خذونا ... إلى بيروت

 خذونا ... إلى بيروت

 

للكاتب و الصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المرافئ القديمة}

في إفتتاحية مجلة المستقبل بتاريخ1977/3/26  

الظاهرة المميزة في تاريخ العرب {من الجاهلية إلى الأندلس فبيروت} أنهم يزدادون تعلقاً بوطنهم، وحباً له وشوقاً إليه وشغفاً به، كلما ازدادوا إبتعاداً عنه.

كان لنا على بيروت ألف شكوى وألف مأخذ، فإذا بيروت تصبح ــ وهي أنقاض ــ زهرة العواصم.

كانت باريس، بالنسبة لنا، حلماً وأمنية، فإذا بالحلم ينقلب إلى كابوس عندما شعرنا بأنها قد ــ فقط قد ــ تصبح بديلاً عن بيروت.

أجمل ما كتبه العرب كان في البكاء على وطن ضاع، أو أثناء غربة عن وطن قهر.

أقفر من أهله ملحوب فالقطبيات فالذنوب

لعبيد بن الأبرص، إلى امرئ القيس في :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل

إلى إبن الرومي في رثاء البصرة بعد أن أحرقها الزنج عندما قال :

لهفي عليك أيتها البصرة لهفاً كمثل وقد الضرم

إلى الأندلسي {أبو البقاء الرندي} في قصيدته الشهيرة والتي يقول فيها:

أتى على الكل أمر لا مرد له

حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا

     إلى ... طبعاً :

جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل في الأندلس

وعندما قررت هذه المجلة {الهجرة} كان أول عنوان اخترناه هو عنوان هذه الصفحة : {من دفتر الوطن} وافتتحها الزميل إبراهيم سلامة بمرثيته الساخرة : {خذوني إلى يارافان} وكأنه بذلك يطمئنا إلى أن مصيرنا ــ بعد أعوام طويلة ــ سيكون كمصير {سنكري انطلياس}، ونردد في أزقة باريس : خذونا .. إلى بيروت.

حتى كتابة هذه السطور نحن نردد : خذونا إلى بيروت، لا في الأزقة ولا في الشوارع االعريضة، نرددها ونحن في عزّ اليقظة، ونحن نعي كل كلمة نقولها، ونحن نكرر مع العرب ومع العالم : لا بديل عن بيروت.

إن أمطرت تذكرنا صحو بيروت

وإن بردت اشتقنا إلى دفء بيروت

وإن سهرنا هزّنا الحنين إلى بيروت

وإذا سبحنا قلنا : أين شواطئ بيروت

والجبل، إنه في خيالنا كلما رأينا شجرة خضراء أو زهرة، أو حتى حادث سيارة.

نتلوع  ونحن نتذكر {عجقة السير}، وبوليس السير... وأضواء السير.

تكتشف فجأة أن دنياك، الحقيقيّة هي مجموعة من الأشياء الصغيرة تبدأ ببائع الصحف في الصباح وتنتهي بالعشاء عند {العجمي} في آخر الليل.

تبيع كل أوروبا في سبيل جلسة مع صديق، أو {دسكة} مع رفيق، أو نسمة وأنت في طريقك من العمل إلى المنزل، ومن المنزل إلى العمل.

سكرتير التحرير شكري نصر الله أصدر قراراً الأسبوع الماضي بأن أكتب هذه الصفحة، وأن أكتب بالذات عن مصاعب العمل في باريس.

كل مصاعب العمل التي أرادني أن أكتب عنها لا شيء أمام الغربة، الغربة ذاتها قاتلة ــ بدون مصاعب ــ فكيف إذا اقترنت بقوانين تجهلها، وعادات لا تعرفها، وأناس لا تفهم عليهم ولا يفهمون عليك، ومدينة أنت فيها رقم صغير، وقارة بلا قلب.

العزاء الوحيد أن هذه الأسرة الصغيرة {أسرة المستقبل} تشعر بأنها تعمل من أجل االوطن. وتساهم ــ ولو من بعيد ــ في بناء الوطن.

وقد يكون من المفيد أن نعيد الآن ما كتبته في أحد أعداد {الصفر} عن صدور المجلة إلى القراء...

هذه المجلة ولدت في الغربة ...

ولكنها ولدت من أجل الوطن.

وهي إذ تصدر من باريس، وطن الحرية، فإنما تصدر لإيمانها الملتزم بقدسية الكلمة المسؤولة، الكلمة التي تساهم في بناء الوطن ... لا هدمه.

كلام كثير قيل عن الحرية في الوطن العربي.

وكلام كثير كتب عن الحرية في الوطن العربي.

وكلام كثير سيقال وسيكتب.

لكننا هنا، في هذه المجلة، ما توسلنا الصدور من باريس إلا لقناعة ثابتة بأن الحرية، والحرية الصحفية، والحرية الصحفية المسؤولة بالذات، إنما تشكل سياجاً للوطن، يقيه العثرات، ولا تشكل مدفعاً يصوب إلى صدره.

.... والدروس من لبنان لا تزال مثخنة بالجراح والدم والدمار، والدرس الأول الذي تعلمناه من لبنان هو ببساطة : كيف نبني وطناً، وبالكلمة، سيقال بعد سنتين إنها كانت للوطن سلاحاً له، ولم تكن سلاحاً عليه.