لا اعرف لماذا ذكّرني وقوف الشاعر الصديق أدونيس على منبر "مسرح المدينة" في بيروت، بوقوف انبياء العهد القديم على أنقاض المدن المضروبة بلعنة الآلهة بفعل ما اقترفته من شرور وآثام. ففي المحاضرة، خلافاً للكثير من نصوص أدونيس وأفكاره الاشكالية، جنوح واضح الى التعميم واطلاق الاحكام النهائية بقدر ما فيها من التأبين الممزوج بالغضب والرثاء المفعم بالهجاء والسخط. ثمة ما يذكّر بمراثي إرميا لاورشليم او نبوءة أشعياء لصور "المسكتة في قلب البحر" والتي لن تقوم لها قائمة الى الابد. كأن ادونيس متماهياً مع عنوان محاضرته، آثر هذه المرة، ولسبب غامض لا أعلمه، ان يغلّب اسمه التاريخي على اسم الولادة ليسقط على المدينة التي منحته، باعترافه، ولادته الثانية، كل ضيقه وسخطه وقرفه من الواقع السياسي والاجتماعي المهترئ في لبنان ودنيا العرب.

ليس من قبيل المصادفة على الارجح ان يبدأ أدونيس محاضرته بالاشارة الى الجذر اللغوي لكلمة "مدنية" التي تعني "الأمَة" او المرأة المملوكة في "لسان العرب". فهذا المدخل الذي لا يتصل من قريب او بعيد بمتن المحاضرة نفسها يمكن ان يكون، ولو بغير قصد رداً متأخراً على قصيدة نزار قباني "يا ست الدنيا يا بيروت" والتي كتبها الشاعر الراحل في مطالع الحرب الاهلية اللبنانية. كأن لا مكان وسطاً بين مديح المدينة المفرط وهجائها المفرط، او بين ان تكون بيروت سيدة الدنيا او جاريتها. واذا كانت المدينة من جهة ثانية قد تعمدت بدم أهلها المتقاتلين لسنين طويلة، فهي لا تختلف كبير اختلاف عن مدن اخرى كأثينا ومدريد ودبلن وغيرها من المدن التي مزقتها المذابح قبل ان تنهض. لقد سبق لأحد الفنانين العرب لدى سؤاله عن معنى بيروت أن اجاب: "بيروت بالنسبة اليّ تعني شهوة الحياة". لكن شهوة الحياة، بحسب فرويد، هي الوجه الآخر لشهوة الموت. وكلتاهما معاً تجسد، كما اسم أدونيس نفسه، المعنى الحقيقي لجدلية الفناء والانبعاث او جدلية الموت والقيامة.

لا تعني هذه التوطئة بالطبع رفضاً لمعظم المقدمات التي سردها أدونيس في تشخيصه لواقع الحال اللبناني والعربي. فالحديث عن الطائفية والتفكك وسيادة الاستبداد وتغييب العقل والحرية وانعدام القراءة واستشراء الرقابة والغاء الآخر، هو من قبيل تحصيل الحاصل في وصف حال الأمة وتسارع انهيارها المطرد في العقود الاخيرة. ولكن ذلك كله يتم في ظل نوع من الكليشيهات المعروفة والتعميمات المطلقة التي لا تعير انتباهاً للفوارق بين بلد عربي وآخر من جهة او بين بيروت ومثيلاتها من العواصم العربية المختلفة من جهة اخرى. وهي تعميمات تدحضها آراء سابقة لأدونيس نفسه حول الفوارق بين العواصم المنتهية والعواصم التي لا تزال وعداً قيد الانجاز كما هي الحال مع بيروت.

ان مشكلة المحاضرة الاساسية لا تكمن في المقدمات بل في الخلاصات والنتائج. فقد يكون ادونيس محقاً كل الحق في حديثه عن افتقار بيروت الى الفضاء والهندسة الجمالية وتحوّلها غابة مخيفة وفظة من الاسمنت، لكن هذه الخاصية لا تتصل بالعاصمة اللبنانية وحدها بل بالكثير من عواصم العالم الحديث ومدنه وحواضره. لكن تلك الفوضى العمرانية وذلك الاكتظاظ العشوائي للمدينة لم يمنعاها في الستينات واوائل السبعينات من تجاوز "بشاعتها" الظاهرة في القوالب والاشكال واكتشاف جمالها على الرصيف وفي المقهى وداخل المعارض ومنتديات الحوار وفي تظاهرات الاحتجاج وفي الحرم البائس للجامعة الوطنية التي اختار ادونيس مسكنه بجوارها مطلقا هتافه الجميل: "إن رأيتِ على مدخل الجامعة/ كوكبا عانقيه/إن رأيتَ على مدخل الجامعة/ نجمة خذ يدها...". واذا كانت هندسة المدن معيارا لحيويتها وثقافتها النشطة فهل تكون مدينة جميلة ومصنوعة من الحجر الصخري الطبيعي وذات فضاء مفتوح كالعاصمة الاردنية عمان اكثر حيوية وتفتحاً من بيروت؟

لا احد بالطبع يختلف مع ادونيس حول اعتبار الطائفية والتنابذ المذهبي المرض الاشد استشراء في جسد المدينة كما في لبنان بأسره. ولا احد يختلف معه حول المحاصصة والفساد وتناهب الثروة وسيادة نظام العصبية والارث، لكن تلك الظواهر السلبية كلها لا ينبغي لها ان تحجب صورة التنوع والغنى الثقافي والاجتماعي الذي ابعد بيروت عن الوقوع في شرك الواحدية والتماثل المضجرين وحوّلها الى مختبر دائم للبحث عن معنى الاقامة في الارض وعن حقيقة لا يستطيع ان يدّعي امتلاكها احد في عينه. والديموقراطية، على تشوهاتها، لم تكن نعمة خالصة انزلتها السماء على اللبنانيين، بقدر ما كانت الممر الاجباري الوحيد الذي يتيح للأقليات اللبنانية المتنوعة امكان الانضواء في نسق او نظام. اما ان تكون الاشرفية اقرب الى باريس او لندن منها الى الضاحية، وان تكون الضاحية اقرب الى طهران منها الى الاشرفية فهذا لا يوضع بشكل مطلق في خانة التذرر اللبناني، الذي لعب زياد الرحباني طويلا عليه، بل يمكن فيما لو احسن استثماره ان يكون مصدرا للتفاعل والتلاقح والثراء الثقافي. ان قدر لبنان بفعل تنوعه الفسيفسائي الفريد ان يقف دائما على الشفير بين الوعد المتجدد والتنابذ الكارثي، بين نعمة الحرية والحلم والحوار الدائم وبين نقمة التجييش الطوائفي المفضي الى الحروب الاهلية الدموية. ومن الظلم ان نرى احدهما دون الآخر وان نستبدل بتمام الصورة نصفها الكسيح والمعتم.

لقد بدت صرخة ادونيس، على صدقها وبلاغتها، اكثر قسوة مما يجب. كما ان رغبته الخالصة في احداث صدمة عميقة ترجّ صمت المدينة وتخرجها من سباتها المقيم، لا تبرر تسويتها بالارض وحشر الجلادين والضحايا في خانة واحدة. ففي هذه المدينة المرفوعة على صليبها منذ اكثر من ربع قرن، ثمة ثقافة للنخاسة والاستتباع والترويج الطائفي والتعهير ولعق احذية السلاطين، وثمة ثقافة اخرى للاعتراض والرفض والممانعة والدفاع عن ثمالة الروح. وادونيس الذي اهدى سلاما ووردا لبيروت في ختام قصيدته الرائعة "قبر من اجل نيويورك" كان يؤمل منه ان يرشق الذين احتشدوا لسماعه في "مسرح المدينة" بوردة مماثلة لا ان يعدهم بقبر آخر!