في سنة 1882م قام الجيش المصري بمحاولة إنقلاب ضد الخديوي مُحَمّد توفيق باشا قادها ضابط إسمه أحمد عرابي باشا وأتُّهم الإمام الشيخ مُحَمّد عبده وبعض العلماء والأعيان بالتحريض على هذه المحاولة التي باءت بالفشل وأدت إلى إحتلال الجيش الإنكليزي لمصر بحجة حماية السراي الخديويّة ومحاكمة أصحاب هذه المحاولة من العسكريين والمدنيين ورجال الدين والحكم عليهم بعقوبات مختلفة. وكان نصيب الإمام الشيخ مُحَمّد عبده الحكم عليه بالنفي خارج القطر المصري والإقامة الجبريّة في ولاية بيروت. قال عبد الباسط فتح الله وهو يتحدث عن سيرة الأستاذ الإمام في بيروت: (... ودَرَى بمقدم الأستاذ الإمام نفر من أعضاء تلك الجمعيّة النبهاء فأقبلوا عليه فعمَّم عبق فضله وبهرهم نور علمه. وإذا كانوا بحاجة إلى أستاذ يدرّس في (المدرسة السلطانيّة) بعض العلوم الدينيّة والعربيّة على طريقة تلائم روح العصر الذي يفيض على الطالب باستيعاب معلومات جمّة في أوقات وجيزة، ذكروا له حاجتهم ورغبوا إليه أن يتسلى عن غربته بخدمة ملِّيَّة هو أعرف الناس بجليل فائدتها، فلبى دعوتهم ودخل المدرسة في مبتدإ سنتها الثالثة عام 1303هـ. ولم يكن فيها من تلك العلوم إلا مبادئ النحو والصرف مع شيء من فقه العبادات وقوانين الدولة. فوضع جدولاً جديداً للتدريس أخذ على عاتقه منه علوم التوحيد والمنطق والمعاني والإنشاء والتاريخ الإسلامي والمعاملات من الفقه الحنفي وذلك للصف الأول والثاني، حتى لقد كانت تستغرق دروسه في بعض الأيام ساعات النهار بتمامه... وكانت دروسه كلها على نحو ما ذكره في مقدمة (رسالة التوحيد) وأماليه يلقيها على الصفوف كلٌّ بحسب حاله وإستعداده في أسلوب لا يصعب تناوله وإن لم يعهد تداوله، ما عدا فقه المعاملات فإنه كان يقرأ فيه كتاب (مجلة الأحكام العدليّة) التي كان يُحكم بموجبها في المحاكم العُثمانيّة.

ثم إن الشيخ الإمام لما دخل المدرسة السُلطانيّة أدخلها في طور جديد كما كان شأنه في عامة أعماله، يدخل مرؤوساً فيكون في الواقع رئيساً، كما يقول الشيخ مُحَمّد رشيد رضا في كتابه الذي ألّفه في سيرته. وأصلح هذا الإمام العلامة إدارة المدرسة بالإتفاق مع مديرها الشيخ حسين أفندي الجسر (الطرابلسي) ووضع قانوناً جديداً للدروس. وكان يدرِّس مادة الإنشاء بنفسه ويكلف تلاميذ هذه المادة حفظ شيء من نهج البلاغة المنسوب للإمام علي بن أبي طالب، وديوان الحماسة للبحتري، وكتاب الألفاظ الكتابيّة ويشرح لهم ما فيها. ولما تفتقت أذهان التلاميذ وارتقت مداركهم قرأ لهم في علم الكلام قسماً من إشارات إبن سينا وكتاب تهذيب المرام في تحرير المنطق والكلام.

◄أول محاضرة علميّة أُلقيت في المدرسة السلطانيّة

وفي أثناء الإحتفال بنهاية السنة الدراسيّة قام أحد الحاضرين وطلب من الشيخ الإمام مُحَمّد عبده أن يحاضرهم في موضوع يختاره هو بنفسه ويلقيه عليهم إرتجالاً فاستجاب للحال وألقى في الحضور محاضرة قيّمة بعنوان (علة تأخر الشرق مع وجود بعض الأسباب لتقدمه في الظاهر).

هذا، وكانت للإمام المذكور على المدرسة السلطانيّة غيرة كبيرة، وإذا أتفق له أن مرَّ بها ليلاً لا يغادرها دون أن يدخلها ويتفقد شؤونها ـ وكانت ذات نظام داخلي ـ حتى أنه، حرصاً منه على الإقامة بقربها، ترك منزله في (برج أبو حيدر) وسكن في منزل بالقرب منها في محلة (زقاق البلاط) وذلك ليسهل عليه التردد عليها كلما دعت الحاجة آناء الليل وأطراف النهار.

والطلاب الذين تخرّجوا من المدرسة السلطانيّة على يد الشيخ الإمام مُحَمّد عبده كانوا النواة التي تفتحت منها براعم النهضة الثقافيّة والقلميّة في بيروت وأتت ثمارها الجنيَّة فيما بعد بسائر أنحاء لبنان.