بهجت حمدان ... الهارب من الإعدام

بعد نكسة يونيو 1967 .. وبينما الطائرات الاسرائيلية كانت تمرح آمنة كيفما تشاء في سماء مصر ... كان بهجت حمدان ينقل إلى العدو أولاً بأول خرائط وصور القواعد العسكرية المصرية ... ويشعر بنشوة غامرة لنجاحه في "العمل"... ولثقة الموساد في معلوماته.

وأمام تدفق الأموال عليه... كوّن شبكة جاسوسية خطيرة في القاهرة ... لكي يزداد ثراءاً ورونقاً .. وتوحشاً.

ولحظة سقوطه في قبضة المخابرات المصرية.. صرخ غير مصدق: مستحيل ... مستحيل ... كيف توصلتم إليّ.. ؟

لقد دربوني جيداً في أوروبا... بحيث لا أسقط أبداً... !!!

لغة الجسد

أصيبت المخابرات الإسرائيلية بصدمة قاسية عندما انكشف جاسوسها المدرب بهجت حمدان ...وزلزل النبأ كبار ضباطها الذين أعمتهم الثقة وغلفهم الغرور ... ذلك لأن الجاسوس مدرب جيداً في أوروبا بواسطة أمهر الخبراء... وحصل على دورات تؤهله لكل المهام التجسسية الصعبة... دون أن يثير شكوك المخابرات المصرية، وظل العميل المدرب "نائما" لسنوات في أوروبا انتظاراً للحظة الانطلاق...

لقد أجاد فنون التجسس دراسة. عكس غالبية الخونة الذين يُدفع بهم عقب تجنيدهم مباشرة لممارسة العمل ضد بلادهم ... وكان تجنيده قد تم بواسطة نقطة ضعفه – المال – الذي ظل يلهث وراءه .. إلى أن وقع.

ولد بهجت يوسف حمدان بالإسماعيلية في 24 ديسمبر 1932 لأب ثري يعمل في التجارة اجتهد في عمله لتأمين حياة كريمة لأسرته. مضحياً بكل ما لديه في سبيل تعليم أولاده وتبوئهم مناصب مرموقة في المجتمع.

وأمضى بهجت طفولته على شاطئ القناة في المدينة الجميلة الساحرة... ولما حصل على الشهادة الاعدادية كان والده قد قرر الانتقال نهائياً إلى القاهرة بعدما توسعت تجارته واشتهر اسمه ... فالتحق بهجت بمدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية ... وتبلورت شخصيته بها وظهر حبه وولعه بالرسم والفنون ... للدرجة التي جعلته يهرب كثيراً من المدرسة ليزور المتاحف والمعارض الفنية... وكان ينفق مصروفه على شراء الألوان وأدوات الرسم، الأمر الذي استدعى تدخل والده لصرفه عن هوايته التي رآها الأب مضيعة للوقت على حساب مستقبله.

وفي عام 1950 نال بهجت حمدان شهادة الثانوية العامة بصعوبة... واتجهت نيته إلى الالتحاق بأحد المعاهد الفنية لتنمية موهبته... لكن الأب عارض بشدة مصراً على تعليمه كأبناء الباشوات... وأرسل به إلى ألمانيا الغربية لدراسة الهندسة المعمارية في جامعاتها.

وأمام رغبة الأب وإصراره.. حزم الشاب حقائبه وطار إلى ميونيخ وفي نفسه غصة لضياع حلمه في أن يكون رساماً.

وفي ميونيخ تصدع عقل الفتى الأغر .. فقد وجد نفسه فجأة بداخل مجتمع غريب عن طبيعته كشرقي... مجتمع يفيض تحرراً وانفتاحاً يستطيع الامتزاج به بسهولة .. لذلك انطوى على نفسه في بادئ الأمر... وفشلت الأسرة الألمانية التي يقيم معها في إخراجه من عزلته.. فطلبت من إدارة الجامعة استبداله بآخر... وانتقل بهجت بعدها إلى سكن بيوت الطلاب... لدراسة اللغة مبتعداً عن المغريات التي تستهوي الشباب... وكرس كل جهده ووقته لذلك حتى وقعت له حادثة بدلت طريقه وطباعه.

فقد دعاه زملاؤه الطلاب لقضاء سهرة الكريسماس بأحد المراقص... وفي النادي الليلي حيث الخمر والرقص والفتيات الحسناوات والغزل .. تعرف بشاب مغربي قدمه إلى إحدى صديقاته... وعلى "البيست" أخذ يراقصها... فتناثرت عنه انطوائيته وضاع خجله.. وانقلب من وقتها إلى شاب جديد مليء بالثقة في نفسه.. يملك القدرة على إدارة الحوار بشتى أشكاله.

بعدها . تعددت السهرات مع الفتاة الألمانية .. التي أخذت تحيطه بالاهتمام فأحبها... ولم يعد بمستطاعه الافتراق عنها يوماً واحداً... ومن المصروف الذي كان يرسله أبوه ...أخذ ينفق عليها في المطاعم والبارات والمنتزهات .. مضحياً بأوقات الدراسة والاستذكار... وكانت النتيجة الطبيعية رسوبه في أولى سنواته الجامعية... ونجاحه يتفوق في تعلم لغة الجسد وتشريح مفاتنه.

الأبواب الموصدة

انشغل بهجت حمدان بحياته الأوروبية المتحررة... واكتشف في نفسه لحولة تغري الفتيات وتسحر النساء... فلم يعد يقنع بواحدة منهن... إلى أن ساءت سمعته بين الأوساط الطلابية العربية..

ولما علم أبوه بنبأ رسوبه أصيب بخيبة أمل... وبرر له الابن أسباب فشله التي أرجعها إلى صعوبة اللغة الألمانية واختلاف الطقس وظروف الحياة.. فسكت الأب على مضض... وحذره من تكرار الرسوب مهدداً بأنه سيضطر إلى قطع المصروف عنه.

لكن الشاب العابث لم يبد رغبة بينه وبين نفسه في تغيير مساره الشائن... إذ استمر على حاله في المجون... حتى جاءت الامتحانات... ورسب للمرة الثانية.. وأخذت الجامعة بتقارير أساتذته التي تصفه بأنه سلبي لا يبذل جهداً يذكر في تحصيل العلوم فتم فصله... وأرسلت الجامعة بصورة من قرارها إلى والده بالقاهرة فصدم .. وكتب في الحال إلى ابنه يطلب منه الرجوع ليعاونه في أعماله التجارية...

فهل انصاع الابن.. ؟ وهل قبل وداع حياة التحرر هكذا بسهولة .. ؟

بالطبع كان الأمر شديد الوقع على نفسه، فهو لم يعد يتخيل كيف يرضى بالعيش في مجتمع القاهرة المغلق بعد ذلك...

كان مجرد التفكير في ذلك يؤرقه... ويدفعه لأن يقاوم رغبة والده في العودة .. فقد ألف الحياة الأوروبية بكل صنوفها وأشكالها.. وفي حرمانه منها الظلم والموت البطيء.

ومنذ تلك اللحظة ... اتخذ قراره بألا يعود إلى مصر ومقاومة تهديدات والده بإثبات ذاته من خلال الإنفاق على نفسه... وساعدته ظروف علاقاته المتشعبة في العمل بإحدى الشركات التجارية... وهيأ له راتبه حياة مجون لا تقل عما كانت عليه من قبل .. فداوم على البحث عن ملذاته ... وأصبح زبوناً دائماً ومألوفاً بشوارع شتافوس وشتراسة وشوانبخ حيث المومسات متراصات في الفتارين وعلى النواصي يساومن المارة.

وما إن هل عام 1955 حتى طرأ حادث جديد على حياته.. إذ تعرف بالحسناء "إنجريد شوالم" الألمانية الرقيقة وأحبها.. وبادلته الفتاة الحب بإخلاص وسعت لانتشاله من الفشل الذي يوجهه ... والحياة الرخيصة التي انغمس فيها.. وبعدما تزوجها حرصت إنجريد على تحفيزه لدراسة الهندسة إرضاء لأسرته في مصر...

هكذا وقفت زوجته إلى جواره لا هم لها سوى الارتقاء به لأجل حياة أفضل... فقد مرت سنوات قليلة على انتهاء الحرب العالمية الثانية ... التي خرجت منها ألمانيا مهزومة محطمة ... مقسمة .. وكانت بحاجة إلى كوادر علمية وفنية لإعمارها من جديد.. والدخول بها إلى دائرة التنافس الاقتصادي والصناعي.

لكن فتانا كان قد توصل إلى هدف جند كل حواسه لتحقيقه... وهو الإثراء بشتى الطرق ليكون من رجال المال والأعمال المشهورين... ولأنه بلا خبرة ... ولا تدعمه شهادات علمية .. فشل فشلاً ذريعاً في ان يكون إنساناً ناجحاً ومرموقاً.

وفي عام 1958 حصل بطرق ملتوية على شهادة في الهندسة الإنشائية .. قام بتوثيقها في السفارة المصرية وعاد بها إلى القاهرة ومعه زوجته... فأثلج صدر أبيه وغمره بالفرحة ..

أحبت إنجريد الأسرة الجديدة وعشقت جو القاهرة .. وسرعان ما تأقلمت مع العادات الاجتماعية وأصبحت جزءاً من نسيج الأسرة..

وأمام ضغوط أبويه وإلحاحهما المستميت... وافق بهجت على البقاء للعمل والعيش في القاهرة... وبمساعدة الأب التحق بوزارة الاسكان... وعمل في مشروع "الخمس سنوات" الذي جندت له الحكومة وقتذاك إمكاناتها الهائلة لإنجاحه.

كانت ظروف العمل الجديد تتيح لبهجت أن يغش ضميره... ويفتح يديه لتلقي المال الحرام... فعاودته من جديد أحلام الثراء التي تكسرت في ألمانيا... وأراد تحقيقها في بلده.. ذلك لأن راتبه الضئيل لا يمكنه من ارتياد المراقص... والظهور أمام زوجته بمظهر أعلى يقوف موارده..

لهذا عرف طريق الرشاوي مستغلاً مركزه الوظيفي... وتقرب كثيراً من أصحاب الشركات الأجنبية بالقاهرة... وأطلعهم على أسرار المناقصات والعطاءات التجارية فأغدقوا عليه بالأموال .. حتى فاحت رائحته بين الموظفين، واشتم فيه المسؤولون فساد الذمة ففصل من العمل .. وأغلقت في وجهه أبواب الحياة في مصر... فغادرها إلى لبنان يائساً ومعه انجريد الحزينة..

وفي لبنان أدركه الفشل في الحصول على عمل مناسب... فاقترحت عليه زوجته أن يعودا إلى ألمانيا حيث فرص العمل متوفرة هناك. لكنه رفض بشدة .. فهي لا تدري شيئاً عن شهاداته الدراسية المزورة التي لا يستطيع إبرازها في ألمانيا.

ومع احتدام الخلاف بينهما... حملت أنجريد حقيبتها غاضبة حانقة وسافرت إلى ميونيخ وحدها... بينما طار هو إلى باريس يمني نفسه بالمال الوفير... والباريسيات الفاتنات ذوات القدود المائسة والأنوثة والدلال.