صفات المجتمع الأندلسي في القرن الخامس

 

 

أسرف ملوك الطوائف في الترف، وتفننوا في صنوف من البذخ، فهذا المعتمد بن عباد ملك إشبيلية يرى زوجته "اعتماد" وهي تطل من شرفات القصر ترقب سقوط الثلج فأجهشت بالبكاء، فسألها المعتمد عن حالها فأخبرته بأنها تحنّ إلى منظر سقوط الثلج، وتريد أن تسافر إلى بلد يكثر فيه سقوط الثلج لتمتع ناظرها بجمال الطبيعة الفاتنة، فطمأنها المعتمد بأنها سترى هذا المنظر في الشتاء القادم في ذلك المكان نفسه. وأصدر أمره في الحال أن تغرس أشجار اللّوز في حدائق القصر حتى إذا أزهرت في فصل الشتاء بدت زهراتها البيضاء في عين "اعتماد" كقطع الثلج تجلّل أغصان الأشجار.

ورأت نسوة من العامّة يعجن الطين لصنع اللّبن، فأثر فيها المنظر وبكت، فلما رآها المعتمد باكية سألها عن السبب، فأخبرته بأنها مقيّدة الحريّة لا تستطيع أن تفعل فعل هؤلاء النسوة، فأمر في الحال بإحضار مقدار كبير من المسك والعنبر وبعض الأعطار فعُجن كل ذلك إلى أن أصبح عجينة في حجم تلك التي كانت تعجنها النسوة، فنزلت "اعتماد" إلى مساحة القصر هي وجواريها، وخلعن نعالهن وصرن يعجن بأقدامهن ذلك الطين المصنوع من المسك. وطابت نفس "اعتماد" بذلك!

وكان المعتمد ينفق على الشعراء بدون حساب حتى إنه ليخلع على الشاعر منهم خلعاً لا تصلح إلاّ للخلفاء. ومضى المعتمد وكثير من ملوك الطوائف في حياة الترف والمرح، لا ينفقون في مهام الدولة إلاّ القليل من وقتهم، وقد كانت الولائم الكثيرة ومجالسة الشعراء وعقد مجالس الشرب، واللهو مع القيان والجواري تستنفد كثيراً من أموالهم ووقتهم.

وكانوا يبنون القصور، وينفقون في هندستها أموالاً باهظة في سبيل تحقيق متعهم; فهذا المأمون بن ذي النون ملك طليطلة يشيّد قصراً عظيماً أنفق عليه الأموال الطائلة ووضع في وسطه بحيرة، "وصنع في وسط البحيرة قبة من زجاج ملوّن منقوش بالذّهب، وجلب الماء على رأس القبة بتدبير أحكمه المهندسون، فكان الماء ينزل من أعلى القبة على جوانبها محيطاً بها ويتّصل بعضه ببعض، فكانت قبة الزجاج في غلالة مما سكب خلف الزجاج لا يفتر من الجري، والمأمون قاعد فيها لا يمسّه من الماء شيءٌ ولا يصله، وتوقد فيها الشموع فيرى لذلك منظر بديع عجيب".

وقد كان كل ملك من هؤلاء الملوك يحاول أن يجعل من مملكته ملتقى للشعراء والأدباء والمغنّين، ونشطت بذلك تجارة الرقيق، واجتهد النخّاسون في تعليم الجواري الرّوميات الغناء، وضروباً أخرى من الثقافة لترتفع أجورهنّ. وكثر الطلب على الجواري المغنيات فقد دفع هذيل بن رزين صاحب السهلة في جارية ابن الكتاني ثلاثة آلاف دينار. وكثر المغنون في بلاطات الملوك، وكان في قصورهم أسراب منهم، حتى إن المعتمد بن عباد كان يصحب الموسيقيين معه أثناء حملاته الحربيّة.

ولم يقتصر شيوع الغناء على بلاطات الملوك فقط، بل شاع في أوساط العامّة، فها هي بلنسيّة "لا تكاد تجد فيها من يستطيع على شيء من دنياه إلاّ وقد اتخذ عند نفسه مغنّية وأكثر من ذلك، وإنما يتفاخر أهلها بكثرة الأغاني".

وكانت مجالس الغناء لا تخلو من الشراب،وكانوا لا يستطيعون الجهر بذلك في عهد الأمويين، أما في عهد ملوك الطوائف فقد أصبح الخمر شائعاً في مجالسهم لضعف الوازع الديني، وبذلك استسلم المجتمع للشهوات فزاد ضعفاً.

ولجأ الملوك من أجل إرضاء نزواتهم وتحقيق لذاتهم إلى إثقال كاهل رعاياهم بالضرائب، فهذا مظفر ومبارك العامريان حاكماً بلنسية قد انغمسا في النعيم إلى قمة رأسيهما، وذلك على حساب الرعيّة فقد كانا " يستزيدان عليها في الوظائف الثقال... حتى غدا كثير منهم يلبسون الجلود والحصر ويأكلون البقول والحشيش وفّر كثير منهم من قراهم".

وفرضت في عهد الطوائف أنواع من الجباية على الرعيّة، وفرضت المغارم على الأهالي، حتى الحجاج لم ينج من دفع مغارم في موسم الحج، إلى أن أبطل ذلك يوسف بن تاشفين بعد دخوله الأندلس وقضائه على ملوك الطوائف.

وقد كان موظفو الدولة ممن يتولّون شؤون الرعيّة لا يراعون الشرع ولا همّ لهم إلاّ أن يزدادوا ثروة وخاصة أولئك الذين أُوكلوا بجمع الضرائب ومراقبة الناس، فابن عبدون يصف أعوان صاحب المدينة بأنهم شر الناس ولا يجب أن يصدّق كلامهم إلاّ إذا شهد على ذلك الجيران "لأن الشر أحب إليهم من الخير، فمنه يأكلون ويلبسون السحت، ومنه يعيشون،وليس للخير إليهم طريق، يجب ألا يخرج منهم في رسالة في المدينة أكثر من واحد لئلا يكثر الجعل والهرج والأذى".

وفي ظل هذا الحكم اضطرب المجتمع الأندلسي، وانتكست مثله، واشتد الغلاء وانتشرت الأوبئة وعمت الكوارث، فقد كانت رحى الحروب تعصف بالرعيّة، وانعدم الاستقرار والأمن وفسدت أخلاق الناس، واستبيحت المحرّمات، وهتكت الأستار، ونقضت شرائع الدّين، وفسدت نفوس الحكّام والمحكومين حتى إنه لم يعد يعلم في الأندلس درهماً أو ديناراً حلالاً.

وقد حاول المرابطون بعد دخلوهم الأندلس بقيادة يوسف بن تاشفين سنة 495 هـ، وقضائهم على ملوك الطوائف، أن يوفروا الحياة الهادئة للمجتمع الأندلسي، ويحاربوا كثيراً من مظاهر التفكك والانحلال الاجتماعي.