مَوسِم الهِجرَة 

                             

                      

للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المقالات الغاضبة}

أبواب السفارات الغربيّة، في أكثر من عاصمة عربيّة ... وخاصة بيروت، تشبه هذه الأيام دكاكين البقالة أيام الحرب، أو محطات البنزين أيام أزمة النفط، فالطوابير تصطف أمامها من الفجر حتى ساعة الإغلاق، كل يطلب {فيزا} ... للهروب من الوطن.

ومكاتب الهجرة في عواصم الغرب، تكاد تصبح كأبواب السفارات في عواصم العرب ... فالعرب يبحثون اليوم عن جنسيات جديدة، جوازات سفر جديدة، يستبدلون بها القديم، خوفاً من أن يصبح القديم مثل جواز السفر الروسي بعد سقوط القياصرة.

هذا يريد أن يصبح أميركياً، والثاني بريطانياً... كندياً ... فرنسياً... برازيلياً ... وحتى برتغالياً.

 وفرحة الحصول على جنسية جديدة أصبحت تعادل فرحة الحصول على حياة جديدة ... مستقبل جديد ... وآفاق جديدة.

هكذا وصلنا مع الوطن، أو هكذا أوصلنا الوطن.

ولا مانع لدى معظم الدول العربيّة، فهي تعطي الحق بجوازي سفر، فأنت لبناني في لبنان وأميركي في وسكونسن، أنت أردني في عمّان وبريطاني في مانشيستر، وأنت سوري في دمشق وكندي في كويبك...

والفرحة .. تكاد تنسي الناس ماذا تعني الغربة إذا طالت، وماذا يعني أن تكون بلا وطن... حتى لو امتلأت حقائبك بكل جوازات سفر العالم.

كاتب هنغاري {الأصل} بريطاني الجنسية منذ 25 عاماً مشهور بكتاباته الساخرة، أستوقفني مقال له كتبه قبل أيام عن الغربة.

فهو يقول أنه هرب من بلاده، هنغارياً، قبل ربع قرن، وأصبح إنكليزيّاً، و{أكتب بالإنكليزيّة} أحسن من {أهلها}، ويقول إنه تأقلم تأقلماً كاملاً مع أهل بريطانيا...

ولكن يتساءل : هل أصبحت واحداً منهم مائة في المائة... بعد ربع قرن ؟

ويجيب ... لا ...

فأنا، كما يقول {لا أزال أحلم أثناء نومي باللغة الهنغاريّة} ... {رغم أنني أكتب وأتكلم الإنكليزيّة طوال النهار والليل، ولا أتكلم الهنغاريّة إلا نادراً، عندما أتقابل مع {هارب} مثلي}.

ويقول : وعندما أحن إلى الشعر، وكثيراً ما أحن، فأنا لا أتذكر إلا الشعر الهنغاري، ولا تدمع عيناي إلا وأنا أتذكر أبياتاً منه، كانت جزءاً من طفولتي وشبابي.

ويقول .. ويقول .. ويقول كثيراً، إلى أن يقول : {وقد يكون الأهم هو ما أسميه {بوطنية المعدة} . فهنا أنسى بريطانيا والبريطانيين، وجواز السفر الذي أحمله، فأنا قد أتحمل الأكل البريطاني ثلاث مرات في اليوم، وقد ... أحترمه !! ولكنني حتماً لا ... ولن أحبه}.

ويتابع : {عندما أجلس إلى مائدة طعام هنغاريّة، أشعر بأنني قد عدت إلى الوطن، وبأنني لم أغادر بلادي ... لحظة واحدة}.

وقد يكون هذا سبب الإنتشار الهائل للمطاعم العربيّة في كل عواصم ومدن العالم، فهي الحنين الوحيد الذي يشد العربي إلى ...الوطن، مهما طال الزمن.

وبعيداً عن السخرية التي تثير الدمع، فإن ما يحدث هو أكبر من حجم الكارثة، والغريب اننا لا نهتم لها، ونعتبرها {شيئاً طبيعيّاً}، ولكنها إذا أستمرت فقد نجد عدد العرب في اوسلو أكثر منهم في أي مدينة عربيّة. ونفقد بالتالي كل آمال وأحلام المستقبل، مع فقدان الذي يصنع المستقبل : الرجال.

أطفال الغربة .. لا يعرفون العربيّة، بعضهم يتقن الهولنديّة .. والآخر الفرنسيّة، والثالث الإنكليزيّة.. ولكن أحداً منهم لا يعرف .. العربيّة.

يسمونهم الجيل الثاني أو الثالث، هؤلاء في خلال أعوام سيحاربون مع جيوش البلدان التي أكتسبوا جنسيتها، ولن يعرفوا عن الوطن .. إلا ما يسمونه عرضاً من آبائهم .. وأمهاتهم.

.... وهكذا تضيع الأوطان، وفي زمن الإنهيار.