لم يتوقع احد تلك العاصفة التي هبت داخل إسرائيل بحثا وسعيا لمعرفة حقيقة الشخصية التي أعلنت المخابرات العامة المصرية عام 1988 بأنها قد عاشت داخل إسرائيل لسنوات طوال أمدت خلالها جهاز المخابرات المصري بمعلومات مهمة كما أنها شكلت وجندت داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه اكبر شبكه تجسس شهدتها منطقة الشرق الأوسط. وكان اسم (رأفت الهجان) هو الاسم المعلن البديل للمواطن المصري المسلم (رفعت على سليمان الجمال) ابن دمياط والذي ارتحل إلى إسرائيل بتكليف من المخابرات المصرية عام 1954 حاملا روحه على كفة.

وحقق الجمال نجاحات باهرة وبه استطاعت المخابرات المصرية أن تثبت عمليا كذب أسطورة التألق التي تدعيها إسرائيل لجهاز مخابراتها.

وفور إعلان القاهرة لهذه العملية المذهلة طالبت الصحفية الإسرائيلية "سمادر بيرى" - في موضوع نشرته بجريدة يدعوت احرونوت الإسرائيلية - آيسر هريتيل مدير المخابرات الإسرائيلية في هذا الوقت أن ينفى ما أعلنته المخابرات المصرية وأكدت لمدير المخابرات الإسرائيلية أن هذه المعلومات التي أعلنتها القاهرة تثبت تفوق المخابرات العربية المصرية في أشهر عملية تجسس داخل إسرائيل ولمدة تقرب من العشرين عاما. واستهدفت الصحفية من نشر هذا الموضوع عرض الحقيقة كاملة ، حقيقة ذلك الرجل الذي عاش بينهم وزود بلاده بمعلومات خطيرة منها موعد حرب يونيو 1967 وكان له دور فعال للغاية في الإعداد لحرب أكتوبر 1973 بعد أن زود مصر بأدق التفاصيل عن خط بارليف ، كما انه كون إمبراطورية سياحية داخل إسرائيل ولم يكشف احد أمره . وجاء الرد الرسمي من جانب المخابرات الإسرائيلية : أن هذه المعلومات التي أعلنت عنها المخابرات المصرية ما هي إلا نسج خيال ورواية بالغة التعقيد .. وان على المصريين أن يفخروا بنجاحهم!.

وبينما يلهث الكل وراء اي معلومة للتأكد من الحقيقة عن هذا المجهول المقيد في السجلات الإسرائيلية باسم "جاك بيتون" بصفته إسرائيلي ويهودي ، نشرت صحيفة "الجيروزاليم بوست" الإسرائيلية موضوعا موسعا بعد أن وصلت إلى الدكتور "ايميرى فريد" شريك الجمال في شركته السياحية "سي تورز" وبعد أن عرضوا علية صورة الجمال التي نشرتها القاهرة شعر بالذهول وأكد أنها لشريكة "جاك بيتون" الذي شاركه لمدة سبع سنوات وانه كان بجواره مع جمع كبير من صفوة المجتمع الإسرائيلي عندما رشح لعضوية الكنيست الإسرائيلي ممثلا لحزب "مباى" الإسرائيلي "حزب عمال الأرض" ولكنه لم يرغب في ذلك. وفور أن فجرت صحيفة "الجيروزاليم بوست" حقيقة الجاسوس المصري وانه شخصية حقيقية وليست من نسج خيال المصريين كما ادعى مدير الموساد حصلت الصحيفة أيضا على بيانات رسمية من السجلات الإسرائيلية مفادها أن "جاك بيتون" يهودي مصري من مواليد المنصورة عام 1919 وصل إلى إسرائيل عام 1955 وغادرها للمرة الأخيرة عام 1973 . وأضافت الصحيفة بعد التحري أن "جاك بيتون" أو "رفعت الجمال" رجل الأعمال الإسرائيلي استطاع أن ينشئ علاقات صداقه مع عديد من القيادات في إسرائيل منها "غولدا مائير" رئيسة الوزراء ، و"موشى ديان" وزير الدفاع .

وخلصت الصحيفة إلى حقيقة ليس بها أدنى شك :

"جاك بيتون" ما هو إلا رجل مصري مسلم دفعت به المخابرات المصرية إلى إسرائيل واسمه الحقيقي "رفعت على سليمان الجمال" من أبناء مدينة دمياط بمصر.

وفور هذه المعلومات الدقيقة التقطت الصحف العالمية أطراف الخيط فقالت صحيفة "الاوبزرفر" البريطانية الواسعة الانتشار : أن "الجمال" عبقرية مصرية استطاع أن يحقق أهداف بلاده .. ونجح في أن يعود إلى وطنه سالما ويموت طبيعيا على فراشه.

رفعت الجمال

ولد رفعت الجمال في الأول من يوليو 1927 بمدينة طنطا وكان الابن الأصغر للحاج على سليمان الجمال تاجر الفحم وكان له اخوين أشقاء هما لبيب ونزيهه إضافة إلى أخ غير شقيق هو سامي، وكان والده يحمل لقب (أفندي) أما والدته فكانت من أسرة عريقة وكانت تتحدث الإنجليزية والفرنسية. لم ينعم "رفعت" بوالده طويلا إذ توفى والده وهو بعد في التاسعة من عمره عام 1936 وكانت شقيقته نزيهه في الحادية عشر ولبيب في الثالثة عشر، أما سامي فكان في الثالثة والعشرين، ولم يكن لهم أي مصدر للرزق فاتفق الأعمام والعمات على حل كان منطقيا في هذه الظروف وهو أن يلتحق الصبيين (رفعت ولبيب) بورشة للنجارة حيث كانت مدينة دمياط منذ القدم وحتى الآن مشهورة بصناعة الأخشاب إلا أن الشقيق الأكبر سامى رفض الفكرة من أساسها واقترح أن ينتقل الأولاد الثلاثة وأمهم معه إلى القاهرة ليتعلموا في مدارسها ويكفل لهم راتبه المتواضع حياه كريمة، وكان سامي مدرسا للغة الإنجليزية وكان مسئولا عن تعليم أخوة الملكة فريدة اللغة الإنجليزية.

وفى القاهرة التحقت نزيهة بمدرسة ثانوية للبنات والتحق لبيب بمدرسة تجارية متوسطة، أما رفعت فالتحق بمدرسة ابتدائية وبعد إتمامه لها التحق أيضا بمدرسة تجارية وكان وقتها يتقن التحدث باللغتين الانجليزية والفرنسية ، وبرغم محاولات سامى أن يخلق من رفعت رجلا منضبطا ومستقيما إلا أن رفعت كان على النقيض من اخية سامى فقد كان يهوى اللهو والمسرح والسينما بل انه استطاع أن يقنع الممثل الكبير بشارة وكيم بموهبته ومثل معه بالفعل في ثلاثة أفلام.

وفي عام 1943 تزوجت نزيهة من الملازم أول احمد شفيق في حين سافرت أمه إلى دكرنس للإقامة مع أخوها ليجد رفعت نفسه محروما فجأة من أمه وأخته التي كان يحبها كثيرا، ووجد نفسه فجأة مطالبا بتحمل أعباء نفسه ومن ثم وعلى سبيل الاحتجاج رسب عمدا في امتحان العام الدراسي الثالث بمدرسته التجارية وفي هذا الوقت تزوج شقيقه سامي من ابنه محرم فهيم نقيب المحامين في ذلك الوقت، في حين انشغل لبيب بعمله، ولما كان هناك ملاحق للراسبين في الامتحان النهائي ومع ثورة الجميع على رفعت ومطالبته بالنجاح في الملاحق إلا انه كان مصرا .. ورسب للمرة الثانية.

وفي العام التالي نجح رفعت في الامتحان ولم يعد أمامه إلا عام واحد على التخرج وبالفعل تخرج في عام 1946 في الوقت الذي كان فيه قد انضم إلى عالم السينما.

إلا انه أحس أن الوقت قد حان لكي ينتقل لمجال آخر، وربما كان يريد وقتها الهروب من (بيتي) تلك الراقصة التي تعرف عليها، فتقدم بطلب لشركة بترول أجنبية تعمل بالبحر الأحمر للعمل كمحاسب واختارته الشركة برغم العدد الكبير للمتقدمين ربما نظرا لإتقانه الإنجليزية والفرنسية، وانتقل بالفعل إلى رأس غارب حيث بقى لمده خمسة عشر شهرا تعلم خلالها كل ما أمكنه عن إعمال البترول وأقام علاقات متعددة مع مهندسين أجانب، وفي هذه الأثناء توفيت والدته بدكرنس.

وفي عام 1947 قرر رئيسه نقله إلى المركز الرئيسي بالقاهرة ولما كان لا يرغب في العودة إلى القاهرة آنذاك إذ انه لن يستطيع أن يكون قريبا من أخته نزيهة وأبناءها وفي الوقت نفسه لا يستطيع رؤيتها مع سوء علاقته بزوجها فقد رفض الترقية. وانتقل إلى الإسكندرية للعمل في شركة كيماويات كان رئيسها قد فاتحه أكثر من مرة للعمل لديه، وسر منه صاحب الشركة كثيرا نظرا لاجتهاده وكان يعامله كابن له وهو الشئ الذي كان يفتقده رفعت كثيرا.

وفي عام 1949 طلب منه صاحب الشركة السفر إلى القاهرة لأنه غير مطمئن للمدير هناك وطلب منه مراجعه أعماله.

وسافر رفعت إلى القاهرة وراجع أعمال مدير الفرع فلم يجد ما يثير الريبة وتسلم منه الخزانة وراجع ما فيها دون أن يدري انه يمتلك مفتاحا ثانيا لها، وفي اليوم التالي اكتشف ضياع ألف جنيه من الخزانة وأصبح هو من الناحية الرسمية المسئول عن ضياع المبلغ، واتصل مدير الفرع برئيس الشركة بالإسكندرية وابلغه انه عثر على المبلغ في غرفته وهو ما لم يحدث، وعاد رفعت إلى الإسكندرية وقال له رئيسه انه يصدقه لكنه لا يستطيع الإبقاء عليه في وظيفته تجنبا لإجراء أي تحقيقات رسمية لكنه أيضا رتب له عمل آخر مع صديق له يدير شركة ملاحه بحرية .. ولم يكن أمام رفعت خيار آخر.