لم يكن سقوط غرناطة في يد النصارى حادثًا فجائيًا بل جاء حصاد سنوات من الكيد الصليبي المنظم والغفلة والتخاذل من جانب حكام المسلمين في الأندلس، وكان سقوط غرناطة معناه سقوط دولة الإسلام في الأندلس الأمر الذي أسعد كل صليبي في مشارق الأرض ومغاربها، وأحزن كل المسلمين خاصة أهل المغرب ومصر التي حاولت التدخل، ولكن دون جدوى خاصة لاضطراب شئونها الداخلية، وهكذا كان الصدى الأليم الذي أثارته حوادث الأندلس في الأمم الإسلامية ولكنه بدأ يخبوا شيئًا ولم تمض أعوام قلائل حتى أسدل على تلك الفاجعة حجاب من النسيان ذلك رغم أن المأساة الأندلسية لم تذقه بسقوط غرناطة بل كان عليها أن تجوز فصولاً أخرى أشد فجيعة على كل مسلم قبل أن تصل إلى نهايتها وصفحتنا هذه هي أول فصول الخاتمة المأساوية لما بعد السقوط .كان الملك المنكود أبو عبد الله محمد بن علي هو آخر ملوك الأندلس وقد غادر غرناطة ساعة استيلاء النصارى عليها وسار مع آله وصحبه وحشمه إلى منطقة البشرات واستقر هناك في بلدة أندرش وهي إحدى البلاد التي أقطعت له في تلك المنطقة ليقيم فيها في ظل ملك قشتالة الصليبي، وذلك بناءًا على معاهدة التسليم الشهيرة، وكان وقتها أبو عبد الله في الثلاثين من عمره فعاش في مملكته الصغيرة الذليلة فترة من الدهر في لهو وترف كانا أصلاً السبب في مأساة الأندلس.وعلى الطرف الآخر كان ملك قشتالة الصليبي فرناندو وزوجته الصليبية إيزابيلا بالرغم من انتصارهما الشامل ونيلهما شرف إزالة دولة الإسلام من الأندلس إلا أنهما كانا يتوجسان في أعماق نفسيهما خيفة من بقاء السلطان المخلوع أبي عبد الله في الأراضي الأندلسية، وأنه من الممكن أن يجتمع المسلمون عليه مرة أخرى ويكون بذلك بؤرة للقلاقل والاضطرابات عليهما، لذلك فكانا يفرضان عليه رقابة صارمة ويتلقيا أدق التقارير والأنباء عن حركاته وسكناته ودسا عليه رجلين مسلمين يفترض فيهما الولاء لأبي عبد الله وليس للصليبيين، وهما وزيرا أبي عبد الله [أبي كماشة وابن عبد الملك]، وبعد مرور عام واحد فقط على إقامة السلطان أبي عبد الله في أندرش حتى بدأ الملكان الصليبيان في تنفيذ خطتهما في طرد أبي عبد الله من الأندلس.بدأت المفاوضات سرًا بين وزير الملك الصليبي ووزير السلطان المخلوع ولم يكن أبو عبد الله يعلم شيئًا عن هذه المفاوضات ولم يأذن لهما فيها حتى تم الاتفاق على كل بنود الطرد المهين وبموجبه يتنازل أبو عبد الله عن كل أملاكه وحقوقه نظير مبلغ معين من المال، ولما علم أبو عبد الله بالأمر كاد أن يبطش بوزيره ولكن الوزير الذكي استطاع أن يقنع أبا عبد الله بأن البقاء في أرض العدو في ظل العبودية والهوان لا يليق به، وليس مكفول السلامة والأمان، وأن العبور لأرض الإسلام خير وأبقى، فاقتنع أبو عبد الله بالأمر ولكنه طلب مقابلاً من المال أكثر مما عرض عليه ودارت مساومات ومفاوضات حتى استقر الأمر على أن يخرج أبو عبد الله من الأندلس نهائيًا ويتنازل عن كل أملاكه بالأندلس نظير واحد وعشرين ألف جنيه هبي.وبالفعل تم عقد الطرد المهين لآخر ملوك المسلمين في 23 رمضان 898 هـ وقد كتب أبو عبد الله موافقته على الطرد وهذا هو نص الموافقة التي تدل ألفاظها ومعانيها على مدى الهوان والذل التي وصل لها حال سلطان المسلمين، ويكشف عن السبب الحقيقي لسقوط الأندلس وفيه (( الحمد لله إلى السلطان والسلطانة أضيافي أنا الأمير محمد بن على بن نصر [خديمكم] وصلتني من مقامكم العلي العقد وفيه جميع الفصول الذي عقدها عني وبكم التقديم من خديمي القائد أبي القاسم المليخ ووصلت بخط يدكم الكريمة عليها وبطابعكم العزيز وأني أحلف أني رضيت بها بكلام الوفا مثل خديم جيد وترى هذا خط يدي وطابعي أرقيته عليها لتظهر صحة قولي )) ولقد فرح الصليبيون بهذه الوثيقة لدرجة أنها أصبحت تراثًا قوميًا يورث عندهم وما زالت موجودة في متحف مدريد الحربي بصورة مكبرة يراها زوار المتحف كمفخرة من مفاخر الصليبين على أهل الإسلام.