يقول كلوت بك الطبيب الفرنسي، الذي كان في خدمة الحكومة المصريّة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، في حديثه عن المواصلات داخل القطر المصري في أيامه: (لا يوجد من المركبات بالقطر المصري إلا العدد اليسير. وإذا كان إستعمالها، هي وعجلات النقل غير شائع فيها، فما ذلك إلا لتعدد المواصلات بطريق الماء وسهولتها وقلة تكاليفها. وكانت المركبات وعجلات النقل مجهولة تقريباً من المصريين. إن قصارى ما يذكرونه من شأنها أن المركبة تلقاها إبراهيم بك أحد أمراء المماليك من فرنسا، وأنه كان لنابليون في أيام الحملة الفرنسيّة 1798-1802م مركبة يجرها ستة من الخيل كان يجوب بها أضيق شوارع القاهرة وبولاق، وأن المصريين كانوا يرمقونها بعين الإستغراب والدهشة. وكان سموّ الوالي أول من إستعمل المركبات بعد ذلك لنفسه ولحرمه، ثم تلاه إبراهيم باشا فجميع أفراد الأسرة الذين لم يلبثوا أن ألِفوا ركوب المركبات والإنتقال بها من مكان إلى آخر).

ويتابع كلوت بك كلامه قائلاً: (ولو لم يعط سمو الوالي بعض نظّار حكومته، وأركان دولته جملة من المركبات هدية إليهم، لما إنتشر فيما بعد إستعمالها، ولظل الناس جامدين على سابق إعتقادهم أن ركوب المركبات أصبح وقفاً على أعضاء الأسرة الحاكمة. ولم يمضِ زمن عقب ذلك حتى قام لفيف من كبار الموظفين بالنظّار في إقتناء المركبات، فبلغ عدد ما يشاهد منها بالقاهرة ثلاثين مركبة على إختلاف طرازاتها. أما الإسكندريّة فكان عدد المركبات فيها أكثر من ذلك إذ كانت ملكاً للقناصل الجنراليين وأكابر التجّار الأوروبيين الكثيري العدد فيها).

وهكذا يمكن القول بأن أول عربة شوهدت في مصر في الأزمنة الحديثة كانت تلك التي تسلمها إبراهيم بك، أحد أمراء المماليك في العقد الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي، والثانية كانت تلك التي إستعملها نابليون بونابرت عندما كان على رأس حملته على مصر، والثالثة كانت لمحمد علي باشا عزيز مصر في تلك الفترة.

وعليه فإن الحالة في سوريا ومن ضمنها مدينة بيروت، لم تكن تختلف عما كانت عليه الحالة في مصر والقاهرة إذ أن الشرق العربي كان يحاكي بعضه بعضاً آنذاك من حيث التخلف الحضاري والتقني.

وخلاصة القول، إن البلاد السوريّة، ومنها بيروت ولبنان، أصابت حظاً وافراً من النهضة التي بعثتها الحملة الفرنسيّة في الشرق العربي، فلقد أنبثقت هذه النهضة أولاً في مصر نفسها ثم ما لبثت أن تأثرت بها بيروت خلال سنوات قليلة، وإن هذه المدينة عاشت في النصف الأول من القرن التاسع عشر مرحلة تطور جذري شمل سائر مرافقها العامة، وكذلك أسلوب الحياة في المجتمع البيروتي وذلك نتيجة للتغيير الحضاري الذي مرت به أوروبا وهو التغيير الذي إنسحب أثره الإيجابي الفعّال على بلدان الشرق العربي سواء من خلال الحملات العسكريّة أو من خلال الإتصالات التجاريّة التي قام بها الأفراد من الغرب إلى الشرق أو عن طريق المبادرات العلميّة التي تمثلت بالبعثات الشرقيّة للدراسة في الغرب أو بالبعثات الغربيّة التي ترسل بها المبشرون الأجانب لنشر مذاهبهم الدينيّة في الشرق.