عندما تكلمنا من قبل عن بدايات التعليم بين المسلمين في القرن التاسع عشر، قلنا بأنه كان في (الكتّاب) وهو ما كان في ذلك الحين يُسمى (الخوجاية) أو (الشيخة) نسبة إلى الخوجا وهو والشيخ في معنى واحد، أولاهما بالتركيّة، والثانية بالعربيّة، والآن نقول إن أكثر الكتاتيب كانت بمثابة مدارس قرآنيّة لغاية تعليم القرآن فيها. وكان يعلّم فيها ويديرها العميان من الشيوخ.الذين كانوا يعرفون الناس بالبصراء، ذلك أن العرب تُسمي الأعمى بصيراً من باب التفاؤل والكلمة نفسها تحتمل المعنيين، وذلك معروف في اللغة العربيّة.

وكثيراً ما كان الموسرون من أبناء بيروت يستحضرون المشايخ البصراء إلى منازلهم ليعلموا أولادهم لا سيما إذا كان هؤلاء من البنات وذلك مراعاة لتقاليد ذلك العصر التي كانت تقضي بعدم ظهورهن في خارج بيوتهن. من هؤلاء المشايخ، شيخ من آل شاتيلا كان يتردد على بيوت بعض الكبراء وهو على أتان ٍبيضاء، وكانت هذه الأتان تقوده بدلاً من أن يقودها. ومن الطريف أنها كانت تعرف البيوت التي يقصدها فتقف بنفسها عند هذه البيوت دون أن تخطئ أمكنتها، حتى إذا أنهى عمله عاد فامتطاها لتسير به وتقف مرة أخرى عند البيت المقصود، وهكذا، ولقد إشتهر أمر هذا البصير وأتانه البيضاء بين البيروتيين الذين كانوا يبدون دهشتهم من عمل هذه الأتان التي كانت دليلاً لا يخطئ لصاحبها. ولعل بعض الناس يتساءلون اليوم عن سر إختيار المشايخ للحمير البيض في تنقلاتهم فنجيبهم أن هذا الإختيار كان بسبب حرص هؤلاء المشايخ على تقليد النبي صلّى الله عليه وسلم الذي كانت له أتان بيضاء اللون وهي التي جاءته من المقوقس (المصري) وكان إسم هذه الأتان (اليعفور).

ومن الذين إشتهروا من أصحاب الكتاتيب في أواسط القرن التاسع عشر الحافظ الشيخ إسماعيل الطنطاوي الذي إمتاز كثير من تلامذته على أقرانهم أبناء سائر الكتاتيب، عقلاً ونباهة وأخلاقاً، وغيره من العلماء المجوّدين أمثال الشيخ النصولي، والشيخ الدسوقي، والشيخ محمد القبّاني (المصري) الذي كان يعلّم تلامذته في جامع الباشورة (البسطة التحتا اليوم) وكان ـ كما يقول الشيخ عبد القادر القبّاني ـ حسن الأسلوب في التعليم العملي. ومنهم الشيخ محمد العبْد، الذي كان شديداً على تلامذته، وعندما توفي خلفته بنته في كتّابه، وبعدها تسلّم الكثّاب إبنها الشيخ جمعة الذي كان يضّم الجنسين من الأطفال: الصبيان والبنات.