موزاييك .... الأندلس الملهمة

يبقى موشح لسان الدين بن الخطيب باقيا ما بقي اسم الأندلس، يعزف على مر الزمان:

يازمان الوصل بالأندلـس جادك الغيث إذا الغيث همى
في الكرى أو خلسة المختلس لم يكن وصلك إلا حلماً

أما قصيدة ابن زيدون ونونية الصد التي عاتب فيها عشقه وحبه الأوحد ولادة بنت المستكفي فقد حفظّونا إياها ونحن على مقاعد الدراسة مع مبادئ القراءة وظلت قصيدة “أضحى التنائي بديلا عن تدانينا” في قلوبنا، كبرت معنا وحملنا لشاعرها مشاعر التعاطف ونادينا على البعد محبوبته، نرجوها أن تعطف عليه وترحمه وتعود إليه، رغم انه غاب وغابت معه.

وظلت الأندلس مملكة السلام والجمال والتسامح ومجد الرجال الكبار الذين أسسوا أعظم حضارة عرفها الغرب، منحته الفكر والعلوم وأخرجته من ظلمات القرون الوسطى، ملهمة، تسحر كل من أقبل عليها أو سمع بها، وفي كل العصور. فقرطبة زارها مثلا كبار الأدباء الغربيين أمثال شاتوبريان الذي ألف حولها قصته “آخر بني السراج” وفيكتور هيغو الذي سطّر من وحيها “شرقياته” الشهيرة، وواشنطن ارفنغ الذي كتب “قصص الحمراء”، وامنوال فرناندز جونزالت الذي سمى كتابه “الله اكبر”.

المخطوط القرمزي

وفي العصر الحالي فإن رواية انطونيو جالا “المخطوط القرمزي” تعد واحدة من أهم الأعمال الأدبية التي تشد القارئ وتسكنه ولا يمكنه أن ينساها، فيها يؤرخ الكاتب الإسباني العاشق للأندلس وللشرق، صورة ذلك المجد وتاريخ تلك الحضارة، ويحاول فيها الدفاع عن أبي عبدالله الصغير، فالرواية كلها تقوم على حكاية هذا البطل الذي يكتب يومياته في مخطوط قرمزي قديم مدفون عثر عليه في فاس، مكان الهجرة الذي استقر ومات فيه آخر ملوك الأندلس، وهذا الورق القرمزي الذي كتب عليه ابوعبدالله الصغير يومياته، كان من بين أشياء قليلة حملها معه من دولته، ودفنت معه. يحاول الكاتب أو الملك الذي يتحدث في العمل أن يقدم نفسه للقارئ يشرح الظروف التي أحاطت به، ويعلل نهاية بلده وملكه انه كان ضحية تراكمات وانهزاميات وصراعات وخيانات. ورواية “المخطوط القرمزي” التي طبعت أكثر من عشرين مرة وبلغات عدة وزاد توزيعها على المليون نسخة، حصلت على جائزة “بلانيتا” في بداية التسعينات وتعد هذه أهم جوائز الرواية في إسبانيا.

وإسبانيا اليوم رغم أنها دفنت هذه الحضارة العظيمة، وخلت هويتها وثقافتها الرسمية إلا من قشور، تعيش متكسبة من أمجاد الأندلس وآثارها وتحفها الخالدة، ولا تحاول أن ترتبط معها بأكثر من ذلك، إلا أن جينة تلك الحضارة وأولئك العظماء لايزال لها أثر في أحفادهم، رغم انهم نصّروا ومسحوا التاريخ، وفكوا رباطهم بدين الإسلام وأمة العرب، هذه الجينة عادت للوجود، وعاد هؤلاء الأحفاد يبحثون عن الجذور ويفتشون في عظمة حضارة أجدادهم، واهتدوا من جديد إلى الإسلام، هذا ما ذكره تقرير غربي نشر قبل فترة يقول إن ظاهرة اعتناق الإسلام ازدادت فيها مؤخرا بشكل ملحوظ خاصة بمدينة غرناطة جنوب إسبانيا التي كانت آخر معقل للمسلمين قبل سقوطها في يد الملوك الكاثوليك.

ويذكر التقرير وحسب إحصاء أجري قبل عام أن هناك نحوا من عشرين ألف أمريكي وأوروبي ممن اعتنقوا الإسلام يعيشون في أسبانيا حاليا ويهدف هؤلاء الأشخاص إلى إعادة تقييم ماضي المسلمين في البلاد وإعادة صياغة هوية أسبانيا وإدخال التأثيرات الإسلامية التي رفضت باعتبارها هرطقة منذ قرون.

وقبل عام أو عامين وبعد أكثر من 512 سنة يعود الأذان ليسمع من جديد في بلاد كان اسمها الأندلس، بافتتاح جامع غرناطة، والذي حضره صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، وصلى فيه مع حشد من وزراء وسفراء وعلماء الدين من مختلف دول العالم الإسلامي، كانت لحظة مؤثرة التي بني فيها الجامع ورفع الأذان ورغم أن المتشددين الأسبان عرقلوا لسنوات طويلة إنشاء هذا الجامع، إلا انه بني وأنجز في النهاية. وهكذا يبخلون ويستكثرون على بلاد كانت كلها مآذن ومساجد، نشرت شمس المعرفة، وبنت هذا التراث الخالد وهذا التاريخ والحضارة العظيمة، أن يقام فيها مسجد يرفع فيه اسم الله لأنهم يخشون من عودة ذلك التاريخ!