في مسألة المهنة أيضاً ! 

 

للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {آخر النهار}

نشر هذا المقال في صحيفة النهار بتاريخ 28/10/1995

زمان {قبل الكومبيوتر} يوم كان لكل حرف مقياس، كنت تكتب عدداً معيناً من الكلمات، وتعرف سلفاً أنها تكفي للمساحة المخصصة لمقالك.

اليوم، حيث يصغّر الكومبيوتر الحرف ويكبّره ـ كما تشاء ـ فأنت خاضع لحكم الإعلانات، ولذلك كان من المفروض على {النهار} أن توزع الأسبوع الماضي، نظارتين طبيتين مع كل عدد من أعدادها، كي يتسنى للقارئ قراءة ما كتبناه بعنوان {في مسألة المهنة}.

وفي مسألة المهنة :

ففي الخمسينيات قرر الأستاذ فيليب تقلا أن يصبح زميلاً لنا، فاتفق مع المرحوم الأستاذ حنا غصن على إصدار جريدة {الديار} (التي كان يملكها) معاً. وكنت في عداد المحررين.

ومنذ بدأت الكتابة وأنا أهوى وضع عشر نقاط بعد كل كلمة {وأحياناً قبلها}، ولفتت هذه الظاهرة الأستاذ فيليب ـ أمد الله بعمره ـ فاستدعاني إلى مكتبه، وما إن جلست حتى قال لي: بتسمح {نستعير} كم نقطة من مقالك لاستعمالها في مقالي، فقد أبلغت إليَّ المطبعة أنه لم تعد هناك نقاط عندها لمقالي بعدما تمَّ صف مقالك {كانت الجريدة يومها تصف باليد}.

ثم استرسل يشرح لي أنه يجب أن يكون لكل نقطة معنى، فالنقطة الوحيدة بعد الكلمة تعني إنتهاء المعنى، والنقطتان تعنيان ... ثم الثلاث والأربع إلى آخره.

وعلى رغم اقتناعي بكلام الأستاذ فيليب، إلاّ أنني لم أتوقف عن رش النقاط في كل مقال أكتبه.

تجربتي في {الديار} بمعزل عن التنقيط، تجربة لن أنساها، فقد أستقطب لها الأستاذ فيليب الكتّاب الكبار وعلى رأسهم الأستاذ الكبير أميل خوري، والصحافيين الكبار والزملاء الواعدين {وكنا منهم}، ومع ذلك بقي توزيع الصحيفة محدوداً، على رغم أن الشريك حنا غصن كان ينفرد كل يوم بـ {مانشيت} محليّة مهمة وخطيرة ومثيرة، تكفي وحدها لبيع أرقام كبيرة..

هذا في الوقت الذي كانت جريدة كـ {التلغراف} التي يحررها الزميل الراحل نسيب المتني تقريباً وحده، تكاد تختفي من السوق بعد صدورها بقليل.

ومن يومها إلى اليوم، وأنا أسأل نفسي: ما هي {الكيمياء} التي تشد القارئ إلى جريدة ما، وما الذي يجعله يبتعد عنها ؟

أشك في أنني أعرف الجواب الكامل حتى الآن، على رغم أنني توليت إصدار مجلات عدة ورئاسة تحريرها، كانت آخرها {المستقبل}.

وأيضاً الشيء بالشيء يذكر في لبنان، أعني السوق المحلي، لم تبع مجلة في تاريخ الصحافة اللبنانيّة بقدر ما باعت {الحوادث}، يوم كان يصدرها المرحوم سليم اللوزي، وكنت رئيس تحريرها قبل أن أصدر {المستقبل}، وفي استطاعة المدير العام لشركة التوزيع اللبنانيّة الصديق فؤاد تويني أن يعطي شهادة بذلك.

كان عدد المحررين في {الحوادث} يومها لا يزيد عن عدد أصابع اليدين، ولم يكن لها مراسلون ولا من يراسلون، وطبعاً لا مكاتب في أي مكان، وكانت تحرر من الغلاف إلى الغلاف في بيروت، ومع ذلك كانت أرقام مبيعاتها مع الباعة المتجولين من دون المكتبات وأكشاك الصحف وفي بيروت فقط ما يقارب الـ 25 ألف نسخة أسبوعيّاً، وهو رقم لم تكن تطبعه ولا تصل إليه أربع أو خمس مجلات مجتمعة.

ما هي الكيمياء ؟

لا أزال، حتى اليوم، أعجز عن الإجابة الكاملة.

إن هذه {الكيمياء} لا تخضع لمعادلة محددة، أو {روشتة} معينة، وإلا كان جميع {هواة} إصدار الصحف والمجلات درسوها وطبقوها.

وهي تماماُ كالمعادلة التي تجعل القارئ يقبل على قراءة مقالات كاتب معين ويرفض أن يقرأ لكاتب آخر، على رغم أن {الاثنين} بذلا مجهوداً مماثلاً في جمع المعلومات واختيار الموضوعات، فالموضوع واحد والمعلومات واحدة، والفكرة هي هي، فإذا كتبها كاتب معين قرأت له، وإذا تناولها كاتب آخر عزفت عنه.

في أميركا ـ بطولها وعرضها ـ لم تصدر مجلة سياسية ناجحة منذ عشرات السنين بعد {تايم} و{نيوزويك}، وهناك أيضاً يسألون : ما هي المعدلة ؟

أخيراً، قبل أسابيع أصدر إبن الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي {جون جونيور} مجلة سياسية وهو يعتقد أنه يملك أسرار {المعادلة}.

نرجو التوفيق له، ولك المدعين أنهم يملكون أسرارها فقد توقفنا عن إصدار المجلات منذ سنوات !.