هنا إذاعة نفاقستان ... من بيروت !

 

للكاتب و الصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المرافئ القديمة}

في إفتتاحية مجلة المستقبل بتاريخ 1974/7/20

الذين يتابعون إذاعات النقل الخارجي من إذاعة لبنان من بيروت، لن يصدق ما يروى لهم ... لأن ما يحدث يقرب فعلاً من الخيال.

مرة، وبعد أن بحّ صوت المذيع ... إذاعة لبنان من بيروت وهو يصف حفلة أستقبال أمير الكويت، إنتهت الحفلة، وتفرّق المستقبلون... ولم يبق في المطار إلا المذيع وحده، وحاول الإستنجاد {بالأستديو} في الإذاعة ليقفل الميكرفون ففشل، فإذا به ينظر إلى الطائرة التي جاء فيها الأمير ويبدأ بالحديث {على الميكرفون} معها قائلاً {وبلا مبالغة} : أيتها الطائرة الجاثمة على أرض المطار، يا من حملت بين جوانحك حبيب لبنان، أهلاً بكِ {للطائرة} في وطنكِ الثاني، أيتها الطائرة الغالية، هل تعرفين من حملتِ إلينا ؟ هل تعرفين من كان بجوفك ؟ رويدك دائماً أيتها الطائرة... رويدك دائماً فعندما تأتين إلينا تحملين رجلاً كبيراً، حبيباً .... عزيزاً عزيزاً ....

ولولا إنقاذ الأستديو للمذيع في اللحظة الأخيرة، وإغلاق الميكرفون لكان قام من مكانه ... ليقبل الطائرة.

وليت الأمر يقتصر على ما يقوله المذيع، وإنما يتعداه إلى جميع البرامج والأغاني التي تذاع يوم سفر أو استقبال أي ضيف من ضيوف لبنان، في الأسبوع الماضي، عندما أقلعت طائرة أمير الكويت من المطار .... كانت الأغنية التي بثّت من الإذاعة مباشرة هي أغنية {يا بو عيون عسليّة ... تاركنا لمين ؟؟؟!!!}.

قبل أسبوعين حضر الرئيس فرنجيّة افتتاح المؤتمر الكشفي العربي في البترون، وكانت الإذاعة تنقل وقائع الإحتفال ... وبينما كان الرئيس فرنجيّة يدخل مكان الإحتفال إنقطع التيار الكهربائي، وإذا بالمذيع يقول : الخبراء الفنيون توزعوا لإصلاح العطل في التيار الكهربائي ... ولكن {وأرتفع صوته} ماذا يهمنا من الليل، ماذا يهمنا من الظلام ما دام بيننا شمس ساطعة ... ما دام بيننا شمس تبدّد الليل المدلهم، شمس فخامة الرئيس سليمان بك فرنجيّة، إنها تبدّد الظلام، وأكاد من هنا، من مكاني أشعر بحرارتها.

وظل المذيع {لا فض فوه} يتحدث عن الشمس وحرارة الشمس لمدة دقائق {حتى قيل أن بعض المدعوين للمؤتمر وضعوا على رؤوسهم مظلات لإتقاء حرارة الشمس}.

قبل ذلك بشهر كان المذيع {ماغيره} ينقل وقائع الإحتفال بتخريج دفعة جيدة من الضباط عندما بدأ المطر يهطل فإذا به يقول : أفراد الجيش اللبناني الباسل يتلقون زخات المطر برؤوس شامخة، ما همهم هؤلاء الأبطال من المطر ... إنهم يتحدونه بصدورهم.

هذه أمثلة بسيطة ونماذج صغيرة مما يستمع إليه الناس كل أسبوع بل كل يوم أحياناً من الإذاعة.

والكلام نفسه يتكرر مع كل ضيف، وفي كل مناسبة.

ونشكر الله أن الضيوف أنفسهم لا يستمعون ـ وفي غمرة الإستقبال الرسمي ـ إلى هذا الكلام، لأنهم ـ لو فعلوا ـ سيشعرون حتماً أن المقصود بمثل هذا الكلام ليس المديح ولكن الهجاء.

فالمبالغة في المديح هي تماماً كالمبالغة في الذم ... ومن منكم يستطيع أن يقنع حاكم رأس الخيمة مثلاً {الذي زار لبنان أيام عهد الرئيس حلو} أن المذيع لم يكن يذمه عندما وصفه {بالمجاهد الكبير ... وخالق الدولة العظمى} {بالمناسبة عدد سكان رأس الخيمة 2000 نسمة !!} مما جعل أحد السياسيين يتصل بالإذاعة اللبنانيّة يومها ليقول : ماذا تركتم للرئيس عبد الناصر إذا جاء لزيارة لبنان ؟

ولكن هل يلام المذيع إذا هو بالغ ؟ ألم يستمع إلى وزيره {فهمي شاهين} في العام الماضي وهو يصف ذكرى 17 آب/أغسطس بأنها {مولد وطن}!! ولم يخطر ببال أحدهم أن يسأله : أين كان هذا الوطن من قبل ؟ وحتى ـ استطراداً ـ ما ذنب فهمي شاهين إن هو تملق بعد أن سمع بقصة الوزير الكبير الذي وقف في مجلس الوزراء ليقول للرئيس شارل حلو: يا صاحب الفخامة إنني أرى في محياك ملامح القديسين، وصدق الأنبياء والمرسلين !!

... حتى للنفاق هناك أصول وتقاليد، والمنافق الجيد هو الذي يعرف كيف ينافق بدون أن يكون هذا النفاق ممجوجاً ويدعو إلى التقيؤ.

أما هنا، في لبنان، بلد الـ {هالكم أرزه العاجقين الكون} فقد أصبح كل من يعمل في مهنة الإعلام يضطر في كثير من الأحيان أن يهاجم الناس، لأنه لو مدحهم فسيكون كمن شتمهم ...

أليس المديح الرسمي {اللبناني} هو أقرب إلى الشتمية منه إلى المديح ؟.