يصنع وكيف يصنعون إن وجد لدعوته حصنًا بيثرب؟! إنها نهاية قريش إذن، والواجب عليهم أن يبادروا الحركة الوليدة في مهدها قبل أن يشتد عودها، وينتشر خطرها، ذهب زعماء مكة إلي مخيم يثرب قائلين: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلي صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه علي حربنا، وإنا والله ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينكم، وبقدر ما اشتمل قولهم هذا علي التهديد والوعيد بقدر ما اكتسي بحلة الرقة والملاطفة، لكن مشركي يثرب ما كان لهم علم بما صنعه أهلوهم من المسلمين، فأخذوا يقسمون لهم أن حلفًا بينهم وبين مُحَمّد ما وقع، وما كان له أن يقع، وما زالوا بهم حتى أقنعوهم بكذب هذا الخبر. انصرفت قريش وهي لا تشك في صدقهم، ثم إنهم لم يزالوا يبحثون ويتحرون عن الأمر حتى تأكد لهم أن الخبر صحيح، والبيعة قد تمت فعلاً، فهموا بمطاردة اليثربيين، لكن بعد فوات الأوان، إذ كانوا قد انصرفوا إلي أوطانهم، فلم يدركوا منهم إلا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو فطاردوهما، وأفلت المنذر منهم فلم يظفروا إلا بسعد بن عبادة الذي أخذوا يضربونه ويجرون شعره حتى أدخلوه مكة، وما أنقذه من أيديهم إلا المطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية، فقد كان سعد يجير لهما قوافلهما المارة بالمدينة، ولحق سعد بإخوانه، فعاد الركب المبارك آمنًا إلي المدينة.