بدعوة من البلدية

 للكاتب والصحفي  الأستاذ سمير عطا الله 

ذهبت الى مسقط من اجل محاضرة عن الاوروبيات اللاتي شغفن بالشرق وبالصحراء. ولم يكن الداعي وزارة الاعلام او الثقافة او كلية التاريخ في الجامعة، بل بلدية مسقط!

وعندما اتصل بي الاستاذ محمد الحجري قبل ثلاثة اشهر يسألني اذا كان ممكناً ان اشارك في مهرجان مسقط السنوي، قلت له انه سوف يصعب عليَّ في برنامج عملي الحالي ان اعد محاضرة تليق بالمهرجان وأن اسافر وان وأن، ولكنني سوف افعل لسببين: الاول لكي ارى اين اصبحت مسقط، والثاني من اجل ان التقي صديقي الاستاذ عبد العزيز الرواس، وزير الاعلام السابق.

عندما وصلت الى مسقط ابلغت ان المحاضرة في موعدها، ولكن الرواس يرافق السلطان قابوس في جولته السنوية على المناطق، وهم الآن يخيمون قرب مدينة نزوى على بعد ساعتين من العاصمة، وبما انني مسافر في اليوم الثالث فقد يكون من الصعب تمضية اربع ساعات على الطريق.

قلت ابدا، فالطرق المؤدية الى الاصدقاء القدامى لا تطول. وقد شعرت بارتياح لأنني قمت بالرحلة. اولاً متعة الحديث مع الرواس وجولات الافق السياسي مع واحد من اصحاب احدى ابرز التجارب السياسية في العالم العربي، وثانيا الجولة في هذه المدينة التاريخية المحاطة بالجبال البركانية الشاهقة، مثل جميع المدن والقرى والطرقات والواحات في عمان. فالجبال الماردة هنا مثل البحر والعدو في خطبة طارق بن زياد الشهيرة: اما امامك او وراءك.استعاد عبد العزيز الرواس، ونحن في هدوء هذه الوادي الفسيح، ذكرى ثلاثين عاماً من العمل السياسي، يوم بدأ السلطان قابوس في اجراء المصالحة الوطنية وفي اخراج عمان من العصور الوسطى، وروى كيف عاد اللاجئون والهاربون بالالاف.

وكيف خرجت عُمان في برهة قصيرة من فم الصراع بين الشرق والغرب وكيف بدأت عملية الدخول في العصر.وقلت له من يصدق ان عمر مسقط الحديثة هو ثلث قرن فقط؟ ومن يصدق انه ليس هناك كوخ واحد او مشهد فقر واحد في الطريق من مسقط الى نزوى؟ وقلت للرواس، لم اكن افكر طوال الطريق في ما ارى امامي، بل كنت افكر في العراق الذي تبلغ ثرواته الطبيعية ومداخيله عشرات اضعاف ما تملك عُمان، ومع ذلك فان معظم بيوته من الطوب.

وفي ثلاثين عاما بلغ عدد المنفيين العراقيين اربعة ملايين شخص في حين جعل السلطان قابوس من المنفيين وزراءه ورجال ادارته.

لكي يعرف المرء ما معنى التجربة العمانية يجب ان يذهب الى مسقط. ولولا حرارة 24 درجة في فبراير لخيل اليك انك في احدى مدن سويسرا.

وربما تكون مسقط المدينة الوحيدة الاكثر نظافة من مونتي كارلو. وقد لا تكون هناك مخالفة واحدة في عمليات البناء، او مخالفة سير واحدة ايضا.

وبالنسبة الى قادم من بيروت لا تبدو مسقط من هذا العالم. فلم اسمع زموراً واحداً حتى في الازدحام امام مدخل المطار، ولا شتيمة ايضا، ولم ار سيارة تحاول تسلق السيارة التي امامها.

كان في بيروت ايام طفولتي حديقة عامة واحدة هي حديقة الصنائع التي لا تزيد مساحتها على مساحة دار للسينما. وفي كهولتي لا تزال حديقة الصنائع هي حديقة بيروت اليتيمة.

ولا اعرف كم حديقة في مسقط. لكن التلفزيون استضافني في استديوهاته في {الحديقة الطبيعية}. وكان فيها حوالي مائة الف شخص. وكان فيها اناس على وجوههم علامات الرضا. ولم يكونوا يتدافعون او يتعاركون او يتشاتمون. ولم يكونوا يتجادلون في السياسة.

وقد سألت محمد الحجري، كيف يقيس مسافة المسيرة التي قطعتها عمان! اجاب: {لا ادري على وجه الضبط، لكنني اذكر انه عندما ولدت العام 1963، كان كل مولود تكتب له الحياة في عُمان، معجزة، كانت المواليد يلفظون انفاسهم بمجرد رؤية الحياة، كذلك كان الامر قبل اربعين عاما}.