ذكرنا من قبل أن التعليم في المدارس على الطريقة العصريّة بدأ على يد الإرساليات الأجنبيّة التي كان همّ رجالها الأول التبشير الديني عن طريق التعليم. وتبعهم بعد ذلك بعض النصارى المحليين الذين أنشأوا المدارس الخاصة بهم، ثم سار على آثارهم الولاة العُثمانيون الذين إفتتحوا المدارس الرشيديّة والإعداديّة لتخريج المؤهلين لخدمة الجيش أو الدوائر الحكوميّة. أما المسلمون البيروتيون فلم يبدأوا بفتح المدارس على الطريقة العصريّة إلا في أواسط القرن التاسع عشر، وكان ذلك بهمة الشيخين محمد الحوت وعبد الله خالد، والذي حمل هذين الشيخين الفاضلين على التفكر بإنشاء المدارس بمفهومها الحديث وعدم الإكتفاء بالتدريس في المساجد أن بعض أبناء العائلات العريقة جاء إلى الشيخ عبد الله خالـد ولفت نظره إلى خطر وقـوع أولادهم تحت تأثير المبشّرين في المدارس الأجنبيّة الذين كانوا يستغلون وجود هؤلاء الأولاد في مدارسهم لتحويلهم عن الديانة الإسلاميّة إلى الديانـة النصرانيّة، وبعد أن إستمع الشيخ المذكور إلى هذه الملاحظة بحضور بعض زملائه العلماء إستصحب عدداً من هؤلاء العلماء ودخل بهم على والـي الإيالة ولفتوا نظره إلى هذا الأمر وما يتولد عنه من سوء المغبة والخطر على دين الناشئة المسلمين، فاهتم الوالي بما سمع وإتصل بإسطمبول طالباً الترخيص لمسلمي بيروت بتأسيس مدرسة يتعلم فيها أبناؤهم ويستغنون عن المدارس الأجنبيّة. فاستجابت إسطمبول لهذا الطلب، وعلى الأثر عمد الشيخ عبد الله خالد إلى إختيار جامع النوفرة لهذا الغرض وإتخذ من بعض الغرف الواقعة في الجهة الشرقيّة من هذا الجامع مكاناً للمدرسة التي كانت الأولى من نوعها عند مسلمي بيروت. وكان ذلك في أواسط القرن التاسع عشر.

ويقول الشيخ عبد القادر القبّاني رحمه الله إن جهود الشيخ عبد الله خالد وإخوانه العلماء لم تسفر عن فتح مدرسة جامع النوفرة وحسب، بـل إن هذه الجهود أسفرت كذلك عن مبادرة الحكومة العُثمانيّة إلى فتح المدرسة الرشيديّة أيضاً وقد أتينا على ذكر هذه المدرسة من قبل.

◄أوائل المعلمين الذين تولوا التدريس في هذه المدرسة

إن الجهود التي قدمها في حقل التعليم المسجدي الشيخان محمد الحوت وعبد الله خالد قد أعطت ثمارها إذ هيأت للبلد مجموعة من الأساتذة الذين كانوا نواة للتعليم في مدرسة جامع النوفرة وهـي المـدرسة التي حضنت ناشئة المسلميـن فـي بيروت وحصنتهم من الوقوع في شرك الإرساليات الأجنبيّة التي كانت تتخذ من مدارسها ذريعة لغسل أدمغة هؤلاء الناشئة من دينهم وتاريخهم وتراثهم الوطني.

وكان الرعيل الأول من المعلمين الذين تعلموا في المدرسة الشيخ عبد الباسط الفاخوري والشيخ عبد الرحمن الحوت والشـاعر عمـر الأنسـي والشيخ عمر خالد، وإشتمل التعليم آنئذ على القرآن الكريم حفظاً وتلاوة وتجويداً وعلى اللغة العربيّة كتابة وقراءة مع ما يتصل بها من مواد الصرف والنحو وعلوم العـروض والقوافي وكذلك مواد الحساب والجغرافيا والتاريخ.