إعدام اليهود العراقيين الستة

مقدمة

الجذور الأولى

يمكن للباحث المدقق أن يستخلص بسهولة، اختلاف منهج الجاسوسية الإسرائيلية في العراق عنه في سائر الدول العربية الأخرى. ذلك أن مخابرات إسرائيل ابتعدت تماماً عن اللجوء إلى جواسيس "غرباء" من داخل القطر العراقي... بل استثمرت – وبذكاء شديد – وجود الآلاف من اليهود العراقيين، في "تخريج" كوادر قادرة على تنفيذ أهدافها وسياساتها، مستغلة في ذلك تغلغلهم داخل نسيج المجتمع العراقي كله، من البصرة جنوباً، إلى الموصل شمالاً.

فمنذ قيام الدولة اليهودية، حرص حكام إسرائيل على كسب تعاطف يهود العراق، وبناء جسور من الود والتواصل بينهم لتحقيق هدفين أساسيين:

أولهما: لتشجيعهم على الهجرة إلى إسرائيل، لسد الفراغ الناشئ عن فرار السكان العرب بسبب المذابح الوحشية، وخلو قرى عربية بكاملها من سكانها.

ثانيهما: التجسس على العراق، جيشاً، وسياسة، واقتصاداً.

ولكي تضمن إسرائيل ولاء يهود العراق الكامل لها، والسعي إلى الهجرة إليها، عمدت إلى استخدام أساليب شيطانية ماكرة لإرهابهم، وتفجير بعض معابدهم، وقتل العديد منهم لإلقاء التبعية على السلطات العراقية، فنجحت بذلك فيما سعت إليه.

لقد كان اليهود في العراق لأحقاب طويلة خلت، ينعمون بالأمن والأمان، ويمارسون حياتهم وأعمالهم وطقوسهم في حرية بلا منغصات أو أحقاد، إلا أن خطط حكام إسرائيل، صورت لهم الحياة في العراق على أنها جحيم ما بعده جحيم... ورسمت في أذهانهم صورة مثالية للحياة في "الوطن" الجديد.

ولأننا لسنا بصدد دراسة تاريخ وأحوال اليهود في العراق، فإنه يلح علينا السؤال:

Ø     لماذا تتجسس إسرائيل على العراق الذي لا يشترك معها في الحدود؟ ولا يعد من دول الواجهة؟

وللإجابة على ذلك نقول: إن العراق يمثل بالنسبة لإسرائيل عدو مبين، ومطمع ثمين، فشل تيودور هرتزل – أبو الصهيونية – في تحقيقه، منذ كتب في 4 يوليو 1903 إلى عزت باشا العابد – رئيس الوزراء العثماني – يذكره بمقترحات سبق أن بعث بها إليه في مارس 1902، حول قروض يهودية للإمبراطورية العثمانية، مقابل تحقيق الوعد الذي قطعه على نفسه للمنظمة الصهيونية، بالسماح بإقامة مستعمرات يهودية في العراق، وفي لواء عكا، عن طريق فتح الباب أمام الهجرة اليهودية.

فمنذ تحركت العصابة الصهيونية العالمية فعلياً، بعد مؤتمر بال بسويسرا عام 1897، رسمت مخططات شرسة للسيطرة على الاقتصاد العراقي، وإحكام القبضة اليهودية عليه، بواسطة أعداد اليهود الضخمة في العراق، التي اتجهت الغالبية العظمى منها – كما في بقية الدول العربية والعالم – إلى العمل بالتجارة والاستثمار، والاستحواذ على أنشطة بعينها، تحكم من خلالها السيطرة على عصب الحياة الاقتصادية في الدولة، بامتلاك ناصية أمور التجارة والصرافة.

ونظراً للمناخ الآمن الذي يعيشون فيه، فكان أن تغلغلوا ببطء شديد داخل البنية الأساسية للحياة على العراق، وصاروا بالفعل جزءاً حيوياً مهماً في عجلة الاقتصاد.

وبرغم ابتعادهم عن الزراعة، إلا أنهم إمعاناً في الامتزاج والتداخل، اشتروا مساحات شاسعة من الأراضي، وشغلوا قرى وإقطاعيات بكاملها، حتى امتدت أراضيهم للمناطق الشمالية في نينوى، فتمركزوا بكثافة كبيرة في "دهوك" شمالي الموصل، وانتشر الآلاف منهم في بغداد. يمتهنون الحرف المختلفة، ويتبوأون المراكز الاقتصادية الهامة بصبر وسعي عجيب. بعض هؤلاء كانوا هم الركيزة الأساسية للجاسوسية الإسرائيلية في العراق.

من ناحية أخرى، بذلت إسرائيل جهوداً جبارة منذ قيامها، لكسر الطوق العربي المحيط بها، عن طريق الدخول في علاقات مصالح متشابكة مع إيران وتركيا، والدول الأفريقية الأخرى، لتطويق الدول العربية، وحصارها من الشمال والجنوب والشرق.

ففي الشمال والشرق، وهو ما يهمنا الآن، أسست المخابرات الإسرائيلية أواخر عام 1958، منطقة ثلاثية تسمى "ترايدانت TRAIDANT " بالاتفاق مع جهاز الأمن الوطني التركي "المخابرات"، والمنظمة الوطنية للاستخبارات "السافاك" في إيران. وبتوقيع هذه الاتفاقية، توفرت للموساد علاقات حميمة إضافية بهذين الجهازين، حيث نصت بنود الاتفاق على تنظيم تبادل مستمر للمعلومات، بالإضافة إلى اجتماعات شبه دورية على مستوى رؤساء الأجهزة الثلاثة. وأيضاً، نص الاتفاق الأصلي مع تركيا، على إضفاء الشرعية على الارتباط الاستخباراتي بين البلدين، على أن تقدم الموساد معلومات حول نشاط عملاء السوفييت في تركيا، وكذا العملاء الذين يعملون ضد الأتراك في الشرق الأوسط، مقابل إمداد الإسرائيليين بمعلومات حول ما يمكن أن يؤثر على أمن الدولة اليهودية من النوايا السياسية والعسكرية للدولة العربية، وحول نشاط وشخصيات عملاء "الجمهورية العربية المتحدة" – "هكذا في النص" – الذين يعملون ضد إسرائيل.

إن الغرض الأساسي للعلاقة الاستخبارية بين إسرائيل وتركيا، يكمن في تطويق العراق وسوريا من الشمال، وأيضاً، تطويق العراق من جهة الشرق، بإقامة علاقة وطيدة بالنظام في إيران.

هكذا عملت الدولة اليهودية على تنمية سياساتها مع الإيرانيين لمعاداة العرب، ودخلت في "عمليات" مشتركة مع السافاك الدموي منذ أواخر الخمسينيات، ودعمت أكراد العراق لزعزعة استقرار الحكم في بغداد.

ولكي ترتكز الموساد على أرض صلبة في إيران، قدمت للسافاك معلومات وافية من اتجاهات السياسة في العراق، والنشاط الشيوعي في البلاد العربية المؤثرة على إيران.

لقد تصاعدت علاقة التنسيق الاستخباري بين الجهازين، لتصل إلى القمة في منتصف الستينيات، خاصة بعدما ازداد التوغل السوفييتي في المنطقة العربية، مما اضطر شاه إيران لفتح الأبواب السرية المغلقة لرجال الموساد، وإسباغ صفة الشرعية على عملياتهم الاستخبارية ضد العراق، إذ جعل من المناطق المتاخمة للحدود العراقية نقاط انطلاق، ومراكز لتجنيد وتدريب الجواسيس العراقيين على اختلاف الملل والاتجاهات، بل وكانت توجد بهذه المناطق محطات استقبال لاسلكية للمعلومات المتدفقة من بغداد.

لكل ذلك، أمكن لضباط المخابرات الإسرائيليين، أن ينعموا بالأمن والانتشار والتحرك، بمعاونة ضباط من السافاك، فاستطاعوا تكوين شبكات جاسوسية خطيرة ومتشعبة، تمد الموساد بما يشبه خريطة سير العمل اليومي، وسجل للحياة المختلفة في العراق، كما تقوم بتنفيذ المهام والأوامر التي تكلف بها، لرسم خطط السياسة الإسرائيلية واستراتيجيتها لكل مرحلة.

إن أهم ما كانت تسعى إسرائيل إليه هو العمل على هجرة يهود العراق. لذلك، اعتمدت وبشكل أساسي على عملائها في بغداد لضرب اليهود أنفسهم، والقيام بعمليات إرهابية ضدهم، تشككهم في نوايا العراقيين، فيندفعون وبقوة إلى الهجرة ومغادرة مواطنهم الأصلية غير آسفين.

هذه كانت خطة الموساد ضد اليهود الآمنين، الذين استقروا وامتزجوا بالحياة بشتى صورها، حيث كان الإصرار على جلب اليهود يرتبط ارتباطاً قوياً بالرغبة العارمة في اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، وتشريده، إما في الداخل كما حدث لمسيحي قريتي "أقرت" و "كفر برغم"، وإما إلى خارج الحدود كما هو الحال بالنسبة للفلسطينيين النازحين إلى الدول العربية المجاورة، هرباً من المذابح الجماعية الإرهابية، التي اتخذها اليهود دستوراً لإقامة دولتهم.

لقد أرادوا "صهينة" فلسطين ونزع طابعها العربي عنها، وذلك بزرع المستوطنين الآتين من كل بقاع الأرض – ولا صلة بينهم إلا الدين ولا رابطة إلا العنصرية – مكان سكان البلد الأصليين.

لهذا السبب، لجأوا إلى الإرهاب الذي لم يقتصر على الشعب الفلسطيني وحده، بل تعداه ليشمل كل العرب، والبريطانيين، والأمم المتحدة، حتى اليهود أنفسهم . ولأن العشرات من القرى العربية خلت من سكانها، فكان المطلوب، والهدف، هو إعمار هذه القرى المهجورة باليهود الجدد.

لقد وقع على الاستخبارات الإسرائيلية عبء هذا الأمر.. ومن أجل ذلك، تأسست في العراق عام 1942 منظمة سرية عرفت باسم :"حركة الرواد البابليين"، مهمتها تعليم الشباب اليهود كيفية استعمال الأسلحة وصنع المتفجرات، فتكون بذلك منظمة مستقلة لها أسلحتها ومجندوها، ومستعدة للعمل في أية لحظة طبقاً لبرنامج محدد مدروس، إلا أن ظهور معارضة شديدة بين يهود البلاد العربية ضد الحركة الصهيونية، أدى لانزعاج قادة الفكر الصهيوني وأداة سياساته.

وخوفاً من انتشار موجة المعارضة، كان اللجوء للإرهاب هو أقصر الطرق وأفضلها لوأد أية أصوات مضادة، تعرقل مسيرة الاستلاب والاحتلال.

من هنا .. تحركت المخابرات الإسرائيلية سريعاً، وأوكلت إلى أحد عملائها في العراق مهمة تشكيل شبكة جاسوسية، تأخذ على عاتقها مسؤولية تهجير اليهود.

فماذا فعل العميل الإسرائيلي؟

إنها قصة عجيبة من قصص المخابرات والجاسوسية في العراق ... !!