من فمكَ أدينكَ قبل أن أغفر لكَ

عقل العويط

حسناً فعل الشاعر أدونيس بطرح السؤال الآتي: "هل بيروت، اليوم، مدينة حقاً، أم هي مجرد إسم تاريخي؟"، في محاضرته التي ألقاها في "مسرح المدينة" ضمن إطار مهرجان "أشكال ألوان" ونشرتها له الزميلة "السفير"، السبت في الأول من تشرين الثاني .2003 فالإيجابية الصحيحة جداً والمشروعة جداً التي نفترضها في "مبدأ" السؤال كانت تقتضي منه في "التطبيق" أن يحمّل الأجوبة التي اقترحها، "معرفة" داخلية ملموسة وعميقة بـ"المكان" و"أهله"، مشفوعةً بـ"ثقافة" واقعية وعملية مكينة، إبداعياً وأنتروبولوجياً ومجتمعياً وسياسياً ومعمارياً، لا الكتفاء بالتعميم، مثلما كانت تقتضي منه وبالمستوى نفسه بعداً "إنسانياً" و"أخلاقياً" يجنّبه إغفال الوقائع النوعية المضادة أو الوقوع في ما يشبه قطع يد الحقيقة. فأين أصاب أدونيس وأين أخطأ؟

سأخاطبكَ وجهاً لوجه أيها الشاعر، لأنكَ أستاذي الجامعي في ذاك الزمان الأول، ولأني لا أزال صديقكَ وقارئكَ وعارفكَ قليلاً أو كثيراً. ولأني أحبّكَ أيضاً.

لقد أحسنتَ فعلاً في إثارة مسألة هذه المدينة التي وفدتَ إليها في أحد الأيام الغابرة، وفيها ولدتَ ولادتكَ الثانية، مثلما ظللتَ تعتبرها حتى الأمس القريب حين استقبلتكَ في أمسية صاخبة في قاعة "الإسمبلي هول" في الجامعة الأميركية، مساء ذاك الأربعاء التاريخي في 16 كانون الأول 1992وقلتَ فيها ما يأتي: "ثمة مدن تسكنكَ، عندما تغيب عنها أو لا تعود قادراً على السكنى فيها. بيروت، بالنسبة إليَّ، أولى هذه المدن، ولعلها، على المستوى الحميم الأخير، أن تكون المدينة الوحيدة".

وقد أحسنتَ حقاً حين تحدثتَ عن ليلها الذي أصيبت به، وحين أثرتَ الأسئلة "القاتلة". فأنتَ تعرف معرفة أكيدة أنكَ لن تجد "مكاناً" آخر ولا "مناخاً" (ولا ساحة!) في البلدان العربية أو الناطقة بالعربية تستطيع أن تطرحها فيه وتردّ عليها بالأجوبة اليقينية الماحقة. يتراءى لي أنكَ إذا سوّلت لكَ نفسكَ أن تطرح البعض القليل مما يوازي هذه الأسئلة ــ الأجوبة فإنكَ لواجد حتماً ما لن يرضيكَ. أما بيروت فأنتَ تعرف أنها رحبة ومختلفة ونقدية، وأنها تحبكَ، وستظلّ، وأن الهامش فيها يتحمل النقد ويريده، مثلما تعرف في الوقت نفسه أن الذين انتهكوها واغتصبوها (وهم متعددو الجنسية)، جعلوا قدرتها على "التخويف" أقل من أن "تخوّفكَ" فتردعكَ عن ارتكاب الخطأ الجسيم في حقها وفي حقّ نفسكَ أولاً بأول.

ربما كان ينبغي لكَ أولاً أن توجه التحية الى هذا المنبر ــ المسرح الذي يستقبلكَ، وهو المهدَّد بالإقفال، وأن تحيي صموده الثقافي ومحاولات إقفاله، وأن ترى في كفاحه علامة تمرد ورفض للوضع القائم.

ربما كان الكثيرون يتوقعون منكَ أن تبدأ محاضرتكَ بتوجيه تحية "مجاملة" الى روح المقاومة اللبنانية الثقافية التي حاولت (وربما فشلت) ولا تزال تحاول المحافظة على "مناخ" بيروت و"روحها" كي تظلّ تستطيع أن تولد من جديد كلما قُتلت أو ماتت، وأن تستقبلكَ دائماً وتصفق لمحاضرتكَ عنها، وإن كنتَ تجزم بمقتلها وتتشفى أو... تحتفي به.

للتذكير بحقائق التاريخ فقط

ليس من ضرورة لتذكيركَ بأن المستبيحين كانوا كثراً وبأن الجيش الإسرائيلي اجتاح لبنان وهذه البيروت التي تحاضر فيها، ليقاتل الفلسطينيين واللبنانيين دون غيرهم.

ليس من ضرورة لتذكيركَ بأن الجيش العربي السوري، ومخابراته وعسسه وأزلام نظامه البعثي، السوريين واللبنانيين، يحتلون لبنان واللبنانيين وبيروت والبيروتيين، ويصادرون كل "حقيقة" أخرى مضادة ويمسكون برقبتها. فقد بدا جلياً في كلامكَ عن بيروت، كأنكَ تتكلم عن مدينة ليست موجودة تحت الاحتلال الروحي والجسدي، ولا مصادرة ولا ممصوصة الضوء ولا منوَّمة على فراش الانتهاك الدائم ولا مسجونة في إقامتها الجبرية المرعبة.

... أما كانت هذه المدينة المجاهدة ـ وهامشها الثقافي المقاوِم ـ يستحقان منكَ أن تدل عليهما ولو بتحية!

لكن، ما لنا ولهذا التذكير، فمن حقّكَ أن تسأل ما تريد وأن تبحث عن الأجوبة التي تريد. بل من واجبكَ أن تفعل ذلك، كشاعر ومثقف و"هامشي". فأنتَ من أهل هذا البيت المعنوي أصلاً وفي الأساس. فضلاً عن كونكَ مواطناً سورياً ولبنانياً وعالمياً.

فإذا كانت محاضرتكَ هذه حقاً وواجباً أدبيين وثقافيين و"وطنيين" و"قوميين" و"إنسانيين"، فمن ضمن هذين الحق والواجب أن تكون مقاربات الرأي فيها جذرية وتحتية ومتمكنة ودقيقة كي تكون على "المستوى" وكي يفضي الكلام الى غاياته المنشودة.

إذاً، لن يكون ثمة إحساس لديّ ولدى غيري من أهل الهامش الثقافي اللبناني بالغبن من جراء ذلك. ولن يكون ثمة عيب البتة إذا كان تحليلكَ سيفضي الى تقديم صورة سوداوية ومتشائمة وقاسية عن هذه المدينة. لن يكون ثمة عيبٌ البتة في هذا المجال. فنحن وإياكَ في خندق واحد وإن كنا سبّاقين في هذا الباب. ولا تشاوف.

تلتقي معنا أيها الشاعر في المبدأ حول هذا الشأن. لكننا نختلف معكَ في الموقف الجوهري من الهامش. وفي الكثير من الوقائع والأوصاف والاستنتاجات.

أما أنكَ تلتقي معنا، فلأننا السبّاقون ـ لا كلبنانيين، وسوريين، وسوريين ولبنانيين في آن واحد، وعرب، وإنما ككتّاب ومثقفين أولاً بأول ـ في أننا نعيش "هنا" ونتألم "هنا" ونيأس "هنا" ونموت "هنا" ونحلم "هنا" ونكتب "هنا" وننهزم "هنا" ونُحتل "هنا" ونخترع الضوء "هنا" وإن بصيصاً. وفي أننا، "هنا" نُعمِل عقولنا وووجداناتنا وضميرنا وطاقاتنا ومواهبنا. وفي الـ"هنا" نستولد الرؤى والأفكار والمشاعر والأمل ونتمرد على الموت والقتل لمناقشة واقع هذه المدينة، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ولطرح الأسئلة عليها وإدارة النقاش معها وحولها ومحاولة خلقها من جديد.

أتكون "عابر سبيل" في بيروت أم مقيماً في جحيمها؟!

نحن سبّاقون طبعاً. ولا منّة في ذلك، ولا فضل ولا موهبة. لكننا سبّاقون إيضاً لأننا "موجودون" في جحيم "الحقيقة" ولسنا "عابري طريق" أو "نازلي فنادق" أو "مستأجري بيوت مفروشة" أو "مقيمين على السطح"، فلا نرى ما يعتمل في باطن الجحيم البيروتية واللبنانية. وجودنا هذا، داخل "الحقيقة"، يمنحنا أن نحاول معرفتها. أن نعيشها. وأن نحاول إعادة خلقها باستمرار. لا أن ننظر (وننظّر) إليها من خارج ومن فوق. كما لو أنها محض "مشهد لا مدينة"، على قولكَ في محاضرتكَ التي لم يجفّ حبرها "القاتل" بعد.

وقد تطلّب هذا "القَدَر" منا على الدوام أن ننأى عن التنظير والإسقاط والتعميم، وأن نحترق وأن ننغمس في دم هذه "الحقيقة"، في جسدها وروحها، في عذريتها وعهرها وموتها وجنونها وعبقريتها ووهمها. وفي الهلمّ كلها. لكن أن ننغمس أيضاً وخصوصاً حتى القعر، حتى القعر الأخير، بحثاً عن الماء الحيّ لهذه "الحقيقة" وإن كان دمعةً أو بصيصَ ضوء أو حتى... سرابَ بصيص.

ونحن نفعل ذلك مع القلة القليلة النادرة من اللبنانيين والسوريين والعراقيين والفلسطينيين والعرب الآخرين و... كل مَن يشاء من مواطني العالم، ممهورين بـ"شرعية" المواطنة الإنسانية الحقة ومدموغين بـ"معمودية" نار العيش في جحيم هذه "الحقيقة" ــ المدينة التي لم تتورع، أمس، عن وصفها، بخفة غير مقبولة من شاعر عربي كبير، بأنها "تعيش خارج الزمن الإنساني الخلاّق، زمن الحضارة".

لا امرأة لا وردة لا نقطة ماء قصيدة...؟!

ها أنا أخاطبكَ أيها الشاعر الكبير وجهاً لوجه، وأسألك الآتي: ما أدراك بـ"حقيقة" المدينة وبما يعتمل في جحيمها السرية لكي "تقرر" أن "تلغيها" و"تمحوها" و"تدمّرها" بقلمكَ وصوتكَ، وأنتَ... "المتغيّب" و"الغائب" عنها، المرشِّح نفسكَ دائماً والمرشَّح الدائم للفوز بجائزة نوبل للآداب، مشغولاً بذاتكَ الأدبية وبشهرتكَ ونجوميتكَ الاجتماعية لا بها، غافلاً عما يصيبها. أو متغافلاً عن ذلك. والله أعلم!

أسألكَ وأنتَ "جاهلها" و"خارجها" روحياً وجسدياً، والخارج عليها بما يتناقض تناقضاً مرعباً مع أقوالكَ السابقة وقصائدكَ عنها والتي لم يجف حبرها بعد بالتأكيد، بدليل أني أذكّركَ بها (هل تتذكر أمسيتكَ الصاخبة في "الإسمبلي هول مساء ذاك الأربعاء في 16 كانون الأول 1992 وأيّ الأوصاف استخدمتَها لتتحدث عن بيروت؟ هل تتذكر مقالاتكَ وقصائدكَ عن لبنان وبيروت منذ ذاك الزمن حتى كتابكَ الحواريّ الذي أنجزه لكَ زميلنا صقر أبو فخر؟ هل تتذكر كتابكَ الشعري الأخير؟)، أسألكَ الآتي: عندما تقول ما تقوله عن هذه المدينة، أيها المفكر الباحث المتأمل، وعندما تفعل ذلك بلغة تعميمية قاطعة جازمة، وعندما تطلق الأحكام القاتلة عليها، ألا يتراءى لكَ أنكَ "تنضم" "موضوعياً" الى جميع الذين يريدون الانتهاء من هذه "الحقيقة البيروتية" (اللبنانية)، مرةً واحدةً والى الأبد؟ ألا تكون "تشارك" "موضوعياً" أيضاً، جميع الذين شاركوا ــ ولا يزالون ــ في الحرب التي "تفضل" أن تختار لها بين الأوصاف كلها تسمية "الحرب الأهلية" اللبنانية؟!

ترى، ألم تجد بصيص ضوء واحداً في بيروت، زهرةً، نبعَ أمل، قصيدةً، روايةً، لوحةً، وجداناً مصلوباً، ضميراً مبكِّتاً، فلاّحاً، أستاذَ جامعة، مواطناً عادياً،... يجعلكَ تركب مركب الأمل المستغيث المستنجد المستجير، وإن يائساً؟ أم أنكَ استحسنتَ التعامي (بل القتل) هذه المرة، مثلما تحسن على الدوام التعامي عن الموهوبين والكتّاب والشعراء الذين اعتبرتَهم جميعاً "غابة أصداء" في أحد الأيام، حتى وإن كانوا مريدين وأتباعاً؟!

هل تتذكر "حرب الآخرين على أرضنا"؟

كان عليكَ أن تعرف أن أهل بيروت ـ أي اللبنانيين ـ بعضهم غير طائفي وغير مشارك في الحرب التي هي أيضاً "حرب الآخرين على أرضنا". كان عليكَ أن تعرف كم عدد الناس الذين هُجِّروا من مناطقهم ومن طوائفهم ومن لبنانهم لأنهم لا ينتمون الى الطوائف والمناطق. وكم الذين قُتلوا من جراء ذلك.

نعم، هي كانت حرباً أهلية. لكنها كانت أيضاً حرب الصهيونية على معنى لبنان (هل من الضروري أن أذكّركَ بهذا؟!). وكانت حرب الفلسطينيين و"ساحتهم". وكانت حرب النظام السوري الذي أراد أن "يخلّص" لبنان. وها هو يكاد يكون قد أجهز على روحه لولا ضوء التمرد الذي لن تستطيع قوة في الكون أن تخمد أنفاسه وبروقه، وإن كانت أكثر هذه الأنفاس والبروق تحت الأنقاض.

المتن والهامش

منذ زمن لبناني طويل، آلينا على أنفسنا أن ننتمي الى الهامش. ثمة في بيروت ولبنان، على ما تعلم، مناضلون ورافضون ومتمردون وأحرار و... كتّاب ومثقفون ومفكرون وشعراء وشعراء حياة وفنانون وهامشيون وبشر عاديون وأهل رأي وموقف. وهؤلاء وغيرهم يقيمون في هوامش المدينة والبلاد وهم قتلى وليسوا موتى، مثلما تزعم في وصفك لأهل بيروت عندما تعتبرهم في تعميمك المخيف و... الفاشي جداً أنهم "بشر موتى". هؤلاء أيها الأستاذ والصديق الدائم ــ وصديقكَ من صَدَقَكَ لا من صدّقك ــ مزيج روحي عميق وغير مفتعل من الحالمين والهامشيين والمتألمين والجحيميين والملعونين والأحرار والديموقراطيين والعلمانيين وربما من المؤمنين وربما من اللامؤمنين أيضاً، وقد أخذوا على أنفسهم، كل على حدة، أن يسبحوا عكس التيار وأن يتولوا، كل من جهته وعلى طريقته، مهمة البحث في معنى الحياة والإنسان وفي معنى المدينة وفي معنى لبنان. بل مهمة اختراع الحياة القتيلة وإنهاضها من قبرها، والتي تمعن لا في وصفها فحسب بل في التنكيل بها. لقد أخطأتَ خصوصاً لأن سؤالكَ الذي هو عنوان محاضرتكَ، والذي يتلاقى مبدئياً ونظرياً وعملياً مع بعض العمل الثقافي والأدبي والنقدي المتواصل الذي آلينا على أنفسنا أن ننصرف إليه، يتناقض جوابه الحازم الصارم النهائي التعميمي الشمولي مع ما يجري على أرض الهامش في بيروت.

فالأحرى أن نسمّيه سؤالاً إنكارياً. بمعنى أنكَ جعلتَه نوعاً من الجواب المسبق، المتعدد والمحصّن بسيل من الأوصاف انتهيتَ فيها الى نزع الصفة المدنية ــ المدينية عن بيروت نزعاً تبسيطياً، من دون براهين واقعية، جاعلاً إياها "مدينة ميتة" وأهلها "بشراً موتى"، بما يذكّر تماماً بمنهجية الفكر الفاشي الإلغائي التوتاليتاري الإسقاطي والقمعي في الوصف والاستنتاج.

أريدكَ أيها الشاعر أن تعرف أن هذا الردّ، ردّي، متألم شديد الألم وصادق شديد الصدق، لأني أحبّكَ وأقدّركَ، شخصياً وثقافياً. وردي، هو على هذين الألم والصدق، لأن بيروت حقاً قتيلة وكذلك بشرها. لكنها ليست ميتة ولا بشرها وأهلها موتى.

ليتكَ قرأتَ وسمعتَ ورأيتَ

وإذا كنتَ ارتأيتَ أن يكون موقفكَ على هذا المنوال فسأنصت إليه لكني سأقول لكَ ما يأتي: "الحقيقة" الجوهرية موجودة لا في المشهد العام فحسب، بل في الهوامش المتواضعة أيضاً وخصوصاً. وهي "حقيقة" مركّبة ومعقدة ومتنوعة وداخلية وليست كتلةً جامدة ومرئية كلها أمام العين. فيا ليتكَ تواضعتَ قليلاً ونزلتَ من عليائكَ اللاهوتي والشعري والاجتماعي والتنظيري والتبسيطي. يا ليتكَ كلّفتَ نفسكَ عناء القراءة قليلاً، قراءة الشعر، والروايات، والآداب الأخرى، وقراءة الفنون وإشكاليات الهندسة والعمارة، والإنصات الى الأفكار والنقاشات التي تجري في هامش بيروت، والنزول الى الشوارع الأخرى لا الاكتفاء بالكنيسة والمسجد والدكان السياسي ــ الاقتصادي وشارع المعرض،... لكنتَ وفّرتَ على نفسكَ وعلى قارئيكَ ومحبّيكَ ومريديكَ أن تتشبه بصورة "الجلاّد" "القاتل" في محاضرتكَ هذه.

وما دمتَ قد كتبتَ عن الهندسة والفن المعماري وأحببتَ أن تتحدث عن بشاعة بيروت ــ وهي بشعة للغاية وفاسدة وملوّثة وعشوائية ولا قوام لها ووعاهرة إذا شئتَ ــ، يا ليتكَ كنتَ استقيتَ العلم الأكيد من مصادره "الحديثة" والموثوق بها ومن مقالات المعماريين وأبحاثهم ودراساتهم التي صدرت في كتب ومراجع وفتحنا لبعضها الصفحات الرصينة. يا ليتكَ أيضاً كنتَ مررتَ بالنبع القريب، هنا حيث أصدقاؤكَ جميعاً، لكنتَ وفّرتَ أيضاً على ثقافة صورتكَ الكونية أن تتشوّه بهذه الترّهات والتبسيطات التنظيرية التي عفا عليها الزمن.

وما دمتَ قد تحدثتَ عن الموت، أما كان سيكون من الأجدى و"الأشرف" لنا ولكَ أن لا تكتفي بوصف المشهد العام، مشهد "المتن" السياسي والمجتمعي والثقافي والديني والطائفي والأهلي، وأن تعرّج قليلاً على مشهد "هوامشنا" التي يُفترض بكَ نظرياً ومبدئياً وعملياً أن تكون منتمياً إليها وعارفاً بها ومتحدثاً عنها؟

لقد فضّلتَ أيها الشاعر الصديق أن تتلبس لبوس "العابرين" و"الزوّار" و"السيّاح" الذين يكتفون بالسطح دون الجوهر ولا "ينتقلون" الى الضفة الأخرى حيث يمكنهم رؤية الجانب غير المرئي من جبل النار اللبناني. لقد فضّلتَ أن تنظر الى "المتن" وتكتفي به وتتعامى عن غيره، فإذا بكَ تشبه ـ أكثر ما تشبه ـ لا الهامشيين ولا الشعراء والمثقفين، بل الحكّام، فتلفظ أحكامهم التعسفية الإلغائية الديكتاتورية. كان عليكَ أن "تتدروش" قليلاً وأن تنزل لا الى الكنيسة والجامع والدكان بل الى "الهامش". أتكون قد نسيتَ "الهامش" يا أدونيس؟! أتكون قد فضلتَ أن تصير شبيهاً بأهل التاريخ والسلطة، مثقفاً الى الحدّ الذي لم تعد تشعر معه بضرورة أن تزورنا في جحيمنا أو أن تقرأ كتاباً من كتبنا وقصيدة من قصائدنا ورواية من رواياتنا، أو أن "ترى" وهماً من أوهامنا وبصيص ضوء من آلامنا و"انبعاثنا" (لا بعثنا!) من موتنا؟

لا تربّت على كتفي أيها الأستاذ الصديق. لأني لن أقبل منكَ هذا التربيت. لأنه سيكون نوعاً من الالتفاتة المخزية و"المصالحة العروبوية القوموية". وقد تلقينا منكَ الإهانة الكاملة وهي فائضة وتغني عن الباقي.

كان عليكَ أن تعرف أننا نقيم في الموت الآخر. في الموت المتمرد على الموت. كان عليكَ أن تعرف أننا لا نزال نحيا تحت سماء الهامش، وفي جهنمه، حيث أقمتَ طويلاً. لكن، كان عليكَ أن تظل في الهامش لكي تظل تراه وتحسه وتشمه وتتذوق طعمه المضني وتنام على مخدته. لكنكَ فضلتَ، على ما يبدو، ريش النعام المعنوي. فضلّتَ أن تنتقل الى الضفة الأولى، الى هناك، حيث يقيم الحكّام والأباطرة والديكتاتوريون، وأهل السلطات، أكانوا في الطائفة أم في السياسة أم في المال أم في العمارة أم في... الأدب.

طبعاً، أنا لا أتحدث عن مناصبكَ في السلطة ولا عن أموالكَ المادية، بل عن القيم النقدية التي خوّلتكَ ـ وأنتَ الأستاذ الجامعي من زمان بعيد (هل تذكر!) أن تطلق الأحكام التي تشبه أحكام الإعدام.

كان عليكَ أن تعرف أن المشهد الذي وصفتَه والتقطتَ صورته هو مشهد "المتن" لا "الهامش". كان عليكَ أن تعرف ـ وأنتَ عارف بالتأكيد ـ أن هذا المشهد يدل على صورة بيروت وهي في أيدي سلاطين المال والعسكر والسلطان والدين، مخفورة ومغسولة الدماغ ومصادَرة ومحتلة وممصوصة الروح. وكان من الطبيعي جداً أنه تصف هذا المشهد بأنه "مدينة ميتة" وتصف المتسلطين عليه بأنهم "بشر موتى". لكنكَ آثرتَ أن تكتفي بهذه الحقيقة الحقيقية جداً، وأن "تخفي" المشهد الخلفي حيث نقيم، فتخلط الحابل بالنابل، وقصدكَ أن تصف الجميع بأنهم موتى: بيروت المتن + أهلها المقيمون في المتن + بيروت الهامش + أهلها المقيمون في الهامش.

البيت لقاتليه أيضاً

لقد علّمنا هذا المنبر ـ وهو بيتكَ وبيت كل الخلاّقين والمتمردين والموهوبين العرب من زمان والى آخر الزمان ـ ما علّمنا إياه لبنان في بيوتنا وأريافنا ومدننا: لقد علّمنا الحرية، حتى وإن كانت ضدّنا. لهذا نحتضن رصاصتكَ القاتلة لنظلّ نعرف أن طريق النهوض من القبر سيظلّ صعباً جداً، وبعض صعوبته ناجم عن مواقف وكلمات تشبه مواقفكَ وكلماتكَ القاتلة هذه.

شرف لبنان وبيروته أنهما "يستقبلان" هذا الكلام ـ الرصاصة ويفتحان له القلب المليء برصاصات كثيرة وفادحة، وينشرانه على الملأ. ولو لم تكن بيروت فريدة من نوعها وتقدّس الهامش، هامش الحرية، الى هذا الحد، لما كانت تصفق لكَ وقوفاً وهي تضع يدها في الوقت نفسه على موضع الرصاصة كي تحمي بعض نزيفها المتألم من لوثة التراب.

لكن رصاصتكَ أخطأت أهدافها، حين سدّدتَ أيها الصياد صوب الهامش الذي عشتَ في كنفه، فطعنتَه في صدره وحاولتَ اغتياله. لقد وقعتَ أيها الشاعر في الغلط الماحق، فصرتَ في التاريخ. وصرتَ خارج "الحقيقة". "حقيقة الهامش" الذي نذرنا ـ ولا نزال ـ حياتنا وأيامنا وكفاحنا وثقافتنا وشرفنا وتحصيلنا العلمي (بعضه على يديكَ) ومواهبنا... المتواضعة (!) للحفاظ عليه وتجديده ونقده والقسوة عليه بهدف أن نخلقه باستمرار (أليس هذا معنى لبنان وبيروته يا أستاذ؟!)

قد يسرّ أحدهم في أذنكَ ما يأتي: ما بال "تلميذك" يتراجع الآن عما كان كتبه قبل أسبوعين وطوال السنوات السابقة؟

فحسماً لأي جدالات سخية وخبيثة ودنيئة من هذا النوع، سأسارع الى تذكيركَ وتذكير الجميع بأني وصحبي الهامشيين في "الملحق" وخارجه، لا نفعل سوى البحث عن "الحقيقة" وإن ضدّنا أحياناً. وسأذكركَ، إذا أحببتَ أن تقرأ، بمقالي في هذا المجال بعنوان "الموت الرحيم" ("الملحق" عدد ،606 18 تشرين الأول ،2003 الصفحة 14) الذي خصصته للجامعة اللبنانية المستفحل داؤها ودعوتُ فيه الى قتلها رحمةً بها وبأهلها، وذلك (إنتبه جيداً. وبروحكَ وحواسكَ جميعها)، بهدف البحث الحقيقي المجدي في وسائل توليدها من جديد بما يجعلها صالحة للعيش الحضاري في المستقبل. وقد رأيتُ الفرصة سانحة في المقال نفسه، للتحدث عن الحالة اللبنانية الراهنة بما فيها من أهوال العيوب كلها، ومن يأس وتيئيس، ووجهتُ الاتهام الى نفسي أولاً والى الأيدي جميعها التي تمارس التيئيس، الأيدي اللبنانية وغير اللبنانية، ودعوتُ الى ممارسة أعجوبة القتل الرحيم نفسه، بغية الحفاظ على ما تبقّى من أكيد "الروح" المضيء داخل هذه الحالة، وبغية صون الجوهر المكافح رغم كل أشكال القمع والإرهاب والتنكيل و"التعريب"، الظاهرة والخفية، بهدف توليد هذا الجوهر الروحي ليعمّ ضؤوه في الليل اللبناني و"العربي" البهيم.

وإذا كنتُ قد ذهبتُ بعيداً جداً في دعوتي الى "الموت الرحيم"، فإني ذهبتُ بعيداً جداً وأيضاً، بالقوة نفسها وباليأس نفسه، لكن وبالإيمان نفسه، في تأكيد حضور التمرد على هذا الواقع وفي إعلاء شأن هذا الجوهر الذي هو روح "الحقيقة اللبنانية" وسبب وجودها العميق في هذه المنطقة المحكومة بالليل.

هل تتذكر كلية التربية؟

سأذكّركَ إذا كان ينفع التذكير بأن علاقتي بكَ تعود الى ذكرياتي طالباً متدرجاً لديك وصديقاً دائماً لكَ وقارئاً لشعركَ وفكركَ، يوم كنتُ طالباً في كلية التربية وقائداً متواضعاً من قادة الحركة الطالبية في الجامعة اللبنانية آنذاك. يوم أعدناكَ بقوة "الهامش" الذي ننتمي إليه منذ ذاك الزمن، وبقوة "لاطائفية" لبنان ـ الوعي والهامش والحرية والعلمانية والتنوع الثقافي والرحابة الفكرية...ـ لتعود أستاذاً في ملاك كلية التربية بعدما طُرِدتَ طرداً حقيقياً من الجامعة اللبنانية على أيدي "أهل المتن"، ونُبذتَ منها نبذاً فكرياً وثقافياً وطائفياً فعلياً وحقيقياً على أيدي أصوليي ذاك الزمن، في عشيات الحرب التي تفضّل أيها الشاعر الكبير أن تسميّها الآن "الحرب الأهلية" لتأكيد حصولها بين الأهل اللبنانيين دون غيرهم. وأنتَ كنتَ قد صرتَ، على ما أذكر، من هؤلاء الأهل اللبنانيين بحكم الهوية اللبنانية الثانية التي تحولت أيضاً، رويداً رويداً، بفضل النظام البعثي السوري وجيشه ومخابراته و"علمانيته" و"عروبته" و"مشروعه القومي" و"لاطائفيته" و"ديموقراطيته" و"تعدد الأحزاب" فيه، لتصير هوية عروبوية قوموية مسورنة طاغوتية طائفية توتاليتارية حيث لا محلّ فيها للهامش، أيّ هامش. كمثل جيفة دولتية عربية. ولا جدال.

... ولبنان ميشال أسمر؟

كان ذلك، للتذكير، يوم كان "هذا المكان"، مكان ميشال أسمر و"ندوته اللبنانية"، لا يزال بيروتاً مدنية ومدينية وعاصمة تحلم بأن تتسع للجميع، وتحلم بأن تتسع في المقدمة لكَ ولكثر غيركَ، فتمنحكَ جمهوريتُها العزيزة (القائمة على صيغة 1943 "الطائفية") الجنسيةَ اللبنانية، وذلك قبل أن تتحول تلك البيروت "مأوى" ودكاناً سياسياً ـ اقتصادياً وكنيسة وجامعاً فحسب، على وصفكَ لها حصراً والآن بالذات.

لم تكلّف نفسكَ عناء أن تسجل للتاريخ لماذا (وكيف) "اختارت" (؟!) مدينتكَ اللبنانية هذه أن تنحاز الى هذين الوصف والمصير فحسب. ولم تتجشم عناء أن تذكر بالإسم (فضلاً عن اللبنانيين والبيروتيين أنفسهم، وهذا أكيد)، على أيدي مَن (وبجيوش مَن) "اختارت" بيروت هذا "الاختيار الحر والديموقراطي" لكي تنتهي "إسماً تاريخياً" بحسب ما ذكرتَ في محاضرتكَ!

لم تصف لنا الوقائع التاريخية الفعلية في "الحرب الأهلية" اللبنانية التي جعلت بيروت ـ ولبنان بالطبع ـ تؤول الى هذا المصير وتفقد صفتها المدنية ـ المدينية. لم تسمِّ لنا جميع "الأهل" غير اللبنانيين الذي شاركوا في صناعة هذه "الحرب الأهلية" اللبنانية.

الأهل ... عرباً وإسرائيليين

لم تسمِّ بالطبع "الأهل الإسرائيليين" و"الصهاينة". فهل نسيتَ، أو تناسيتَ، أن الجيش الإسرائيلي اجتاح بيروت في أحد الأيام ودمّرها وعاث فيها فساداً؟ هل سينبري أحدهم ليقول في قرارة نفسه أو بصوت مهمهم: ربما لا مصلحة "موضوعية" لكَ في التشهير بذلك.

لم تسمِّ بالطبع "الأهل البعثيين" في الوحدة والحرية والاشتراكية وفي النظام وفي حزب البعث العظيم وفي الجيش العربي السوري وفي المخابرات. وقد يقول أحدهم وهو يستمع إليكَ وأنتَ تغفل إشهار هذه الحقيقة: ربما لأنكَ لا ترى سبباً "موضوعياً" يدعوكَ الى ذكر مثل هذه الأسباب والوقائع. أو أنكَ لا تتذكر أن هؤلاء صنعوا مع "أهل المتن" من اللبنانيين (لا مع "أهل الهامش" أيها الصديق. أما زلتَ تتذكر الهامش البيروتي واللبناني؟!) لبناناً يشبه الى حدّ صاعق بلاد "الحرب الأهلية" التي وصفتَها أحسن وصف، وامتنعتَ فيها عن وصف جميع "الأهل" السوريين والعرب والصهاينة الذين شاركوا فيها. وأنتَ منهم في "هويتيكَ" السورية واللبنانية... فضلاً عن هويتكَ الثالثة: الهوية العالمية، بما "يجب" أن تنطوي عليه هذه العالمية من "أوصاف إنسانية متسامحة " ينبغي لكَ دائماً أن تحرص على عدم تلوّثها بشبهة "اللاسامية" خشية أن تعرّض بعض طموحاتكَ للارتجاج!

لكنكَ فعلتَ حسناً. فقد قلتَ بعض ما نقوله. وأقلّ منه بكثير (راجع مقالاتنا ومواقفنا وأدبنا). بفارق أننا نقول ذلك تحت خطر الملاحقة والتكفير والتنكيل والتجويع. في حين أن لا خطر يتهددكَ من أحد وخصوصاً من "الأهل اللبنانيين" الذين "صنعوا" وحدهم، في رأيكَ، "الحرب الأهلية". اللهم سوى الخطر المتمثل في أنكَ ربما لم تعد تجد في "لبنان الشاعر" و"لبنان النقدي والثقافي" مسنداً "ناعماً" تسند إليه رأسكَ الأدبي والحسابي والمصلحي جداً.

لكنكَ مع ذلك فعلتَ فعلة جيدة وحسنة. فقد قلتَ أيضاً ما تريد أن تقوله وأن تقوّله (وهذا حقّكَ الى الأبد). وبالفم الملآن. وبدون عاطفة تقريباً. على غرار المخترعين أو المحاضرين من أهل العلم. أو على غرار أولئك الرابطي الجأش الذين يصدرون أحكام الإعدام. ولا فرق في هذه الحال، أكانت أحكام إعدام أدبية شعرية أم فنية أم معمارية أم هندسية أم ثقافية أم وطنية أم مدنية، أم دولتية، أم طائفية أم عسكرية وأمنية.

ترى، ألا يذكّّر مضمون محاضرتكَ وأحكامها المطلقة، بنموذج الخطاب الديكتاتوري في أرجاء هذا "الوطن" العربي البهيم؟!

لماذا؟

بصرف النظر عن مقولة "المدينة الميتة" وعن "طائفية" بيروت وأهلها "البشر الموتى"، وعن المدينة ــ الكنيسة والجامع والدكان، وهي الأوصاف التي أحببتَ أن تختصر بها بيروت، ترى ألم تعد تعثر أيها الشاعر والصديق أدونيس، اليوم، على بقايا رماد يذكّركَ بذلك "الفينيق" الذي لطالما تحدثتَ عنه ،عن رماده؟

ترى، لماذا لم تعد ترى في بيروت وشعرائها ومثقفيها وأهلها سوى الكنيسة والجامع والدكان؟

أيكون ذلك سببه أن هؤلاء لم يعودوا "غابة أصداء" مثلما وصفتَ الشعراء الذي جاؤوا من بعدكَ؟

ترى، أيكون ذلك سببه أن بيروت لم تعد "تتداولكَ" في "شعرها" و"قيمها" و"أحكامها" و"أخطائها" النقدية؟

ترى، ألم تعد تعثر في بيروت على تلاميذ ومريدين ومتحلقين حولكَ؟

كنا نودّ فقط أن تقول لجمهور المستمعين إليكَ في "مسرح المدينة" ما هي الحجج التي تتسلح بها لكي تسمح لنصكَ أن تهيمن عليه الأوصاف والأحكام والاستنتاجات المطلقة والمدمِّرة التي لا يستطيع إستخلاص مثلها إلاّ ثلاثة: أهل الحقائق العلمية أو الآلهة أو المنتمون الى الديكتاتوريات التوتاليتارية؟ وكيف تعطي نفسكَ الحق، وأنتَ الأستاذ الجامعي منذ قديم الزمان وحامل شهادات جامعية عليا، أن تخاطر بسمعتكَ العالمية كمحاضر مقنع ومنطقي وكمثقف ديموقراطي وغير إلغائي، فتطلق مثل هذه الأوصاف ومنها ما يلغي شعباً برمته ومكاناً برمته، فتصف الشعب بأنهم "بشر موتى" والمكان بأنه "مدينة ميتة"؟

لقد أحسنتَ صنعاً عندما تحدثتَ عن الطائفية اللبنانية. نحن أيضاً، ـ لكن باستمرار وعلى الدوام وبدون تغيير جلودنا وفق الحاجات والظروف الموضوعية ـ نفضح هذه الطائفية منذ أوائل حياتنا الجامعية وبعناد خطير وبفروسية مغامرة وبدون أن نكون مسلحين بأي "عباءة" واقية، دينية كانت أم اجتماعية أم سياسية أم إقليمية (ومن الجهتين "المتعاديتين") أم عالمية. وقد كنا نفعل ذلك منذ الجامعة ـ وأنتَ تتذكر هذا بالتأكيد ـ وقد فعلنا ذلك خلال "الحرب الأهلية" كلها وبدون هوادة وأياً تكن الأخطار الناجمة عن هذا الموقف، ثم فعلنا ذلك منذ ألقت الحرب سلاحها الطائفي واستبدلته بسلاح "الطائف" الملبنن الذي بُلِّع للبنانيين (نسبة الى اتفاق الطائف السوري ـ العربي ـ الأميركي)، ولا نزال نفعل ذلك في الحياة اليومية ومن على صفحات هذا المنبر الذي لا يزال يشكل منارةً متواضعة من المنارات النادرة في بيروت التي تصف أهلها بأنهم "بشر موتى" ـ ونحن منهم ـ وبأنها "مدينة ميتة" وبأن فضاءها "مكان مقدس لا بوصفه متحداً وطنياً واحداً، بل بوصفه متحدات طائفية" وبأن أهلها لا يقيمون فيها "بوصفها مدينة. إنهم يتحركون على أرضها، غير أنهم يقيمون، عمقياً، في الكنيسة وفي الجامع، وفي مكان آخر هو الدكان السياسي ـ الاقتصادي. لهذا يبدو الزمن في بيروت كأنه، حصراً، زمن هذه الأمكنة الثلاثة، لا زمن ثقافة مدينية. كأن بيروت، في ذلك، تعيش خارج الزمن الإنساني الخلاّق، زمن الحضارة...".

أخي الحبيب أدونيس،

عود على بدء، ربما كان الكثيرون يتوقعون منكَ أن تبدأ محاضرتكَ بتوجيه تحية "مجاملة" الى الذين عملتَ معهم في الأدب والنشر والمجلات، ووقفوا الى جانبكَ وروّجوا لكَ وحملوكَ على أقلامهم. تحية "مجاملة" ربما كانت كافية، كـ"اعتراف" منكَ بـ"وجودهم" على الأقل.

لكنكَ لم تفعل. وهذا شأنكَ. أما شأننا نحن فإننا سنظلّ أوفياء لكَ وسنظلّ نحبّكَ ونستقبلكَ أكثرَ مما تحبّنا وتستقبلنا. لكن، ربما لم نعد نعرف هل تحبّنا حقاً.

حتى أنتَ يا بروتوس

لقد أحببتَ نفسكَ هذه المرة أكثر من اللزوم وتوهمتَ أن الفكر التبسيطي، فكركَ، يستطيع أن يشطح بكَ الى هذه الحدود القصية من الغلط والإغفال والتعميم والفاشية. لقد أعمتكَ نرجسيتكَ عن رؤية بعض الحقائق. فكان لا بدّ من أن أريكَها وأن أقول لكَ: حتى أنتَ يا بروتوس!

لم تبالغ فحسب في "قتل" بيروت الآن، بل بالغتَ أيضاً وخصوصاً في تسخيف دورها "التاريخي" الكبير في الستينات.

لكن حذار. فقد يذهب سيىء الظن الى حد طرح السؤال الآتي: إذا كانت بيروت مجرد إسم تاريخي، أيكون أدونيس هو أيضاً صار مجرد إسم تاريخي فيها و... في غيرها؟!

وما دمتُ أذكّركَ بتاريخ بيروت، ربما كان ينبغي لكَ أن "تصحح" بعض ما جاء في الكتاب الصادر تحيةً لكَ لدى معهد العالم العربي في باريس عام ،2000 وخصوصاً سكوتكَ وتغاضيكَ عن "تزوير" بعض الحقائق فيه: كأن يقال في الكتاب إنكَ أنتَ الذي أسستَ مجلة "شعر"... و"معكَ" يوسف الخال! وكأن "يسقط سهواً" في الكتاب نفسه أسماء كل الذين كانوا "شركاء فعليين" لا إسميين في صناعة المجلات والمنشورات التي أصدرتَها أو أشرفتَ عليها.

أعود الى بيروت ولبنان واللبنانيين.

فقد كنتَ في أوصاف محاضرتكَ أسوأ من إله التوراة حيالهم. فهذا الإله كان أكثر رأفةً منكَ حين طلب الى نوح أن ينقذ الحياة البشرية والحيوانية وأن يختار من كل نوع زوجين كي يحافظ على الجنس. أما أنتَ، في "انتقامكَ التوراتي" هذا، فلم تجد نوحاً واحداً ولا عصفوراً ولا امرأة ولا وردة ولا بحراً ولا سفينة في بيروت. ولا حتى... قصيدة واحدة!ا

... وهذا شأنكَ بالطبع. لكني لن أتيح لكَ في كلامي هذا أن تكون ضحيةً.

لا. لن تعطيكَ بيروت ــ الهامش أن تكون شهيداً فيها. فقد "تكرّمتَ" عليها ببراهين "القاتل". القاتل فحسب.

يد القاتل

للختام، ولا ختام في هذا الشأن، أستلّ منكَ أيها الشاعر الكبير كلامكَ الآتي: "... إنه عصر بيروت، كما خُيِّل إليّ. لكن، منذ أن أخذت بيروت ــ الواقعُ والفعلُ تضع يدها على كتف العصر، لم تبقَ يدٌ إلاّ تقدمتْ لكي تقطعها" أدونيس، في الإسمبلي هول، 16 كانون الأول 1992.

هل تتذكر كلامكَ هذا؟! أم أنكَ ستتنكر له؟!

أمس، عجباً، في "مسرح المدينة"، انضممتَ الى الجلاّدين أيها الشاعر. فقد مددتَ ـ يا لهول ما فعلتَ ـ لقد مددتَ يدكَ "الشعرية" لتقطع يد بيروت الموضوعة على كتف العصر.

فبيدكَ هذه أقبض عليكَ بالجرم المشهود. ومن فمكَ أدينكَ يا أدونيس.

و... من فمي سأظلّ أغفر لكَ.