الحياة الثقافية في الأندلس

 

اسهم بيت الحكمة البغدادي في رفد الحركة الثقافية في الاندلس ودعمها وتشجيعها وتزويدها بالعلماء والعلوم والمؤلفات وحثها على الترجمة والتأليف، بفضل الروابط والاتصالات الثقافية بين الحاضرتين بغداد وقرطبة، اذ تتلمذ عدد كبير من طلبة الاندلس في مدارس بغداد والكوفة وواسط والبصرة وغيرها من المدن العراقية . ويعود الفضل الكبير في نقل الحضارة العراقية الى الاندلس للامير عبد الرحمن الثاني (الاوسط) وحكم الاعوام 206-238 هـ  وعاصر انشاء بيت الحكمة في عهد الخليفة العباسي المامون 198 – 218 هـ ، ويؤكد المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال بان الامير هو الذي اعطى مملكة قرطبة النظام العباسي . فاهتم الامير بارسال وزيره القاضي عباس بن ناصح الجزيري الى العراق للحصول على الكتب القديمة ، فاتاه للاندلس بكتاب ( السندهند ) وهو اقدم الكتب التي ترجمت الى العربية في الحساب والاعداد الهندسية .

كما ان النظام القرطبي يقتفي اثر النظام العباسي في الثقافة ، وتكوين بلاط الامير كان يدل على تقليده لخلفاء بغداد .

ويؤكد المؤرخ الاندلسي احمد الرازي أن أهل الاندلس كانوا يستقبلون باعجاب او في الاقل باحترام كل مكان ياتي من بغداد ، ونتيجة الحوادث السياسية في بغداد دخلت الى الاندلس الكتب الفريدة والجواهر الثمينة كعقد الثعبان للاميرة زبيدة والاقمشة الغالية ، وقد خاطر كبار التجار لايصال النفائس والنوادر الى قرطبة لثرائها ، وولع امراؤها بالمجوهرات والمصنفات ، ويؤكد لنا ذلك حضور الفنان العراقي زرياب من بلاط الخليفة هارون الرشيد الى بلاط قرطبة في عصر الامير عبد الرحمن الثاني ونقل معه معالم حضارة عراقية في الفن و الادب وتقاليد اجتماعية واذواق حضارية اسهمت في نقلة حضارية سريعة في الاندلس .

اصبح المسجد الجامع في قرطبة الذي يحتوي في اروقته من الفن المعماري العراقي يزين جدرانه وسقوفه الخط الكوفي، اكبر اكاديمية في العالم تنافس بيت الحكمة البغدادي، و تخرجت فيه كوادر علمية خدمت الثقافة العربية الاسلامية .

يروي ابن حزم القرطبي في حكاية عابرة ان علماء قرطبة واصلوا جهود علماء ( بيت الحكمة ) ، وقد تشوق ابن حزم لزيارة بغداد فوصفها في قوله ( بغداد حاضرة الدنيا و معدن كل فضيلة و المحلة التي سبق اهلها الى حمل الوّية المعارف والتدقيق في تصريف العلوم..) ، اكد المستشرق الاسباني اميليو كاريثه كومث في مقالته عن بغداد بالاسبانية ما كان للحضارة البغدادية من نفوذ طاغ على مدن اسبانيا التي لم تكن الا صورا للمدينة المشرقية .

كما اظهر المستشرق الاسباني اسين بلاثيوس تاثر الفكر الفلسفي الاندلسي بالثقافة العراقية و غيرها .

وكان لوصول ابي علي البغدادي القالي ومؤلفاته العديدة الى الاندلس في عصر الخلافة ، و قدوم الاديب صاعد البغدادي صاحب كتاب ( الفصوص ) دليل على اسهامات بيت الحكمة في النهضة في بلاد الاندلس .

ظهرت تطورات حضارية في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله بفضل حرصه واهتمامه بالحركة الثقافية ،إذ حصل على كتاب ( الاغاني ) لابي الفرج الاصبهاني بمبلغ الف دينار قبل ظهوره من اسواق بغداد ، كما بنى مكتبة خاصة بالقصر كانت تحتوي على 400 الف مجلد للفهارس وتحتوي على امهات المصادر في مختلف العلوم ، وظهرت طبقة من الاطباء المرموقين امثال الزهراوي اكبر جراح في العالم آنذاك، وتتلمذ عدد من الاطباء في بغداد منهم ابناء يونس بن احمد الحراني ، وهما احمد واخوه عمر ، وعملا مذخرا لصناعة الادوية في قرطبة على غرار ما شاهدوه في بغداد و البصرة ، وذلك في مدينة الزهراء .

اعجب الرحالة ابن حوقل البغدادي وكتابه ( صورة الارض ) بما شاهده من حضارة متطورة في قرطبة التي يسميها بغداد الثانية، كما زار الرحالة الاندلسي ابن جبير البلنسي (ت 614 هـ ) بغداد و اعجب بمعالمها الحضارية ، وزار بغداد ايضا عدد كبير من العلماء والادباء و الفقهاء منهم الحميدي الميورقي، وابو الوليد الباجي ، وابو علي الصدفي ، والطرطوشي ( ابي رندقة ) ، وابن سعيد المغربي ، وابو بكر بن العربي الاشبيلي وغيرهم .

وظهرت من الاندلس عوائل علمية كما هو الحال في بغداد ، واختصت بالعلوم والاداب منهم:

بنو عاصم الثقفي ، وبنو شريف الحسني واصلهم من سبتة واستقروا في غرناطة ، وبنو مخلد في قرطبة ، وبنو عاصم في غرناطة ، وبنو سماك في مالقة وغرناطة ، وبنو عطية في غرناطة ، والتقى علماء الاندلس وفهاؤها وادباؤها باساتذة و معلمي

( بيت الحكمة ) وطلبته واخذوا عنهم و تتلمذوا عليهم وعادوا الى الاندلس و هم يحملون الثقافة البغدادية و المؤلفات و التقاليد .

وتاثر حاكم قشتالة وليون الملك الاسباني الفونسو العاشرAlfonso العالم بالثقافة المشرقية و اسس مدرسة للترجمة في طليطلة بعد سقوطها عام 478هـ على يد ملك قشتالة الفونسو السادس، وذلك على غرار اسلوب ( بيت الحكمة ) برنامجها اذ اصبحت طليطلة تنافس بغداد في حركة الترجمة، واستمرت زهاء قرن كامل، كما ظهرت طبقة من المترجمين وترجمت مؤلفات العرب في الطب والفلك والنجوم والرياضيات والفلسفة ومن المترجمين الاسقف ريموند، ويوحنا الاشبيلي، والشماس ماركوس الذي ترجم معاني القرآن الكريم، وهرمانوس المانوسي وترجم شروح ابن رشد على ارسطو، كما زار طليطلة مترجمون كثيرون منهم برونيتولابين اوفده ملك روما، وجيرار الكريموني الايطالي الذي ترجم رسالة الصبيان للرانزي، كما ترجمت رسائل اخوان الصفا في الجغرافية والفلسفة و كتاب ( التصريف ) للزهراوي . وترجم اكثر من 70 مؤلفا عربيا في الاندلس، كما وصل غروستست من اكسفورد بانكلترا .

شغف الملك الفونسو العاشر بالثقافة العربية وولع بالفن والادب والترجمة ودون موسوعة كبيرة تحتوي على لوحات مصورة من التراث العربي احتوت على 427 لوحة منها (51) لوحة عن المسلمين وتراثهم، يلاحظ على بعض اللوحات التاثر العراقي من رسوم للفنان الواسطي ولوحات من مقامات الحريري ومعالم الحياة المشرقية ومجالسها الادبية، ويبدو ان الرسامين كانوا من المشرق والاندلس .

ومن المترجمين من العربية الى اللاتينية ناثان المئوي وسليمان بن يوسف وجيوفاني دي كابوا ، وترجم اصطفيان ( الاقربازين ) لابن الجزار، كما ترجم ارمنجو ارجوزة ابن سينا وشروحها لابن رشد القرطبي وترجم ادلر الباثي الانكليزي فهارس المجريطي في الفلك والرياضيات ، كما ترجم الراهب الاسباني سرفيتوس نظريات ابن النفيس في الدورة الدموية، وترجم ابن عزرا اليهودي من العربية الى العبرية مؤلفات البيروني . واشتغلت اسرة طبون في ترجمة العربية الى العبرية اعجابا بالتراث العربي الاسلامي واهتماما واستفادة منه لخدمة البشرية.