الفصل السادس والأخير

 بيروت تبكي أبناءها الذين شنقتهم الدولة العُثمانيّة

خلال الحرب العالمية الأولى 1914م-1918م عاش البيروتيون مرحلة صعبة ودقيقة عندما أدانت السلطات القضائيّة زمرة من الشخصيات الذين تعاونوا مع الحلفاء للتخلص من السيادة العُثمانيّة على البلاد العربيّة على أمل أن تساعدهم إنكلترا على توحيدها تحت راية الشريف حسين بن علي الذي أعلن الثورة على الدولة العُثمانيّة في ذلك الحين.

قام حوالى مائة شخص من وجهاء بيروت والنافذين فيها من أهل الحل والعقد في البلاد وكان فيهم المسلمون والنصارى، اجتمعوا وأسسوا ما سُمّي يومئذ بالجمعيّة الإصلاحيّة، ثم انتخبوا من بينهم 25 عضواً برئاسة الشيخ أحمد عباس الأزهري، صاحب الكلية العُثمانيّة ببيروت التي أصبحت الكلية الإسلاميّة ثم كلية الشيخ عباس فيما بعد، وكان الانتخاب سرياً وعدد الناخبين 61 شخصاً كان منهم: أحمد مختار بيهم، أيوب ثابت، سليم علي سلام، كامل الصلح، جان تويني، بترو طراد، جان نقّاش، رزق الله أرقش، سليم البواب، حسن الناطور، جميل الحسامي، جرجي رزق، ألبير بسول، حبيب فرعون، عبد الحميد الغندور، ألبير يوسف سرسق، عبد الباسط فتح الله، فؤاد حنتس، جبران بسترس، ويوسف الهاني، وإتخذوا لهم نادياً بباب إدريس في بيروت.

وكانت أهداف هذه الجمعية ذات وجهين، سري وعلني، أما العلني الذي يطالب به جميع الأعضاء من النصارى والمسلمين هو منح المناطق العربيّة في المملكة العُثمانيّة حكماً ذاتياً، وانتقال جميع المصالح الإقليميّة في ولاية بيروت إلى أيدي هيئات تمثّل الأهالي، والاعتراف باللغة العربيّة كلغة رسميّة واستعمالها في البرلمان العثماني على قدم المساواة مع اللغة التركيّة وعدم تجنيد العرب للخدمة وقت السلم خارج بلادهم.

كانت هذه المطالب محل أخذ وعطاء بين الجمعية الإصلاحيّة وبين السلطات العُثمانيّة المسؤولة، غير أن هذه السلطات طاش سهم صواب عندما علمت بأن الأعضاء النصارى في هذه الجمعيّة كانوا يشكلون في داخلها جمعيّة أخرى خاصة بهم دون أن يكون لزملائهم المسلمين علم بها من قريب أو بعيد، كان صلة الوصل بين هذه الجمعية النصرانيّة الصرف وباقي الجمعيات العربيّة الأخرى نخلة بك التويني، ترجمان القنصليّة الفرنسيّة الفخري في بيروت.

ولما فتشت السلطات العُثمانيّة مركز القنصليّة الفرنسيّة في بيروت بإرشاد فيليب زلزل عثرت في باطن جدار إحدى الغرف على عريضة بالمطالب السريّة التي تتلخص بإلحاق مدينة بيروت بالجبل ووضع لبنان تحت الحماية الفرنسيّة وهي موجهة إلى مسيو كوجيه، قنصل فرنسا في بيروت، وقد وقّع هذه العريضة كل من : ميشال تويني، بترو طراد، أيوب ثابت، رزق الله أرقش، خليل زينيّة، ويوسف الهاني، وقبيل اكتشاف هذه العريضة بوقت قصير تمكن جميع هؤلاء الموقعين على العريضة من مغادرة لبنان ما عدا يوسف الهاني، الذي إعتقل في داره ببيروت في نهاية حفلة ساهرة كان يقيمها هو وزوجته حنينة دوماني بحضور جمال باشا نفسه، أثناء هذه الحفلة حضر أحد الضباط إلى بيت الهاني وأسرّ في أُذن جمال باشا أن الأوراق التي اكتشفت في القنصليّة الفرنسيّة يوجد إسم يوسف الهاني من الموقعين عليها، وعند نهاية الحفلة إعتقل صاحب المنزل باعتباره متآمراً على الباب العالي، شكّل جمال باشا في كل من عاليه بجبل لبنان ودمشق محكمة عسكرية أُطلق عليها يومئذ الديوان العُرفي، وعُين له الميرالاي تحسين باشا رئيساً وإلى جانبه هيئة تحقيق مؤلفة من ضابط يدعى صلاح الدين أفندي، وعدد من القضاة على رأسهم القاضي شكري بك،وتولى محيى الدين علم الدين، البيروتي، في هذا الديوان وظيفة كاتب ضبط.  

ولكي يقطع جمال باشا دابر المحاولات المبذولة لتخليص الهاني، فإنه أمر بتقديم موعد تنفيذ الحكم به عن سائر المحكومين، وقد أُعدم الهاني بالفعل فجر يوم 5 نيسان سنة 1916م، بينما أُعدم الآخرون في 6 أيار من تلك السنة، وتبعاً للمحاكمات التي أجراها الديوان العُرفي، فإنه تمّ تنفيذ أحكام الإعدام بالمحكومين على مرحلتين بشكل إفرادي في تواريخ مختلفة، ففي 15 آب سنة 1915م قبل شروق شمس ذاك اليوم الكئيب شهدت ساحة البرج في بيروت إحدى عشرة جثة أسلمت أرواحها إلى بارئها صبراً تحت أعواد إحدى عشرة مشنقة بإشراف القومندان البيروتي أبو عفيف المصري، وفيما يلي أسماء أفراد هذه القافلة الأولى :

عبد الكريم الخليل، من الشياح قرب بيروت
محمد المحمصاني، من بيروت
محمود المحمصاني، من بيروت
عبد القادر الخرسا، أصله من دمشق ومقيم في بيروت
نور الدين القاضي، من بيروت
سليم أحمد عبد الهادي، من قرية عرّابة قرب جنين بفلسطين
محمود نجا العجم، من بيروت
الشيخ محمد مسلّم عابدين، مأمور أوقاف اللاذقيّة من دمشق
نايف تللو، من دمشق
صالح حيدر، من أهالي بعلبك
علي الأرمنازي، من حماه

وفي السادس من شهر أيار سنة 1916م تمّ إعدام القافلة الثانية من المحكومين في ساحة المرجة بمدينة دمشق :

شفيق بك مؤيد العظم، من دمشق
الشيخ عبد الحميد الزهراوي، من حمص
 الأمير عمر الجزائري، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري من دمشق
شكري بك العسلي، من دمشق
عبد الوهاب الإنكليزي، من دمشق
رفيق رزق سلّوم، من حمص
رشدي الشمعة، من دمشق

وفي نفس التاريخ أي يوم السادس من شهر أيار سنة 1916م أُعدم في بيروت في ساحة البرج المحكومون التالية أسماؤهم :

باترو باولي، من التابعية اليونانيّة، مقيم في بيروت
جرجي الحداد، من جبل لبنان
سعيد فاضل عقل، من الدامور بلبنان
عمر حمد، من بيروت
عبد الغني العريسي، من بيروت
الشيخ أحمد طبارة، إمام جامع النوفرة في بيروت
محمد الشنطي اليافي، من يافا بفلسطين
توفيق البساط، من صيدا
سيف الدين الخطيب، من دمشق
علي بن عمر النشاشيبي، من القدس
محمود جلال البخاري، من دمشق
سليم الجزائري، من دمشق
أمين لطفي الحافظ، من دمشق

وإلى جانب القوافل التي أُعدمت بشكل جماعي، هناك أفراد آخرون حكم عليهم الديوان العُرفي بتهم مماثلة وتمّ إعدامهم في مدن مختلف، وفي تواريخ متفرقة وهم :

الخوري يوسف الحايك، من سن الفيل قرب بيروت، أُعدم في دمشق يوم 22 آذار سنة 1915م
نخلة باشا المطران، من أهالي بعلبك إغتاله حارسه الشركسي أحمد بك الرزّي قرب أُورفه بالأناضول في 17 تشرين الأول سنة 1915م وأُلقيت جثته في بركة ماء قرب المكان الذي اغتيل فيه
الشقيقان فيليب وفريد الخازن من جونية بلبنان أُعدما ببيروت يوم الثاني من أيار سنة 1916م

عبد الله الظاهر، من عكّار، أُعدم ببيروت يوم الأول من آذار سنة 1916م

يوسف الهاني، من بيروت، أُعدم ببيروت في نيسان سنة 1916م
محمد الملحم، شيخ عشيرة الحسنة، أُعدم بدمشق في أوائل سنة 1917م
فجر المحمود، من عشيرة الموالي، أُعدم بدمشق أوائل سنة 1917م
شاهر بن رحيل العلي، من عشيرة التركي، أُعدم بدمشق على أثر إعلان الثورة العربيّة
الشيخ أحمد عارف، مفتي غزة، وولده، من مدينة غزة أُعدما في القدس الشريف سنة 1917م
الشقيقان أنطوان وتوفيق زريق، من طرابلس، أُعدما بدمشق سنة 1916م
يوسف سعيد بيضون، من بيروت، أُعدم بعاليه بلبنان يوم العاشر من شهر آذار سنة 1916م
راهب فرنسي، كان عند مطران الروم الكاثوليك بطرابلس، أُعدم بدمشق

دور محمد الشنطي اليافي

لعب هذا الرجل دوراً خبيثاً في نقل نشاط أعضاء الجمعيّة اللامركزيّة في القاهرة إلى المسؤولين في إسطمبول، ذلك بأنه كان أحد أعضاء هذه الجمعيّة فسولت له نفسه الإثراء على حساب زملائه اللامركزيين فتقرب من حقي بك العظم حتى إطمأن إليه ووثق به وعهد إليه بوثائق الجمعيّة السريّة ليسلمها إلى أصحابها من المنتسبين إليها في البلاد العربيّة.

ولكن الشنطي، بدلاً من أن يسلم هذه الوثائق إلى أصحابها العرب، عرج على إسطمبول وقابل وزير الداخليّة طلعت باشا وأطلعه على ما يحمل من أسماء ودَوْر كل منها في بلده. فما كان من طلعت باشا إلا أن أرسله مع ما يحمل من أوراق خطيرة إلى قائد الجيش الهمايوني الرابع أحمد جمال باشا وهذا تلقّاه بإهتمام وسّهل له الإقامة بأحسن فنادق دمشق على حساب الدولة.

بيد أن جمال باشا ما لبث أن قلب للشنطي ظهر المجنّ بعد أن علم بثرائه الفاحش عن طريق إمتهان التجسس على أبناء قومه. وأمر بسوقه إلى ديوان عاليه حيث حُكم عليه بالإعدام مع بقية المتهمين في ساحة البرج ببيروت وذلك يوم السادس من شهر أيار سنة 1916م ودُفن مع الذين تسبب في نكبتهم في حفرة واحدة بتربة الدروز في هذه المدينة.

دور القنصليّة الفرنسيّة

بين الرواة إختلاف في كيفيّة وصول أوراق هذه القنصليّة إلى السلطات العٌثمانيّة.

هناك من يقول إن رجال الحكومة في بيروت ذهبوا إلى دار القنصل الأميركي وطلبوا منه أن يسمح لهم بتفتيش دار القنصليّة الفرنسيّة وكذلك الإنكليزيّة لأنهما كانتا تحت إشرافه بعد سفر القنصلين الفرنسي والإنكليزي في بداية الحرب، فرفض قنصل أميركا هذا الطلب لأن القنصليتين المذكورتين كانتا قد ختمتا بالشمع الأحمر.

فقال الموظفون العثمانيون، إنهم لا يريدون دخول الغرف المختومة، بل هم يكتفون بتفتيش ما لم يُختم، فاستمهلهم القنصل الأميركي ريثما يراجع السفير في الآستانة، وقد راجعه فعلاً فأجاز السفير طلب التفتيش. وفي أثناء التفتيش عُثر في دار القنصليّة الفرنسيّة على الوثائق الخطيرة فأخذوها بينما لم يعثروا على أي شيء في دار القنصل الأميركي لأنه لم يترك شيئاً بعكس القنصل الفرنسي.

وهناك رواية أخرى تقول إن الموظفين العُثمانيين في بيروت، دخلوا دار القنصليّة الفرنسيّة وفضوا الأختام من على أبواب غرفها، فأبلغ القنصل الأميركي الذي إحتج سفير دولته بإسطمبول ورفع الأمر للحكومة الأميركيّة بواشنطن التي إحتجت هي بدورها في شهر تموز سنة 1915م إحتجاجاً رسميّاً على خرق القواعد الدوليّة.

دور فيليب زلزل

هذا الشخص من وجهاء النصارى في بكفيا بلبنان وقد إحتضنه القنصل الفرنسي في بيروت وجعله كبير تراجمة القنصليّة.

وعندما أُعلنت حالة الحرب بين الدولة العُثمانيّة وفرنسا نُفي فيليب المذكور مع من نفي من موظفي القنصليّة المحليين إلى مدينة دمشق لإبعاده عن منطقة الساحل.

ولما رأى أن ما كان وعد به مسيو بيكو، القنصل الفرنسي، من العودة إلى سوريا بعد أسبوعين لم ينفذ خشي أن تنقله السلطات العُثمانيّة إلى الأناضول أُسوة بغيره من أمثاله، فالتجأ إلى قنصل ألمانيا بدمشق عارضاً عليه التوسط لدى أحمد باشا بإعلان ندمه على خدمة فرنسا ورغبته في التكفير عن سوابقه لصالح الأجانب وذلك بمأثرة يفيد منها رجال السياسة العُثمانيّة ولا يستطيع غيره أن يقوم بها.

فاستحضره أحمد جمال باشا وسأله عن هذه المأثرة مع وعد له بإعادته إلى بلدة بكفيا والعفو عنه، إن كان صادقاً فيما يقول.

فقال زلزل : إنه وحده يعرف مخبأ الأوراق السياسيّة التي إحتفظ بها القنصل في جدار من جدران إحدى غرف القنصليّة، ودلّ على هذا المخبأ بالفعل، فإذا هو مستودع أُعد في الجدار بصورة خفيّة، وطلي بابه بشكل يحول دون معرفته وإكتشاف ما وراءه.

وقد تحقق لدى الكشف من قبل السلطات العسكريّة ما أخبر به زلزل... فظهرت الوثائق التي تدين الكثيرين ومنها مضبطة موقعة من الوجهاء: ميشال التويني، يُوسُف الهاني، بترو طراد، أيوب تابت، رزق الله أرقش، خليل زينية.

وجاء في آخر هذه المضبطة :

(... فأقصى ما يبتغيه مسيحيوا سوريا هو أن تحتل فرنسا القطر السوري. ولهذه الأسباب يعرض الموقعون أسماءهم من أعضاء اللجنة التنفيذيّة بالنيابة عن مسيحيي بيروت بحسب مراتبهم الإقتراحات التالية، التي يعتقدون أنها الوحيدة الكفيلة بإصلاح الحالة السياسيّة الحاضرة بسوريا :

1.   إحتلال فرنسا لسوريا.

2.   إستقلال ولاية بيروت إستقلالاً تاماً تحت وصاية فرنسا وحمايتها.

3.   إدماج ولاية بيروت بلبنان الذين يكون تحت سيادة فرنسا الفعليّة.

وكان إكتشاف هذه الوثيقة الخطيرة بمثابة رأس الخيط الذي سحبت به السلطات العُثمانيّة كافة المتصلين بالمراجع الفرنسيّة، فاعتقلت من كان تحت طائلتها، وحولته إلى ديوان عاليه لينتهي إلى الإعدام في ساحة البرج.

وأما الذين كانوا بعيدين عن متناول هذه السلطات فإنهم اكتفوا بتحمل العقوبات الغيابيّة حتى إذا ما وضعت الحرب أوزارها عادوا إلى بلدهم ليتبوأوا في ظل الإنتداب الفرنسي أعلى المراكز الحكوميّة وأسماها جزاء ما قدمت أيديهم من خدمات سالفة للحلفاء وأغراضهم السياسيّة والعسكريّة.

والجدير بالذكر أن الوحيد الذي وقع بفخ الإعتقال وحكم بديوان عاليه كان الوجيه يُوسُف الهاني الذي ورد إسمه بين الموقعين على مضبطة القنصليّة الفرنسيّة، بينما كان بقية رفاقه الآخرين قد أفلتوا من قبضة أحمد جمال باشا في الوقت المناسب قبل أن يفشي فيليب زلزل سره الدفين ... القاتل !

قُبض على يُوسُف الهاني بعد إنتهاء حفل كان يقيمه بداره ليلة دخول القنصليّة الفرنسيّة وإكتشاف الوثائق الخطيرة، وكان أحمد جمال باشا يحضر هذا الحفل فأبلغ بالأمر، وبعد إنتهاء الحفل إعتقل.